أوصل رسالته، وقال كلمته، ثم رحل في هدوء وشموخ عجز قاتلوه عن كسره، رغم كل ما فعلوه به من تعذيب وقتل بطيء وبطش باركه نظام دولي متآمر على شعوب عربية لا حول لها ولا قوة، رحل بعد 6 سنوات من الصبر الأيوبي، وقول كلمة حق في وجه سلطان جائر وأمام قضاة سيلاقون قاضيًا لا يظلم عنده أحد في يوم ما.
فبعد نحو 6 سنوات من السجن والتعذيب والحرمان من الدواء والعلاج ومقابلة الأهل والأبناء، رحل الرئيس المصري المعزول محمد مرسي عن سن ناهز 68 عامًا، قضى آخر 7 منهم سجينًا في منفردات، محروم حتى من رؤية عائلته وأبنائه ومحاميه، بل وحتى من القضاة الذين يحاكمونه في كثير من الأحيان.
كان مرسي ولا يزال الرئيس المصري الوحيد الذي انتخب بطريقة ديمقراطية اعترف العالم بأسره بنزاهتها، وكان قاتلوه ولا يزالون أعداءً للشعب المصري، رغم أن كثيرين ظنوا بأن الديكتاتورية غادرت البلاد دون رجعة إثر ثورة 25 من يناير التي عزلت مبارك وتركت نظامه ودولته العميقة تشتغل بهدوء إلى أن سنحت لها الفرصة بالعودة بقوة إلى المشهد في 3 من يوليو 2013.
محمد مرسي لم يكن ملاكًا في السلطة عندما فاز بالانتخابات الديمقراطية الأولى في البلاد، صيف العام 2012، فللرجل – رحمة الله عليه – محاسن وسيئات في طريقة إدارته لمقاليد الحكم في تلك الفترة، ولكنه كان حجة على أن النظام الدولي لا يريد خيرًا لهذه الأمة، ولا يريد لها أن ترفع رأسًا أو أن تتوق إلى حرية وديمقراطية لأن كل ذلك محرم على العرب.
تنقل محمد مرسي من سجن إلى آخر، ومن محكمة إلى أخرى، وكله أمل بأن يتحرك أحرار مصر في الداخل والخارج وأحرار العالم لنصرة قضيته
ليس غريبًا على النظام الدولي دعم الطغاة في قمع شعوبهم، بل كان الجميع يترقب عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل انطلاق موجة الثورات العربية، حتى جاءت ساعة السفر وأعطت الولايات المتحدة الأمريكية الضوء الأخضر لرجلها عبد الفتاح السيسي للانقضاض على السلطة والتنكيل بكل نفس إسلامي ومعارض لعودة الديكتاتورية لحكم مصر.
لم يكن الرئيس المصري المعزول يظن بأقرب حلفائه في السلطة وخارجها السوء، بل كانت طيبته المفرطة مانعًا له من أخذ احتياطاته وإعداد سيناريوهات ابتلاعه وحزبه، وفي ذلك دليل على أن كل تهم التخابر والتآمر على أمن البلاد وغيرها من التهم التي وجهت له، ساقطة وباطلة ولا أساس لها من الصحة.
خلال السنوات الستة التي قضاها في زنزانة لا يعرف شكلها من الداخل إلا هو وجلاديه، ذاق محمد مرسي العذاب ألوانًا، ليس أقله الحرمان من العلاج، وهو أبسط حق يتمتع به جميع السجناء في العالم، حتى في كوريا الشمالية، حرمان مقصود ومتواصل، عجل بموته بعد أن قال كلمته لقضاة الأرض قبل أن يقابل رب السماء.
في تلك السنوات الـ6، تنقل محمد مرسي من سجن إلى آخر، ومن محكمة إلى أخرى، وكله أمل بأن يتحرك أحرار مصر في الداخل والخارج وأحرار العالم لنصرة قضيته، فهو ليس مجرم حرب ولا خائنًا ولا عميلاً، بل هو رئيس شرعي منتخب، لا ذنب له إلا أنه انتخب بطريقة ديمقراطية ورفض الرضوخ للانقلاب الناعم الذي كانت تقوده “حركة تمرد” في 30 من يونيو 2013، لكن ذلك لم يحدث.
ليس من الضرورة أن تكون إخوانيًا حتى تترحم على مرسي وتلعن قاتليه ومن أوصل مصر إلى الوضع الحاليّ، ولكن المروءة والشجاعة والشهامة والرجولة والاستقلالية تفرض على كل حر وشريف أن يشهد شهادة حق في الرجل
من المؤسف مشاهدة الأوضاع في أرض الكنانة تصل لطريق مسدود، فمصر السياسة والكياسة والتاريخ صارت دولة عقيمة وعاجزة عن ولادة فصيل ثوري أو حزب سياسي متماسك قادر على قول كلمة حق في وجه سلطان جائر وإعادة الأمور إلى نصابها والحقوق إلى أصحابها، بعد أن حكمها فرعون لا نظير له بالحديد والنار.
صحيح أن مرسي غادر الحياة الدنيا إلى عالم أفضل، لكن لا يجب علينا كمتابعين للشأن المصري والعربي بصفة عامة، أن نتناسى الخذلان الذي تعرض له الرجل من أقرانه من الإسلاميين الذين تركوه وآخرين فريسة سهلة لنظام عبد الفتاح السيسي.
ليس من الضرورة أن تكون إخوانيًا حتى تترحم على مرسي وتلعن قاتليه ومن أوصل مصر إلى الوضع الحاليّ، ولكن المروءة والشجاعة والشهامة والرجولة والاستقلالية تفرض على كل حر وشريف أن يشهد شهادة حق في الرجل، فهو لم يبع الأرض والعرض ولم يتنازل عن حقوق ومقدرات شعبه مثلما فعل عبد الفتاح السيسي، بل كان مجتهدًا في إدارة البلاد، وفي إصابته من عدمها، حديث آخر، قد يأتي سياقه ومجاله في يوم من الأيام.
لا أحد يعرف إلى أين ستؤول الأمور في مصر، لكننا متيقنون أن ما قبل رحيل محمد مرسي لن يكون مثل ما بعده، فدماء الرجل التي لم تجف بعد قد تكون اللعنة الكبرى لنظام السيسي المحتمي بالاحتلال الإسرائيلي لبقائه في السلطة، لكن لا أحد منا قادر على معرفة الطريقة التي سينتهي بها النظام الفرعوني الجديد.