في قفص اتهام قاتم ومغلق بحديد وزجاج، توفي محمد مرسي الرئيس المصري الوحيد المنتخب ديمقراطيًا، بعد أن قضى الرجل 6 سنوات بالسجن اشتكى خلالها من سوء المعاملة والحبس الانفرادي وغياب الرعاية الصحية، وفي آخر جلسة من محاكمته اشتكى مرسي من خطر على حياته، وفي الجلسة الأخيرة بالأمس القريب، سقط مغشيًا عليه في قاعة محكمة في زمن غابت فيه شمس الديمقراطية عن مصر.
ليست هذه المرة الأولى التي يؤدي فيها الإهمال الطبي المتعمد في السجون المصرية إلى الوفاة، فقد توفي عدد كبير من المعتقلين نتيجة أساليب تخطى تأثيرها التعذيب والتجويع، وبحسب إحصاءات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية وصل عدد القتلى نتيجة انتهاكات النظام المصري داخل السجون إلى مئات الحالات.
سجون مصر.. الطريق إلى الموت
لم ترتبط المرحلة التي تلت انقلاب الثالث من يوليو 2013 في مصر فقط بالاعتقالات السياسية لمعارضي النظام إنما ارتبطت أيضًا بوفاة المحتجزين رهن الاعتقال، حتى بلغ عددهم بعد عامين فقط من تاريخ الانقلاب نحو 262، بحسب ما ذكرت منظمة الكرامة لحقوق الإنسان.
ثمة خبر متكرر كل شهر تقريبًا في الصحف المحلية وعلى رأسها “اليوم السابع” المحسوبة على النظام، وتتحدث صيغة الخبر عن وفاة سجين بسبب هبوط في الدورة الدموية أو الإجهاد الصحي أو أزمة صحية، ولا ذكر مطلقًا لتحقيقات أُجريت بشأن هذه الوفيات أو تفسير لتكرار أسباب الوفاة ذاتها كل عدة أسابيع
منذ ذلك الحين بدا أن الانقلاب في مصر يعود سريعًا إلى الـ24 من يناير 2011، إلى تلك اللحظات التي سبقت الثورة المصرية، حاملاً مع ما يصفه حقوقيون بقانون غاب بات يترسخ، فبدلاً من تطبيق القانون بالقوة ترى من يمارس “قانون القوة” في غياب تام للعقاب حتى بات ذلك واقعًا ألفته مصر وتعايشت معه.
ومع تزايد العنف الشرطي لقوات الأمن المستخدم بشكل ممنهج بحق المعارضين للنظام ومعتقلي الرأي، أصبح سماع قصة تعذيب أحد المعتقلين ووفاته جراء التعذيب البدني أو النفسي أو الإهمال كل يوم أمرًا اعتاد المصريون سماعه، في ظل الحكم الحاليّ في مصر.
ووسط اعتياد المتابعين للمشهد المصري على أخبار وفاة معتقلين داخل أماكن الاحتجاز جراء التعذيب، ظهر ما يسمى وفيات المحبوسين على ذمة قضايا سياسية بسبب تدهور حالتهم الصحية، رغم أن بعضهم يصاب بالأمراض نتيجة تلوث أماكن الاحتجاز ورداءة التهوية واكتظاظ عدد المعتقلين داخلها، وهو ما وثقته المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا، في تقرير تحدث عن وفاة 9 محتجزين في مقارّ الاحتجاز المصرية لهذه الأسباب.
السجون المصرية تمتلأ بآلاف المعتقلين من معارضي الانقلاب العسكري
رغم ذلك لا تقابل مصلحة السجون الازدياد المطّرد في أعداد المرضى المسجونين بالتحرك الفوري في مخالفة للائحة تنظيم السجون، فإما أن تتركهم داخل الزنازين حتى الموت وإما أن تنقلهم إلى مستشفيات السجون غير المجهزة طبيًا بشكل كامل، وهي مع ذلك ترفض دخول أدوية إليهم مما ينقل العدوى بسرعة بين المعتقلين.
