بعد سقوط نظام الأسد، بدأت التباينات الأيديولوجية والسياسية بين السوريين بالطفو إلى السطح، وهو أمر طبيعي وصحي في أي مرحلة انتقالية. ومن بين المواضيع الساخنة التي يناقشها السوريون في هذه المرحلة مكان الدين في الدولة الجديدة، وما يلاحظه القارئ بسهولة هو أن المشاركين في النقاش غالبًا ما يقصدون أشياء مختلفة رغم استخدامهم للمصطلح نفسه.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو مفهوم “العلمانية”، الذي يظل غامضًا وغير موحد بين الأفراد. في هذا المقال، نهدف إلى توضيح بعض المفاهيم المختلطة المرتبطة بالعلمانية .
علمانية، ديمقراطية، حقوق الإنسان وحقوق الأقليات.. هل هي شيء واحد؟
هذه المصطلحات غالبًا ما تختلط عند البعض، حيث يظن البعض أن أحدها جزء من الآخر، ولكن هذا غير صحيح. العلمانية، وفقًا للتعريف الأكثر شيوعًا، تعني فصل الدين عن الدولة، بينما الديمقراطية تشير إلى حق الشعب في الانتخاب، والتمثيل البرلماني، والتعبير السياسي، والترويج لآراء مختلفة.
على سبيل المثال، كان الاتحاد السوفييتي من أكثر الدول علمانية في العصر الحديث، حيث كان يعزل الدين عن الدولة تمامًا،كان على مسافة واحدة من كل الأديان حرفيًا، لكنه لم يكن ديمقراطيًا. في المقابل، الكيان الصهيوني يُعد دولة ديمقراطية لمواطنيها، ولكنها ليست علمانية.
أما فيما يتعلق بحقوق الإنسان، فإن العديد من الأشخاص الذين يطالبون بالعلمانية يرغبون في الواقع في حماية حقوق الإنسان والأقليات من خلالها، تعني فصل الدين عن الدولة فقط، فالعديد من الدول في إفريقيا تصنف علمانية، رغم أن وضع حقوق الإنسان فيها غالبًا ما يكون سيئًا، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي أيضًا. يمكن أن تكون الدولة مفصولة عن الدين وتنتهك حقوق الأفراد في نفس الوقت، هذا لا ينفي ذاك.
حتى الديمقراطية، للأسف، لا تعني بالضرورة حماية حقوق الإنسان أو حماية الأقليات. فالديمقراطية، وفقًا للتعريف، تشمل على حماية الحقوق السياسية فقط، مثل حق المعارضة وتشكيل الأحزاب.
على سبيل المثال، الهند هي دولة ديمقراطية كبرى، ولكنها لا تحمي أقلياتها كما يجب. وكذلك، الكيان الصهيوني هو دولة ديمقراطية لمواطنيها، لكنه ينتهك حقوق الإنسان والقانون الدولي ويضطهد الأقليات.
إذن، من الخطأ الافتراض أن العلمانية تعني تلقائيًا ضمان حقوق الإنسان أو الديمقراطية، أو أن غيابها يعني غياب هذه الحقوق. ولذلك، فإن أهم ما تحتاجه الدولة السورية، بغض النظر عن شكلها، هو:
- ديمقراطية تحمي الحقوق السياسية للجميع.
- دستور يحمي حقوق الإنسان وكرامته، ويضمن المساواة بين جميع المواطنين، ويصون حرية الاعتقاد.
هذه هي السمات الأساسية الأهمّ لأي دولة، وليس كونها علمانية أو دينية. وهذه السمات والمطالب توحّد الجميع ويتفق عليها في ظني الغالبية الساحقة من السوريين، المطالبين بالعلمانية والمطالبين الدولة ذات المرجعية الدينية على السواء. وهذه هي السمات التي يريدها في الحقيقة الكثير من العلمانيين، وليس فصل الدين لذاته.
مسافة واحدة من كل الأديان؟
يروّج العديد من العلمانيين العرب لفكرة أن الدولة يجب أن تكون على مسافة واحدة من جميع الأديان، ويستندون في ذلك إلى مثال الدول الأوروبية، ولكن إذا نظرنا إلى هذا المفهوم للعلمانية بشكل صارم، نجد أن بعض الدول الأوروبية ليست علمانية تمامًا.
على سبيل المثال، فرنسا تُظهر نوعًا من العداء الانتقائي ضد الدين الإسلامي، بينما تمول المدارس المسيحية في لبنان ومصر وفلسطين. أما في ألمانيا، فلا يمكن القول إن الدولة على مسافة واحدة من كل الأديان كما يروج العلمانيون العرب. فالكنيسة في ألمانيا لها وجود قوي في الحياة والمجتمع، وتقوم بالكثير من الأعمال الخيرية والدعوية، وتقوم ببناء المشافي والروضات وحماية اللاجئين.
