ترجمة وتحرير: نون بوست
يتدافع المحققون في جرائم الحرب ونشطاء المجتمع المدني السوري وأعضاء المنظمات الحقوقية للحفاظ على الأدلة على جرائم نظام الأسد بعد أن تم نهب المواقع الرئيسية في أعقاب الفوضى التي تزامنت مع انتصار الثوار هذا الشهر.
كشف تفكك قوات الأمن التابعة للنظام عن عشرات المقابر الجماعية التي تتناثر فيها الجثث المجهولة الهوية، مما دفع أفراد عائلات المفقودين في عهد الرئيس المخلوع بشار الأسد إلى البحث في هذه المواقع المروعة في محاولة لمعرفة مصير أحبائهم.
تتناثر أيضًا ملايين الوثائق المبعثرة في مباني النظام السابق، والتي توضح بالتفصيل كيف أرهب النظام السابق شعبه، وهي مجموعة ضخمة من السجلات البيروقراطية التي وثّقت العنف المروع وحددت المسؤولية الفردية والجماعية عن بعض أسوأ الجرائم في التاريخ الحديث.
يشمل ذلك ملفات عن آلاف الوفيات في سجون النظام؛ وأدلة على احتجاز أطفال؛ واعترافات موقعة على ارتكاب “جرائم” من قبيل تحميل ألعاب فيديو. كما تؤكد الوثائق على الاستخدام المنهجي للتعذيب وإخفاء وفاة المعتقلين عن عائلاتهم، مع أدلة على انتشار الانتهاكات الجنسية على نطاق واسع، وهو ما يتطابق مع شهادات عدد من الناجين.
عندما أُطيح بالأسد قبل أكثر من أسبوعين، تفككت أجهزته الأمنية تاركةً ما يقرب من 1000 فرع للمخابرات ومرافق احتجاز ومستشفيات ومشارح ومقابر جماعية دون رقابة.
تدفق الآلاف من السوريين إلى تلك المنشآت ليلة سقوط النظام، أملا في العثور على أفراد عائلاتهم من خلال البحث في الأدلة وغرف الاستجواب وزنازين الاحتجاز والمكاتب الأمنية، قبل أن يعمل مقاتلو المعارضة على فرض النظام، ويتبعهم نشطاء المجتمع المدني وأعضاء المنظمات الحقوقية والمحققون في جرائم الحرب والصحفيون، بالإضافة إلى ضباط النظام السابق الذين حاولوا على ما يبدو إخفاء الأدلة.
تحتوي تلك الوثائق على حقائق وأدلة عما حدث لضحايا الأسد، وأصبحت الآن في خطر.
تمكنت صحيفة “فاينانشيال تايمز” من الوصول إلى أكثر من 12 منشأة في جميع أنحاء دمشق، بما في ذلك فروع المخابرات، ومراكز احتجاز تشبه الزنازين، وسجون ومستشفيات عسكرية.
خرج العديد من الأشخاص من تلك المباني ومعهم وثائق وأقراص صلبة، بينهم أفراد عائلات المفقودين وصحفيون وخليط من النشطاء والمحامين السوريين، بعضهم سلّم المواد إلى السلطات المؤقتة، وبعضهم أخفوها قائلين إنهم لا يثقون في الحكومة القادمة التي تقودها “هيئة تحرير الشام”.
بحث الجميع في أكوام من الأوراق المبعثرة، وقلّب البعض في الخزائن التي تحتوي على ملفات قضايا المعتقلين والتقارير الطبية والبرقيات ووثائق هوية المساجين الذين أعدمهم النظام على عجل.
أُضرمت النيران في بعض المباني؛ حيث قال قائد عسكري كبير في هيئة تحرير الشام إن معلوماتهم الاستخباراتية أظهرت أن هناك أوامر من الموالين للأسد بحرق المنشآت، وعثرت صحيفة “فاينانشال تايمز” على العديد من بطاقات الهوية التابعة للجيش وسجلات موظفي الفروع شبه محترقة في النفايات.
وقال الخبراء إن هذه الفوضى يمكن أن تعرض الملاحقات القضائية لأركان نظام الأسد للخطر، وتزيد من صعوبة تعقب المفقودين. وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، اختفى حوالي 100 ألف سوري خلال الحرب الأهلية التي استمرت 13 عامًا.
وقال ويليام وايلي، المدير التنفيذي للجنة العدالة والمساءلة الدولية، وهي منظمة غير حكومية تعمل على جمع الأدلة من داخل سوريا منذ عام 2011: “أتفهم تمامًا مسارعة العائلات المنكوبة للعثور على أحبائها، لكن ذلك سيجعل مهمة المساءلة الشاملة أكثر صعوبة إذا فقدنا أجزاءً رئيسية من الأدلة”.
وقال وايلي إن محققي اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة عملوا على نقل الوثائق بهدوء إلى مواقع آمنة داخل سوريا وسيبدأون قريبًا المهمة الضخمة، وهي رقمنة الملفات.
لم تتوجه الكثير من المنظمات التي لديها الخبرة اللازمة للتعامل مع هذا النوع من الأدلة إلى سوريا، متذرعةً بالمشاكل الأمنية والتعقيدات القانونية للتعامل مع هيئة تحرير الشام، وهي فصيل يصنفه الغرب إرهابيا ويخضع لعقوبات دولية.
وقالت السلطات المؤقتة إنها تفتقر حاليًا إلى القوى العاملة لتأمين المواقع بشكل كافٍ في الوقت الذي تهتم فيه بالكثير من الأولويات الأخرى في البلد الذي مزقته الحرب.