ومن خلال البحث عن تناول وسائل الإعلام المصرية لحالات القتل المتكررة تبين أن ثمة خبر متكرر كل شهر تقريبًا في الصحف المحلية وعلى رأسها “اليوم السابع” المحسوبة على النظام، وتتحدث صيغة الخبر عن وفاة سجين بسبب هبوط في الدورة الدموية أو الإجهاد الصحي أو أزمة صحية، ولا ذكر مطلقًا لتحقيقات أُجريت عن هذه الوفيات أو تفسير لتكرار أسباب الوفاة ذاتها كل عدة أسابيع.
ويكشف ذلك حالة من الانهيار الأخلاقي والإنساني في عشرات السجون من أبرزها سجن العقرب وليمان طرة والوادي الجديد الخاص بالسجناء الإسلاميين، وجميعها تفتقر إلى أبسط المعايير الإنسانية حسب تقارير حقوقية دولية، هذه السجون التي أُضيف إليها أكثر من 20 سجنًا في عهد السيسي، وهو ما كلَّف الخزينة المصرية مليارات الجنيهات.
خلصت النتائج التي توصل إليها باحثون من مؤسسة “كوميتي فور جستس” إلى أن سجن المنيا العمومي يواصل منحى مقلقًا في ارتفاع عدد الوفيات داخله
هذه السجون باتت واحدًا من أسوأ الأماكن وحشية في العالم، فمفردات التعذيب وضعف الرعاية الصحية والإهمال الطبي والإذلال والإهانة لا يمر أسبوع إلا وثمة تقرير إنساني أو شهادة جديدة تتحدث عنها، ففي مصر ثمة مقبرة للأموات وأخرى للأحياء، وهذه الثانية مخصصة للسجناء السياسيين، وفيها يُعتقل كثيرون تحت لافتة الحبس الاحتياطي غير محدد المدة، ويقبع الآلاف في السجون بلا تهمة أو إشراف قضائي على اعتقالهم.
ويخشى أن تكون حياة عشرات الآلاف في هذه السجون مهددة بشكل أو بآخر، ففي مارس/آذار 2018، خلصت النتائج التي توصل إليها باحثون من مؤسسة “كوميتي فور جستس” إلى أن سجن المنيا العمومي يواصل منحى مقلقًا في ارتفاع عدد الوفيات داخله.
التعذيب حتى الموت
لم يصل هؤلاء إلى مثواهم الأخير إلا في وجود رجل الأمن والمخبر وأمين الشرطة الذي ظل هاجسًا رافق المواطن المصري على مدى عقود، ففي حكاية المواطن ورجال الشرطة في واقع الدولة المصرية قُلبت الموازين، وبدلاً من أن تكون الشرطة في خدمة الشعب تجد “الشرطة فوق الجميع”.
يستعرض المصريون شريطًا سوداويًا لاعتداءات وتعذيب وانتهاكات صارخة يرتكبها ذراع الدولة الأمنية المكلفة بحماية المواطنين، ويوثق الإعلام النزر اليسير منها، وما خفي كان أعظم وأشد مرارة، فبعد ساعات من اعتقال المواطن طلعت شبيب قُتل في أحد أقسام الشرطة في الأقصر جراء التعذيب الممنهج.
يبدو من هذا كله أن القمع واستباحة حياة المواطن أصبح منهجًا داخل جهاز الشرطة المصرية وليس حالات فردية كما تقول السلطات هناك
لم تقتصر حالات القتل على المسجونين فقط، ففي فبراير/شباط الماضي لقي المحامي كريم حمدي مصرعه بعد تعرضه للتعذيب المبرح على يد ضباط الأمن الوطني بقسم شرطة المطرية (شرقي القاهرة) في مارس/آذار 2015، كما لقي المحامي إمام محمود المصير ذاته بعد شهر واحد على يد أفراد الأمن بقسم الشرطة نفسه.
وبين جدران السجون سجل حافل بعمليات التعذيب والقتل، كذلك اعتداء أمناء الشرطة على أطباء مستشفى المطرية، أمَّا الجريمة الأحدث فهي مقتل سائق التوكتوك برصاص شرطي لخلاف بسيط.
ويتجاوز قمع الشرطة المصرية حدود “أم الدنيا”، فلم تخفت بعد قضية الشاب الإيطالي جوليو ريجيني الذي عُثر عليه مقتولاً في فبراير/شباط 2016 بعد تعرضه لتعذيب وحشي، وتُلقَى جثته على جانب الطريق شبه عارية، وأصابع الاتهام في ذلك مصوبة نحو جهاز الشرطة المصري.
