“أنا يا صديقة متعب بعروبتي.. فهل العروبة لعنة وعقاب؟”.. لخص الشاعر السوري الراحل نزار قباني (21 مارس/آذار 1923-30 أبريل/نيسان 1998) بتلك الكلمات واقع الملايين من المنتسبين إلى القومية العربية، ممن عايشوا بالصوت والصورة، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، حالة الخذلان الفاضحة للحكومات والأنظمة العربية تجاه شعوب تُنحر وأمم تُباد دون أن يحركوا ساكنًا.
من غزة إلى لبنان مرورًا بسوريا ومن قبلهما اليمن والعراق، وصولًا إلى السودان عبر الحدود الليبية، قفزًا على القرن الإفريقي حيث الصومال، دماء تُراق وأشلاء تتناثر وحضارات تندثر وعرقيات تُمحى، نساء تُرمل وتُغتصب، وأطفال تُيتم وتشيخ قبل أوانها، يجمع بينهم خيط واحد ومصير واحد وتاريخ واحد وثقافة واحدة.. العروبة.
وأمام هذا المشهد الملطخ بالدماء من كل جانب، الزاكم للنفوس من رائحة الموت التي تفوح من بين ثنايا كل شبر بداخله، المُزلزل من أصوات الاستغاثات والعويل والمناشدة، يكتفي العرب بالجلوس في مقاعد المتفرجين، ممسكين بمناديل ورقية، يجففون بها دموعهم المنزلقة عفويًا على خدودهم المتخمة من كثرة الطعام والشراب، قبل التوجه نحو الاحتفالات والمهرجانات الصاخبة، التي لا تراعي حرمة دم ولا قدسية روح ولا أخلاقيات نخوة.
وبينما يلملم العام الحالي أوراقه المبعثرة على أشلاء الجثث المتناثرة في كل مكان من أرض العروبة المُدنسة بروث الصهيونية والإمبريالية الاستعمارية، يقف القرار العربي متأرجحًا على حافة العجز، مبللًا بدموع الحسرة، بعدما خضبت جدرانه بدماء الجميع، نساء وأطفال وشيوخ، مسلمين ومسيحين، شيعة وسنة، عرب وعرقيات، بعدما قدم موسمًا هو الأسوأ منذ عقود.
غزة.. مسرح الخذلان الكبير
منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم تتوقف الحكومات والهيئات العربية بشتى أنواعها، عن الضجيج والصراخ، لكنه ضجيج بلا طحين، إدانات واستنكارات وشجب على مدار الساعة، بيانات وتصريحات وخطابات ومؤتمرات وندوات، كلها تندد بالاحتلال وتطالب بوقف الحرب وتوبخ الصمت الدولي على ما يُرتكب من جرائم بحق الشعب الفلسطيني.
لكن من بين كل هذا الصراخ، لم يكن هناك فعلًا واحدًا، ولا تحركًا استثنائيًا، ولا خروجًا عن النص المكتوب داخل الغرف المغلقة في تل أبيب وواشنطن، فتحولت الحكومات ومن خلفها الإعلام الرسمي والموالي إلى ببغاوات، تُردد ذات الشعارات وترفع نفس الهتافات، بما يشبه ما يُردد في شوارع طهران “الموت لإسرائيل” دون أن تكون هناك خطوة واحدة في مسار هذا الدرب الذي تحول إلى شعار خاوٍ من مضمونه، مُجرد من جديته، مدعاة للسخرية قبل أن يكون للشفقة.
أكثر من 151 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، ومليوني نازح ومشرد، ومدينة بأكملها تحولت إلى رُكام، وقتل لكل مقومات الحياة، كل هذا لم يحرك ساكنًا لدى الحكومات العربية، التي ارتأت لنفسها النأي عن ساحة النزال، في ضوء مقاربات الانبطاح والخنوع التي أخرجتها عن السردية الإقليمية بالكلية، لتصبح مع مرور الوقت عالة على خريطة الزمن، ورقم صفري في معادلة النفوذ والقوة.
صرخة من قلب #غزة: يا عالم أصحوا، يا مسلمين اسمعوا، إحنا عم نموت من البرد!#غزة_تستغيث pic.twitter.com/uQiSFpRzTE
— نون بوست (@NoonPost) December 28, 2024
صورة واحدة لتفجير المستشفى المعمداني أو قصف مجمع الشفاء الطبي، أو حرق خيام النازحين أحياء، أو حتى صورة استشهاد الشيخ خالد نبهان، أبو ضياء “روح الروح”، أو تلك التي التقطت للطبيب حسام أبو صفية مدير مستشفى كمال عدوان في أثناء ذهابه لمدرعات الاحتلال بعدما قُصف المشفى.
