في فيلم “حتى النخاع”، تظهر فتاة عشرينية، نحيلة الجسم، عظام معدتها وقفصها الصدري بارزة بشكل ملفت للنظر، لدرجة تمكنها من لف كف يدها حول زندها بالكامل، وهو ما تحرص بطلة الفيلم على تكراره طيلة فترة الفيلم، حتى تتأكد بأنها لم تكسب وزنًا. إذ نراها في مشاهد متعددة، تمارس الرياضة لساعات طويلة أينما كانت وفي أي وقت، كما نسمعها وهي تعد كمية السعرات الحرارية الموجودة في كل صنف من الطعام الذي تتناوله، بداية من اللحم ونهاية بالملفوف.
ومع تطور أحداث الفيلم، تنتقل الفتاة ذات الجسم النحيل، للعيش في مركز تخصصي لعلاجها من مرض فقدان الشهية العصبي أو النفسي، وهو أحد أنواع اضطرابات الأكل الذي يندرج بجانبه الشره العصبي أو اضطراب نهم الطعام، وله أعراض وأسباب مختلفة، إلا أن جميعها تهدد الجسم بفقدان صحته جزئيًا وتدريجيًا، وربما بالموت، وخاصة في الحالات التي تستبعد التدخل الطبي والعلاج النفسي.
أما بالنسبة إلى الأسباب التي دفعتنا للحديث عن هذه المشكلة التي تم تجاهلها منذ فترة طويلة، هو ما أشارت إليه إحدى الدراسات التي تفيد بأن اضطرابات الأكل تثير القلق بشكل متزايد في الشرق الأوسط، فقد تكون معدلات الإصابة في بلدان تلك المنطقة أعلى من دول أوروبا وأمريكا الشمالية. ومن هذا الجانب، نتناول في هذا المقال أهم أعراض هذه الاضطرابات وتحدياتها.
اضطرابات الأكل تصيب الملايين حول العالم
وفقًا لإحصاءات اضطرابات الأكل التي تقدرها الرابطة الوطنية المتخصصة في هذا الشأن، فإن نحو 70 مليون شخص يعانون من اضطرابات الأكل حول العالم، ومنهم 30 مليون في الولايات المتحدة الأمريكية وتتبعها النمسا وفرنسا. وبالنسبة للمنطقة العربية، فلا تزال البيانات غير دقيقة، ولكن تشير التقارير المتوافرة إلى دول الخليج، كأكثر البلدان معاناة من هذه الاضطرابات، لا سيما النساء.
في نفس السياق، وجد استطلاع رأي في الأردن أن 74% من النساء اللواتي شملتهن الدراسة، غيرن أسلوب حياتهن بسبب ضغوط الأسرة وتأثير المنصات الرقمية عليهن، فعلى الرغم من أن الشره المرضي أكثر الاضطرابات شيوعًا، فإن الطلاب الذين تراوحت أعمارهم بين 18 و27 عامًا، أفاد 71% منهم بأنهم استغنوا عن وجبة على الأقل في يومهم، و72% يعتقدون أن مشكلة اضطرابات الأكل تطال النساء بشكل أكثر من غيرهن.
وكما تختلف الأسباب بحسب كل حالة، تختلف أيضًا أعراض كل نوع، فعلى سبيل المثال، يُميز اضطراب فقدان الشهية العصبي، المعروف أيضًا باسم “أنوركسيا”، من خلال انخفاض الوزن بصورة غير عادية، بسبب خوف المريض من اكتساب الوزن، ما يجعلهم يمارسون أنواعًا مختلفة من الأنشطة البدنية بشكل مفرط، كما يلجأ البعض إلى استخدام المسهلات أو التقيؤ بعد الأكل، كي لا يكسب الجسم أي وزن، وعادةً يتعمد المرضى تجويع أنفسهم، الأمر الذي ينتهي غالبًا بالموت.