عناصر الأمن يحرسون ميدان التحرير خلال الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير
وعقب أزمة ريجيني، تعرض مواطن مصري يحمل الجنسية الألمانية، يُدعى صفوت كرم نسيم، بقسم العامرية بالإسكندرية، شمالي مصر لعملية تعذيب على أيدي أجهزة الأمن بعد احتجازه لمدة 6 أيام دون وجه حق، بعد قرار النيابة بالإفراج عنه، مما تسبب في تدهور حالته الصحية.
وفي تقرير لـ”هيومان رايتس واتش”، وثقت المنظمة انتهاكات التعذيب والحرمان من الغذاء والأدوية والرعاية الطبية، وقد توفيّ جراء ذلك 492 شخصًا منذ بداية الانقلاب العسكري حتى يونيو/حزيران 2016 حسب الإحصاءات الحقوقية، من بينهم ماجد الحنفي الجوهري وحسن الجمل وممدوح شلضم الذين ذكرت قصص معاناتهم داخل السجون المصرية حتى وفاتهم.
أصبح انعدام الرعاية الصحية وسيلة للقتل البطيء عمد إليها نظام السيسي لتصفية القيادات المعارضة المحتجزة في السجون
ولأنه سجن العقرب فقد يبدو وجود ممثلين لخمس جهات أمنية فيه متسقًا مع سياسة العصا الغليظة، فثمة ممثلين للمباحث الجنائية والأمن الوطني والمخابرات العامة والمخابرات الحربية فضلاً عن الرئاسة، ولا شك أنها فلسفة ترسخ ما يُقال إن “الداخل إلى سجن العقرب مفقود والخارج منه مولود”.
أمَّا وزارة الداخلية المصرية تنفي هذه التقارير دائمًا وتصفها بالافتراءات والتلفيق، حتى إنها لجأت أخيرًا لتنظيم زيارة لجنة في البرلمان المصري أثارت السخرية بعد صور تُظهر سجن برج العرب وكأنه فندق من فئة خمسة نجوم، لكن يبدو من هذا كله أن القمع واستباحة حياة المواطن أصبح منهجًا داخل جهاز الشرطة المصرية وليس حالات فردية كما تقول السلطات هناك.
الموت البطيء
منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 أودى الإمعان في قتل المعارضين والمعتقلين بحياة أكثر من 718 سجينًا داخل مقار الاحتجاز المصرية، من بينهم 331 محتجزًا توفوا نتيجة حرمانهم من الرعاية الطبّية المناسبة، بحسب المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ناهيك عن مئات الحالات للإخفاء القسري وسط أرقام تشير إلى 80 ألف معتقل في عشرات المعتقلات العلنية والسرية بحسب المنظمات الحقوقية.
وأصبح انعدام الرعاية الصحية وسيلة للقتل البطيء عمد إليها نظام السيسي لتصفية القيادات المعارضة المحتجزة في السجون، خصوصًا المنتمية لجماعة “الإخوان المسلمين”، عوضًا عن إثارة الرأي العام في الخارج باستصدار أحكام قضائية بإعدامهم، على غرار ما حدث مع المئات من أعضاء الجماعة خلال الآونة الأخيرة.
لم يشفع للمرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، وضعه الصحي الصعب وسنّه لدى النظام المصري أو المناشدات للإفراج عنه التي أطلقتها منظمات حقوقية، حتى توفي “الشيخ المسن” في سبتمبر/أيلول 2017 بـ”ليمان طرة”
بدأ ذلك النهج حتى قبل استيلاء السيسي على السلطة، ففي أواخر عام 2014 توفي أستاذ الطب طارق الغندور، الذي لم يجد طبيبًا يوقف نزيفه الحاد بعد أن تفاقمت حالته الصحية بسبب مرض الكبد، ليُكمل بدوره قرابة الـ90 حالة منهم نساء وأطفال لاقوا مصيرًا مشابهًا.
توَّج موت الغندور أسبوعًا داميًا فيما يخص موت المعتقلين إهمالاً أو تعذيبًا، فبين 3 و10 من نوفمبر/تشرين الثاني، وثقت مؤسسة الكرامة 5 حالات قتل داخل السجون المصرية، من بينهم زكي أبو المجد الذي كان مصابًا بالسكري وأبو بكر القاضي الذي عانى من مرض السرطان.