صورة واحدة من هذا الألبوم المُخزي كفيلة أن تُغلي الدماء في عروق النخوة وأن تُزلزل الأرض من تحت أقدام الكرامة، لكن كالعادة كان الصمت والنحيب وسكب المزيد من الدموع لغة الشعوب المقهورة فيما كانت الإدانة والشجب حديث الحكومات المُسلي والمُطرب لآذان المستعمر.
الموغل في الخذلان لم يكن الصمت المُفعم بأردية العجز القبيحة فقط، بل كان التواطؤ مع المحتل، والذي يرتقي لدرجة الخيانة، فبعيدًا عن تجنب استخدام ما لدى العرب من أوراق ضغط سياسية واقتصادية وعسكرية يمكن أن تردع الكيان الإسرائيلي إذا ما استخدم أيًا منها وليست كلها، كان دعم جيش الاحتلال وحكومته منهجية عربية مقززة، هذا الدعم الذي تأرجح بين إنعاش خزائن وأسواق الكيان بالمنتجات والأموال والبضائع المتبادلة بينه وبين البلدان العربية، وهو ما كشفته التقارير الصادرة عن جهات الإحصاء الرسمية في الداخل الإسرائيلي، مرورًا بمساعدته في إطباق الحصار على المحاصرين في القطاع بغلق جميع نوافذ الإمداد والتموين، للمقاومة والشعب على حد سواء، وصولًا إلى تبني السردية الإسرائيلية إزاء المقاومة، حيث تجييش الإعلام النظامي العربي لشيطنة الفصائل الفلسطينية ورموزها وإطلاق العنان لكلاب اللجان الإلكترونية للنهش في أجسادها الطاهرة.
لحظة ذهاب الطبيب حسام ابو صفية نحو الدبابات بصدره العاري ومعطفه الأبيض
مشهد مؤلم للغاية. pic.twitter.com/LtfmNJUP77
— MO (@Abu_Salah9) December 29, 2024
لبنان وسوريا.. الغوص في وحل الطائفية والمقاربات المنبطحة
من محطة غزة، استقل قطار الخذلان العربي طريقه صوب محطته الثانية، لبنان، لكنه هذه المرة كان مفعمًا بحزمة من المقاربات وشماعة عريضة من المبررات والحجج التي اتكأ عليها لتمرير انبطاحه وصمته وعجزه الذي فاق المدى، فحوّل الساحة اللبنانية إلى معركة طائفية ومناطقية في نفس الوقت، دون أي تماس من قريب أو بعيد مع التوغل الإسرائيلي وانتهاك السيادة اللبنانية، بعيدًا عن أي مواقف مسبقة من “حزب الله” وأجندته الإيرانية.
واستغل المحتل الإسرائيلي حساسية المشهد اللبناني في ضوء التباينات العربية الفجة بشأنه، لارتكاب العشرات من المجازر والانتهاكات، مستندًا إلى عمق الخلاف العروبي-العروبي الضارب بجذوره في عمق الأرض، فحاول استقطاب بعض الكيانات، وتحييد أخرى، وبالفعل نجح في تمرير مخططه وشن عمليته العسكرية في الجنوب اللبناني، واستهدف العاصمة بيروت دون أي اعتبار لموقف عربي هنا أو حسابات حلفاء هناك.
الصورة ذاتها كانت في سوريا، التي تعرضت هي الأخرى لاستهدافات إسرائيلية موغلة، قضم المحتل خلالها عشرات الكيلومترات داخل الأراضي السورية، وبدلًا من الانتفاضة العربية لتلجيم المحتل والحفاظ على وحدة الأراضي السورية كما يزعمون، اكتفت الحكومات بالمشاهدة والترقب، وسط مشاعر متناقضة، ما بين الفرح نكاية في الثورة ونجاح السوريين في فرض إرادتهم والإطاحة بنظام الأسد، الحليف المقرب للأنظمة السلطوية العربية، وبين قلق الشارع العربي الذي يشاهد واحد من أقذر أفلام التشفي تُعرض على شاشة عرض كبيرة تمتد لعدة عواصم تُنعت بالعربية.