المصاب باضطراب نهم الطعام، لا يلجأ للرياضة أو المنحفات الأخرى، وإنما يستمر في تناول الطعام بكميات ضخمة بمفرده لإخفاء جوعه وشراهته
أما النوع الثاني، وهو الشره العصبي، أو كما يُسمى بـ”بوليميا نرفوزا”، وعادةً ما يصاب المريض بنوبات من الشره والإفراط في تناول الطعام بكميات كبيرة في وقت قصيرة، ثم يحاول إنقاص وزنه بطرق مستعجلة وغير صحية، نتيجة للخوف النابع من زيادة الوزن وعدم الامتثال للمعايير الاجتماعية العامة للمظهر الخارجي، إذ يستنزف المريض كامل طاقته الفكرية في التركيز على وزنه وشكل جسمه، ولذلك قد يتجه البعض إلى استخدام المسهلات وغيرها من الوسائل التي تسهل عملية خسارة الوزن وتحسن نظرته لصورته الخارجية.
بالنسبة إلى اضطراب نهم الطعام، فإن المصاب يتناول كميات كبيرة وغير محدودة من الطعام، ولكن بانتظام ودون الشعور بالشبع. وكما الحالة السابقة، يرافق هذا النوع شعور بالذنب والخجل من هذه العادة، ولكن المريض في هذا الوضع لا يلجأ للرياضة أو المنحفات الأخرى، وإنما يدفعه إلى الاستمرار في تناول الطعام بمفرده لإخفاء جوعه وشراهته. يضاف إلى ذلك، أنواع أخرى مثل اضطراب الاجترار وتجنب أو تقييد تناول الطعام.
بصفة عامة، يرى الخبراء أن انتشار صيحة الأنظمة الغذائية ساهم بطريقة ما في تحويل هذه الحميات الصارمة والمعقدة إلى اضطرابات مدمرة، وذلك عدا عن المشاكل العاطفية والسلوكية التي تعطي للشخص صورة خاطئة عن شكل ووزن جسمه، فيصبح لديه إدراك غير واقعي لمظهره وبالتالي يجتهد لتغيير ما ليس موجودًا بالأساس.
هذه الأعراض تدفعنا للانتباه إلى عاداتنا الغذائية وسلوكياتنا تجاه الطعام، وتعيد تفكيرنا بعلاقتنا في هذا النظام الذي تتطفل عليه الكثير من الضغوط والانتقادات الاجتماعية القاسية
ولكن إن لم يستطع المريض نفسه ملاحظة الأعراض، فيمكن لمن حوله الحديث معه بهذا الموضوع، لا سيما لو كانت العلامات والأعراض الجسدية تشمل المظهر النحيل والإرهاق والأرق والأصابع المائلة للزرقة وقلة الشعر أو تساقطه أو الإغماء أو انقطاع الدورة الشهرية لدى النساء أو جفاف الجلد واصفراره، وغيرها العشرات من العلامات العاطفية والسلوكية أيضًا التي تتمثل بتخطي وجبات الطعام، والكذب بشأن كمية الطعام المتناولة، وفحص الوزن والقوام بشكل متكرر، والشكوى الدائمة من الشحوم في مناطق من الجسم.
ولا شك أن هذه الأعراض تدفعنا للانتباه إلى عاداتنا الغذائية وسلوكياتنا تجاه الطعام، وتعيد تفكيرنا بعلاقتنا في هذا النظام الذي تتطفل عليه الكثير من الضغوط والانتقادات الاجتماعية القاسية، لا سيما في عصر التكنولوجيا والصورة التي أثرت بشكل جوهري على تقدير الأشخاص لذواتهم وتقبلهم لعيوبهم الشخصية، بسبب ما تتيحه هذه العوالم من مقارنات ومنشورات مزيفة عن الأجسام المثالية والصحية.