توالت بعد ذلك الوفيات في صفوف قيادات جماعة الإخوان نتيجة للإهمال الطبي ومنع العلاج عنه، ومنهم القيادي في الجماعة فريد إسماعيل، الذي كان يعاني منذ دخوله السجن من تدهور كبدي، فمنعت عنه إدارة سجن العقرب العلاج لفترات كبيرة، ما أدى لتدهور صحته بشكل أكبر.
غير هؤلاء، توفي عضو مكتب الارشاد في جماعة الإخوان عبد العظيم الشرقاوي داخل المستشفى العام في بني سويف، بعد رحلة قاسية من منع العلاج والدواء عنه، ومعاناته من الموت البطيء لفترة طويلة داخل سجن انفرادي شديد الحراسة، وفي 25 من مايو 2015، توفي النائب السابق محمد الفلاحجي في سجن جمصة العمومي، نتيجة الإهمال الطبي في السجن.
أصبح الإهمال الطبي وسيلة للقتل البطيء عمد إليها نظام السيسي لتصفية القيادات المعارضة المحتجزة في السجون
وفي ظل تفاقم الإهمال الطبي، تحدثت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا عن وفاة 3 معتقلين يومي الأول والثاني من أغسطس/آب عام 2015، نتيجة حالة الإهمال الطبي السائدة بالمعتقلات، وذكرت أن السلطات تعزز من سياسة إفلات رجال الأمن من العقاب بدلاً من إجراء تحقيقات جادة فيما جرى واتخاذ تدابير جادة لمنع تكرارها.
أحد هؤلاء الذي رحلوا في أول أغسطس/آب عام 2015 كان أحمد غزلان المتهم بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، بسجن الأبعادية بدمنهور، وفي اليوم نفسه، توفي الشيخ عزت السلاموني القيادي بالجماعة الإسلامية داخل سجن ليمان طرة، نتيجة تعرضه لانسداد معوي حاد استمر 15 يومًا دون استجابة من إدارة السجن.
في هذا السجن أيضًا توفي القيادي في الجماعة الإسلامية ورئيس مجلس شورى الجماعة عصام دربالة نتيجة وعكة صحية شرسة بعد تعنت إدارة السجن معه في علاجه ومنع العلاج عنه لشهور، ولنفس السبب توفي القيادي في التيار الجهادي الإسلامي بمصر الشيخ مرجان سالم بعد 5 أشهر فقط من اعتقاله بسجن العقرب، وهو السجن الذي توفي فيه أيضًا نبيل المغربي القيادي بالجماعة والمتهم في القضية نفسها مع سالم، وإن كان قد توفي قبل سالم بشهرين.
في ظل استمرار السياسات اللاإنسانية في التعامل مع المحتجزين من الأجهزة الأمنية، من المتوقع زيادة أعداد المتوفين والقتلى داخل السجون ومقار الاحتجاز المصرية
كذلك، لم يشفع للمرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، وضعه الصحي الصعب وسنّه لدى النظام المصري أو المناشدات للإفراج عنه التي أطلقتها منظمات حقوقية، حتى توفي “الشيخ المسن” في سبتمبر/أيلول 2017 بـ”ليمان طرة”، ودُفن في صمت من دون مشيّعين بعد معاناته من الإصابة بانسداد في القنوات المرارية.
وحتى أبريل/نيسان 2019، سجَّل هذا العام منذ بدايته وفاة 15 حالة نتيجة الإهمال الطبي في السجون المصرية، وكان آخرها وفاة المعتقل محمد عبد الله الذي عانى من تليف في الكبد داخل محبسه في سجن أسيوط جنوبي، ليصل عدد المعتقلين الذين توفوا بسبب الإهمال منذ الانقلاب العسكري إلى 687 معتقلاً، بحسب منظمات حقوقية.
وفي ظل استمرار السياسات اللاإنسانية في التعامل مع المحتجزين من الأجهزة الأمنية، من المتوقع أن تزداد أعداد المتوفين والقتلى داخل السجون ومقار الاحتجاز المصرية، خاصة أن عدد المعتقلين الذين يعانون من أمراض مزمنة في سجون النظام العسكري يزيد على 5000، بحسب بيان للمرصد المصري للحقوق والحريات، وصف فيه السجون بأنها “مقابر جماعية”.