وبينما يواصل المحتل قصفه وانتهاكاته في لبنان وسوريا، كان الصوت العربي، الرسمي، يعاني من نزلة برد انبطاحية شديدة، أبقته حبيس أدراج المقاربات العفنة، غير قادر على الخروج، فيما رقد الجسد العربي على فراش الخنوع، في انتظار نتائج تلك الجولة العبثية، مكتفيًا بمعاركه البينية الافتراضية على منصات التواصل الاجتماعي، التي يحاول من خلالها البحث عن انتصارات زائفة يخدر بها الشارع ويبرر من خلالها خذلانه وخنوعه.
السودان والصومال.. غياب عن المعادلة الإقليمية
لم يكتفِ القرار العربي بالصمت إزاء نحر عشرات الآلاف من العرب في غزة ولبنان وسوريا واليمن والعراق على أيدي الصهيونية وحلفائها من الأمريكان والأوروبيين، والعجز عن تقديم يد العون لهم، إنقاذًا أو حتى التزام الحياد دون التواطؤ، بل واصل إيغاله في الخذلان حد الفشل في وقف الحروب ذات الأطراف العربية الخالصة كما هو الحال في السودان.
ففي الوقت الذي يتساقط فيها آلاف السودانيين جراء حرب الجنرالات المندلعة منذ أكثر من عام ونصف بين قوات الدعم بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي) المدعوم روسيًا، والجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، المدعوم أمريكيًا، وتشريد الملايين ما بين نزوح داخلي وهجرة خارجية، وقف العرب يتشاطرون كعكة الدولة السودانية، ففريق ينضم لمعسكر الدعم وآخر لمعسكر الجيش، تاركين البلد العربي ممزقًا على أسنة التقاسمات والنفوذ.
ومع مرور الوقت، بات العرب خارج اللعبة بشكل كبير، فالمشهد السوداني على سبيل المثال تحركه قوى أخرى غير عربية، روسية وأمريكية وبريطانية وتركية، السيناريو ذاته في الصومال، حيث يسيطر على الساحة هناك الأتراك والإثيوبيون والأمريكان، فيما جاء الدور العربي على سبيل التنسيق من باب حفظ ماء الوجه.
الغياب العربي عن المعادلة انتقل من أطراف الجغرافيا العربية في الأدغال الإفريقية إلى العمق العربي نفسه، ففي سوريا تتعدد الأطراف غير العربية التي تعبث في المشهد، روسيا والولايات المتحدة وإيران وغيرهم، وفي لبنان كذلك، فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وإيران، وفي اليمن والعراق الأمر ذاته، فيما بات القرار العربي غير صالح للاستخدام الإقليمي أو الدولي، بعدما فقد نفوذه واستنفد مدة صلاحيته التي أفسدتها مقاربات الانبطاح والتبعية والخذلان التي يتبناها في تعاطيه مع تطورات الإقليم.
وبينما كانت تتوهم الأنظمة العربية أنها بانبطاحها وخذلانها للمستضعفين في غزة ولبنان وسوريا واليمن والعراق والسودان والصومال، باتت في مأمن من الانزلاق في مستنقعات الاستقطاب، وأنها بذلك شيدت سياجًا حاميًا من مغبة غضب الحليف الأمريكي والصهيوني بعدما تحولت إلى “خادم أمين” لأجنداته في المنطقة، إذ بها تقفز بخطوات مهرولة نحو الإقصاء والخروج من المشهد بشكل شبه كامل.
المثير للغثيان في شتى الجعجعات الواردة من أروقة الحكومات العربية أنها تُخاطب المجتمع الدولي، وتضعه وحده منفردًا كـ”صانع قرار” بشأن الانتهاكات التي يرتكبها المحتل وأعوانه هنا وهناك، وتطالبه بالتحرك العاجل، دون أن يوجه حاكم عربي واحد عبارة إدانة ولو مقتضبة للعرب، كونهم الحاضنة الأم والمظلة الأكبر للبلدان التي تتعرض للانتهاكات ليل نهار، في رسالة واضحة مفادها أنه لا حضور للعرب ولا تأثير لهم، فهو اعتراف ضمني بخروج القرار العربي عن معادلة التأثير الإقليمي، ناهيك عن الدولي.
عام ينقضي، يلملم جراحًا غائرة، قد لا تندمل في الوقت القريب، بعدما ضُرب جدار العروبة في مقتل، طعنًا بخنجر الخذلان تارة، وسكين التواطؤ تارة أخرى، رافعًا راية الاستسلام والخنوع، مستسلمًا بالهشاشة، معترفًا بالدونية، ليستحق عن جدارة واستحقاق دون أي منافسة، لقب “عام الخذلان” “عام الهوان” “عام العجز” “عام السقوط” “عام الغياب”.. أيًا كان المسمى فهو بحق عام للنسيان.