كما أن الدولة تجمع أموالًا لصالح الكنيسة بشكل رسمي من رواتب المسيحيين. وثلث المشافي في ألمانيا هي مشافي مسيحية، وتحتوي على رموز دينية مسيحية مثل الصلبان وكتب مقدسة في غرف المرضى. بالإضافة إلى ذلك، ثلث الروضات في البلد هي مسيحية وتتبع الكنيسة.
المشفى الذي أعمل فيه ليس مسيحيًا، ومع ذلك فيه كنيسة كبيرة وليس فيه مصلى إسلامي ولا هندوسي، ولكنني لم أشعر يومًا أن هذا يُنقص من قيمتي أو يسيء إليّ، لأنني أعلم أنني في بلد مسيحي. وكوني مسلمًا، فإن وجود الكنائس في المستشفيات يعجبني أصلًا أكثر من فرنسا التي تمنع الرموز الدينية في الحيز العام. أفضل أن يكون البلد ذا طابع مسيحي على أن يكون ذا طابع ملحد.
المسيحية في أوروبا تمثل هوية مجتمعية وتاريخية جامعة للقارة، ويظهر تركيز الإعلام والساسة الأوروبيين على الأقليات المسيحية في الدول العربية أكثر من الأقليات المسلمة في الصين وميانمار. حتى السبعينيات، كانت إسبانيا تُعتبر دولة كاثوليكية رسميا وكانت تضيق على من يعتنق دينًا آخر.
أما في إنجلترا والدنمارك، فإن الدستور يتبنى كنيسة محددة كمؤسسة دينية رسمية تحدد دين الدولة (الأنغليكانية في إنجلترا والإنجيلية اللوثرية في الدنمارك)، ما يجعل هذين البلدين غير علمانيين رسميًا، رغم تمتعهما بحرية الاعتقاد بالكامل.
إذا كانت المظاهر المذكورة عن ألمانيا مقبولة بالنسبة للعلمانيين السوريين، فمن الضروري أن يوضحوا ذلك، لأن ذلك يجعل العلمانية أكثر قبولًا لدى الشعب، فحسب المفهوم السائد للعلمانية، يُفترض أن تكون هذه المظاهر ممنوعة كونها تتعلق بدين واحد.
العلمانية المطلقة، بمعنى دولة تكون على مسافة واحدة تمامًا من جميع الأديان، هي طرح نظري لم يتحقق إلا في الاتحاد السوفييتي. وبالتالي، ذكر دول أوروبا كأمثلة على هذا النوع من العلمانية هو تضليل، وحساسية بعض العلمانيين العرب من فكرة وجود غرف صلاة إسلامية في الدوائر الحكومية، بحجة أن الدولة بهذه الطريقة ليست على مسافة واحدة من كل الأديان، هي في الواقع إسلاموفوبيا بحتة ولا يمكن تصنيفها بأي شكل آخر.
أما إذا اعتمدنا تعريف العلمانية الذي يعني أن تكون الدولة على مسافة واحدة من جميع الأفراد بغض النظر عن دينهم، فستصبح العلمانية أقرب بكثير إلى غالبية الشعب، بما في ذلك معظم المنادين بدولة ذات مرجعية إسلامية، وكما ذكرنا، يجب أن يحدد الدستور هذا المبدأ ويضمنه في جميع الأحوال.
“لا علاقة للدولة ولا لرأي الأكثرية بالحريات الشخصية”
يروج العديد أيضًا لفكرة أن “الحريات والشؤون الشخصية” يجب أن تكون حقًا دستوريًا لا يخضع لرأي الأكثرية ولا تتدخل الدولة فيه، وهذا غير صحيح. ما هذه الدولة الخيالية التي “لا تتدخل” في شؤون المواطنين الخاصة ومع ذلك تحكمهم؟ العبارة هنا متناقضة.
هذا الادعاء لا يُطرح إلا من بعض العلمانيين في الدول العربية. الحياة الشخصية تتداخل مع جميع جوانب الحياة الأخرى ومع المجتمع، وأي دولة في العالم تنظم بعض أجزاء الحياة الشخصية.
في ألمانيا وغيرها، مثلًا، لا يمكنك المشي عاريًا في الشارع لأن هناك أطفال سيرونك. ولا يحق لك أن تجعل ارتفاع سور الشجر في حديقة بيتك مختلفًا عن ارتفاع سور الشجر في بيوت الجيران، رغم أنه بيتك، لأن حق الجيرة في منظرٍ متناسق يعلو حقك بتحديد ارتفاع سور الشجر في حديقة بيتك.
كما لا يمكنك التدخين أو شرب الكحول في العديد من الأماكن حفاظًا على صحة الآخرين، ولا يمكنك بيع المخدرات. ولا يمكنك أيضًا أن تفصل موظفًا عندك في الشركة حتى لو كان متغيبًا عن العمل بسبب المرض لفترة طويلة مع أنها شركتك الخاصة، لأن القانون يمنع فصل موظفٍ بسبب مرضه إلا بشروط صعبة.