كانت المواقع مؤمنة بشكل أفضل في المدن التي وصلت إليها هيئة تحرير الشام أولًا، ولكنهم وصلوا إلى المواقع الأمنية في دمشق بعد ثوار الجنوب، وتُركت المواقع عرضة للنهب في الساعات الأربع والعشرين الأولى.
قُتل ما لا يقل عن نصف مليون سوري خلال الحرب، العديد منهم داخل فروع المخابرات والسجون. ورغم الأعداد الكبيرة من المختفين قسريا وفق ما تشير إليه التقديرات، لم يُعثر سوى على بضعة آلاف من السجناء أحياء عندما حررهم الثوار.
اطلعت “فاينانشال تايمز” على مئات الوثائق الموقعة من مسؤولي النظام السابق والمتعلقة بالمعتقلين، وشملت وثائق لمحتجزين في زنازين نتنة في أقبية أفرع المخابرات، تم احتجازهم أحيانًا لأشهر لانتزاع اعترافات من آخرين. وشملت الوثائق بطاقات هوية لأطفال لا تتجاوز أعمارهم ست سنوات.
وفي زنازين الاحتجاز وغرف الاستجواب، شاهدت “فايننشال تايمز” أدوات تعذيب، بما في ذلك ما يُعرف بـ”السجادة السحرية”، وهي ألواح خشبية قابلة للطي يُكبّل عليها المعتقلون بالأغلال، قبل أن يتناوب الحراس على سحب أو شد أطراف المعتقلين أو طي اللوح إلى نصفين.
كانت هناك أيضًا أدلة واسعة الانتشار على وجود أطفال في زنازين احتجاز النساء، إذ تم العثور على أحذية لأطفال صغار وحليب للأطفال، بالإضافة إلى حبوب منع الحمل. وقال الخبراء إن هذه الأدلة تُظهر أن الاعتداءات الجنسية كانت متفشية في معتقلات الأسد، وهو ما أكدته سجينات سابقات.
وقال وايلي: “كل هذه أدلة أساسية من الضروري الحفاظ عليها”.
كانت فروع المخابرات تشكل بداية الاختفاء القسري؛ حيث يتم استدعاء الأشخاص للإبلاغ عن بعضهم البعض، ويخضعون للاستجواب والتعذيب، وأحيانًا يعترفون زورًا بارتكاب جرائم.
يتم لاحقا نقلهم إلى زنازين داخل أقبية ويمكثون أحيانًا لشهور، قبل أن تتم محاكمتهم في محاكم سرية بتهم زائفة، ثم يُسجنون.
أظهرت وثائق اطلعت عليها صحيفة “فاينانشال تايمز” أن بعض السجناء أُعدموا أو ماتوا أثناء الاحتجاز، ونُقلت جثثهم إلى المستشفيات قبل أن “تضيع” في متاهة الإجراءات البيروقراطية، وكثيراً ما صدرت أوامر بإخفاء الجثث عن عائلاتهم.
وأظهرت الوثائق زيادة في حالات الوفاة داخل المعتقلات بعد عام 2019؛ حيث تم إرسال ما لا يقل عن 10 جثث من السجون إلى مستشفيات دمشق يوميا.
وقال المستجيبون الأوائل من منظمة الخوذ البيضاء في سوريا إنهم عثروا على ما لا يقل عن 536 رفاتًا بشريًا مجهول الهوية منذ سقوط الأسد، وكان ذلك إثر بلاغات من المدنيين عبر رقم المنظمة. وبينما يقوم عمال الطوارئ بجمع تلك الرفات، أكدوا أنهم يفتقرون إلى الخبرة اللازمة للتنقيب عن المقابر الجماعية.
وفي منتصف ديسمبر/ كانون الأول، قام المدنيون بإزالة طبقات خرسانية في إحدى المقابر الجماعية خارج دمشق، ورفعوا أكياس الرفات البشرية بحثًا عن أقاربهم المفقودين.
جاء محمود ليطالب بكيس كان قد شاهده في تقرير لقناة الجزيرة، وقرأ عليه اسم شقيقه المفقود منذ أن اختطفته قوات الأمن في 2012، وعليه كلمة “سجين”. عُثر على كيس الرفات مدفونًا مع سبعة آخرين.
أمضى محمود أيامًا وهو يتجول في مستشفيات دمشق في محاولة يائسة لإجراء اختبار الحمض النووي والتأكد من أن الرفات لشقيقه.
أخبره العاملون في مجال الصحة وأعضاء منظمة الخوذ البيضاء أنهم لا يستطيعون أخذ الأدلة بهذه الطريقة العشوائية. وقال العاملون في المجال الطبي إن الضربات الجوية الإسرائيلية قد دمرت الموقع الرئيسي لفحص الحمض النووي في دمشق قبل أسبوع، وإنه لا يوجد حاليا في العاصمة الأجهزة اللازمة لفحص الرفات المتحللة.
وحذّر الخبراء من أن الأمر قد يستغرق شهورًا أو سنوات لبدء اختبارات الحمض النووي للجثث التي تم استخراجها من المقابر الجماعية. في هذه الأثناء، تنتظر عائلات القتلى والمفقودين أن تهدأ الفوضى التي تشهدها البلاد.
قال محمود وهو يعيد الكيس إلى سيارته: “لا أعرف ماذا أفعل، ولا يوجد من يساعدني، أريد فقط أن أعرف إن كان هذا أخي حتى أتمكن من دفنه”.
المصدر: فاينانشال تايمز