الأسباب
ليس معروفًا بالتحديد الأسباب الدقيقة وراء حدوث هذه الاضطرابات، ولكن يلخصها الأطباء بمجموعة من العوامل التي قد تزيد من احتمالية الإصابة بهذا المرض، وأهمها العوامل الوراثية، والمشاكل العاطفية والنفسية، إلى جانب العوامل الاجتماعية التي ذكرناها سابقًا وأشرنا إلى دورها في تحديد معايير النحافة والمظهر المثالي للجسم.
وخاصة، في مرحلة المراهقة التي تزداد فيها المقارنات والتعليقات بين الأقران، ما يجعلهم أكثر عرضة وحساسية من غيرهم لهذا الضغط والمرض، فلقد وجدت دراسة أن اضطراب الأكل يبدأ عادة خلال هذه المرحلة وحتى أوائل العشرينات. جدير بالذكر أن الشخص قد يصاب به في مرحلة من مراحل حياته ويتخلص منه إما بواسطة الدعم الاجتماعي أو العلاج الطبي، ولكن الإحصاءات المتعلقة بهذا الجانب، تفيد بأن العديد من المصابين لا يتقدمون للتشخيص بسبب الإحراج أو حالة الإنكار أو جهلهم بالأعراض.
ورغم جميع الدلائل التي تثبت خطورة هذه الاضطرابات، إذ يتسبب اضطراب فقدان الشهية بأعلى معدل للوفيات مقارنة مع أي مرض عقلي آخر. كما وجدت دراسة أجريت عام 2003 أن الأشخاص الذين يعانون من مرض فقدان الشهية أكثر عرضة للانتحار بزيادة 56 مرة عن غير المصابين، وذلك فضلًا عن تأثيراتها السلبية على الحالة البدنية والمزاجية والجنسية.
في هذا الشأن، أجرى “نون بوست” حوارًا خاصًا مع أخصائية التغذية، رولا علوش، وقالت: “ترتبط هذه الاضطرابات بالعوامل النفسية بشكل كبير، أي أن الشخص قد يقع ضحيتها في حالة حدوث وفاة أو فشل أو تغيير جذري أو عند الفشل في مجال من مجالات الحياة كالتعليم أو العمل”. وعند سؤالها كيف يمكن أن تبقى علاقتنا مع الطعام علاقة صحية وخالية من التقييدات والهواجس؟، أشارت إلى ضرورة الابتعاد عن منصات التواصل الاجتماعي والإعلامي التي تؤثر بشكل كبير على عاداتنا الغذائية، إضافة إلى إلغاء العادات غير الصحية بشكل تدريجي وليس اندفاعي أو فجائي.
جميع قراراته الغذائية ترافقها الكثير من مشاعر القلق والتوتر، وقد يلجأ عادةً إلى أدوية إنقاص الوزن والأعشاب المنحفة، كما يبدأ في ممارسة الرياضة لساعات طويلة ويحاول دومًا البحث عن وسائل إضافية لخسارة الوزن
أما بالنسبة لكيفية التمييز بين المصاب باضطراب الأكل والشخص الملتزم بحمية معينة، قالت الأخصائية علوش: “لكل اضطراب أعراضه وعلاماته الخاصة، ففي حال فقدان الشهية يتضح ذلك من خلال النحافة المفرطة والإصابة بفقر الدم. أما النهم أو الشراهة، فغالبًا ما تصاحبها صعوبة بالحركة والتنفس وصعوبة بالنوم، وغيرها الكثير من الإشارات التي يحددها نوع الاضطراب”.
أضافت أن جميع قراراته الغذائية ترافقها الكثير من مشاعر القلق والتوتر، وقد يلجأ عادةً إلى أدوية إنقاص الوزن والأعشاب المنحفة، كما يبدأ في ممارسة الرياضة لساعات طويلة ويحاول دومًا البحث عن وسائل إضافية لخسارة الوزن، بالرغم من أنه ليس بحاجة لذلك. وذلك على العكس من الشخص الطبيعي الذي يمارس الرياضة مثلًا 3 مرات أسبوعيًا ويحاول الالتزام بحمية غذائية مرنة دون التدقيق والتقيد بنظام غذائي معقد.