ولا تستطيع شراء أي دواء تريده من الصيدلية بحجة أنك حر، كما لا يحق لك رفض وضع حزام الأمان في سيارتك الخاصة بحجة أنك حر. أيضًا، في العطل الرسمية، لا يحق لك فتح محلك التجاري إلا في استثناءات محددة. وهناك دول غربية تحظر شرب الكحوليات في الشارع تمامًا، والقائمة تطول بالأمثلة المشابهة.
حتى الزواج المثلي تم إقراره في دول أوروبا عبر تصويت برلماني، أي برأي الأكثرية، وكان محظورًا سابقًا بناءً على رأي الأكثرية أيضًا. ولو استطاعت دول الغرب حظر الكحوليات كلها لفعلت، لأن ذلك كان سيجنبها الكثير من النتائج السلبية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والجنائية، لكن الشعب يرفض ذلك.
أمريكا نفسها حاولت حظر الكحوليات في الثلاثينيات ولكنها رضخت للاحتجاجات الشعبية الضخمة، حيث كانت الغالبية ترغب في السماح بالكحول، وهناك أسباب كثيرة لتقييد استهلاك الكحول والتبغ والمخدرات غير التحريم الديني.
هل كل ما سبق يعد حريات شخصية لا علاقة للدولة بها؟ بالطبع لا. الإنسان يعيش في مجتمع وليس في غابة، والمجتمع له حقوق على الفرد كما أن الفرد له حقوق على المجتمع. أين تنتهي حقوق الفرد وأين تنتهي حقوق المجتمع؟ هذا ما يتحدد جزئيا عبر الدستور (فيما يتعلق بالأمور الأساسية) وجزئيًا عبر رأي الأكثرية (فيما يتعلق بالأمور الفرعية).
وما ذكرته من أمثلة هي أمور فرعية ومنظمة في أوروبا عبر تصويت البرلمان، أي من خلال رأي الأكثرية، ومن المحتمل أن تتغير في بلادنا. أهلا بكم في الديمقراطية!
“إما أن نحصل على الحريات الموجودة في أوروبا وإما نحن مقموعون”
هذا هو لسان حال الكثيرين اليوم. بالنسبة للحريات والحقوق الأساسية مثل الكرامة والحقوق السياسية والدينية، فلا شك أنها غير قابلة للتفاوض أو المساومة. أما الحريات الشخصية والاجتماعية، فهي ستختلف حتمًا، فمن غير المعقول أن يتبنى الشعب الألماني والشعب السوري نفس القوانين والتوجهات الاجتماعية في التصويت الديمقراطي، مع كل الاختلافات القيميّة والاجتماعية والتاريخية بينهم.
النتيجة الطبيعية هي أن تختلف هذه الرغبات والتوجهات، وهذا هو جوهر الديمقراطية. إذا كان أحدهم يسعى لتطبيق قوانين وحريات ألمانيا الاجتماعية على سوريا عنوةً وجعلها غير خاضعة لرأي الأكثرية فهذه دكتاتورية وليست ديمقراطية.
وللأسف، هذه هي الصورة السائدة عن العلماني العربي، رغم أنها لا تنطبق على الجميع، حيث أن هناك العديد من العلمانيين الوطنيين الذين يلتزمون بنتيجة الاختيار الديمقراطي. ولكنها الصورة السائدة، وهي من أسباب رفض شرائح واسعة من الناس للعلمانية. أقول هذا بشكل أخوي لكي يعرف الزملاء المطالبون بالعلمانية أين الخلل في خطابهم ويتجنبوه أو توضيح مواقفهم بشكل أكبر.
إضافة إلى ذلك، الشعوب الغربية تميل إلى الفردانية العالية “individualistic”، بينما الشعوب العربية تميل إلى الجمعانية العالية “collectivistic”. ومن خلال تجربتي في كلا المكانين، أستطيع القول إن الشكل الأمثل هو أن نوجد منطقة وسط بينهما، فالشعوب الغربية قد تميل إلى الفردانية المفرطة مع ما يصاحبها من سلبيات، بينما الشعوب العربية تتمسك بالجمعانية المفرطة ولها أيضًا سلبياتها.
لذلك، أتمنى أن تتحرك الشعوب العربية قليلًا نحو الفردانية، ولكن دون أن نصل إلى الدرجة التي تعيشها الشعوب الغربية. لكن، في النهاية، هذا رأيي الشخصي. الأهم هو أن طبيعة الشعب الجمعانية لها حقها، ومن غير المنطقي إلباس تجربة شعب فرداني على آخر جمعاني فجأة وبدون مراعاة للواقع الثقافي والاجتماعي.
التغييرات المجتمعية إن حدثت، تحدث بشكل تدريجي، وليس فجأة بجرة قلم وقوانين. لذا، اخرجوا من قوقعة حريات أوروبا وفكروا بحريات سوريا، لو سمحتم.