“تمر حدودنا وتقف عند المكان الذي يحرث فيه المحراث اليهودي التلم الأخير”، لم تكن هذه العبارة التي تتردد مؤخرًا على ألسنة المحللين الإسرائيليين مجرد تبرير عابر للتوسع العسكري والاستيطاني الذي طال جنوب سوريا، بما في ذلك قمة جبل الشيخ وما يحيط بها من قرى وبلدات عربية سورية.
بل تجسّد العبارة تأثيرًا عميقًا تركه جوزيف ترومبلدور، مؤسس “كتيبة بغال صهيون”، في تشكيل العقلية الإسرائيلية التي ورثتها وتتبناها اليوم الجماعات الاستيطانية في حشدها وتعبئتها لدعم مشاريع التوسع في كل من الضفة الغربية وسوريا ولبنان.
من مجموعات “فتيان التلال” و”تدفيع الثمن” الصهيونية، التي تهاجم البلدات الفلسطينية في الضفة الغربية وتحرق المزارع والممتلكات، إلى جماعة “أوري تزافون” التي تروج للاستيطان في لبنان عبر إنتاج المخططات الهندسية وقصص الأطفال لدعم مشروعها، وصولًا إلى مجموعة “حاباد الحاسيديم” الاستيطانية التي أطلقت مؤخرًا نواة استيطانية جديدة في الجولان المحتل.
كل هذه الجماعات ليست إلا انعكاسًا لفكر ترومبلدور، الأب المؤسس لأول نواة عسكرية صهيونية، والصديق المقرب لفلاديمير جابوتنسكي، صاحب نظرية “الجدار الحديدي”، ومن هاتين النظريتين انطلقت فكرة تأسيس جيش صهيوني خاض حروبًا عالمية في مناطق شتى، قبل أن يتحول إلى عصابات منظمة تستهدف الفلسطينيين بالتهجير القسري، والاستيطان، وحتى الإبادة.
في ملف “استيطان مدني”، نسلط الضوء مجددًا على جانب آخر من مكونات شبكة الدعم الصهيوني، التي ساهمت في تأسيس دولة الاحتلال وتعزيز بقائها سياسيًا واقتصاديًا وإقليميًا وثقافيًا.
هذه المرة نكشف عن الجذور العسكرية الأولى للظهور الصهيوني، ومراحل تطوره التي حولت “كتيبة البغال” إلى جيش متكامل، مدعوم بعتاد متطور وإمكانيات تسليح ذاتية. جيش انطلق في تنفيذ عمليات محو السكان الأصليين لفلسطين، مؤسسًا لنهج استيطاني استعماري متجدد، يتوسع مع كل فرصة تُتاح له على الأرض الفلسطينية.
كتيبة البغال (40)
في مخيمات القباري وضواحي الإسكندرية بمصر، استقر أكثر من 12 ألف يهودي أُجبروا على مغادرة فلسطين عقب قرار السلطات العثمانية بطردهم. هذه المنطقة أصبحت مأوى لهم، إلى جانب جاليات غربية أخرى اختارت الإسكندرية وجهة للاستقرار في ظل الاضطرابات الكبرى التي اجتاحت أوروبا مع بداية الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من تدهور اقتصادي دفع كثيرين إلى تغيير موطنهم بحثًا عن الأمن والرزق.
كان من بين هؤلاء جوزيف ترومبلدور، الضابط السابق في الجيش الروسي، الذي خدم على الجبهة اليابانية في عام 1905. لاحقًا، توجه إلى فلسطين حيث انضم إلى أول كيبوتس أُنشئ هناك، “دغانيا”، في عام 1910. بعدها، أصبح عضوًا في أول فصيل حراسة يهودي يُعرف باسم “هشومير”، وهو الفصيل الأمني الذي أثار انتباه جمال باشا، القائد الأعلى للجيش العثماني في فلسطين وسوريا، خاصة بعد كشف تورطه في عمليات ضد الوجود العثماني في فلسطين.
هذا الاكتشاف دفع جمال باشا إلى اتخاذ إجراءات صارمة تمثلت في سجن العديد من اليهود وترحيل حوالي 18 ألفًا منهم، استقر 12 ألفًا منهم في الإسكندرية، وكان من بينهم جوزيف ترومبلدور، وإسحاق بن تسفي، ودافيد بن غوريون.
في الإسكندرية، التقى ترومبلدور بزئيف جابوتنسكي، الذي كان قد أنهى دراسته في كلية الحقوق بإحدى الجامعات الإيطالية، وتوثقت العلاقة بينهما، مع تزايد إدراكهما المشترك بأن “الصهيونية، كحركة فكرية، لا يمكن أن تزدهر إلا بتحرير فلسطين من السيطرة العثمانية”.
وبينما فشلت المقالات والتقارير الصحفية التي كتبها جابوتنسكي في التأثير لصالح فكرته، تبنى ترومبلدور نهجًا أكثر براغماتية، متحمسًا لفكرة المشاركة الحربية إلى جانب بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، حتى لو كان ذلك في إطار فرقة إسناد مهينة تعمل تحت الراية البريطانية. بالنسبة له، كان الأهم هو استغلال هذا الوجود العسكري لتمهيد الطريق لاحقًا لتشكيل قوة عسكرية صهيونية داخل فلسطين، مؤمنًا بأن “أي جبهة معادية للأتراك ستؤدي إلى صهيون”.
مع ذلك، لم تحظَ الفكرة بالكثير من القبول، سواء بين اليهود أنفسهم أو البريطانيين، حيث واجهت قيادات الحركة الصهيونية، التي كانت لا تزال في طور التأسيس، صعوبات كبيرة في طرح فكرة دعم القوات البريطانية في احتلال فلسطين.
تجاهلت وزارة الدفاع البريطانية مقترحاتهم، في حين تعرضوا لانتقادات شديدة من تيارات يهودية رفضت فكرة تهجير اليهود إلى فلسطين، مفضلة الاندماج في مجتمعاتهم الأم. إلى جانب ذلك، عارضتهم بشدة جماعات من اليهود اليساريين في بريطانيا، الذين رأوا في المشروع الصهيوني انحرافًا عن مبادئهم.
لكن عوامل أخرى لعبت دورًا في قبول الجيش البريطاني للفكرة، فقد أدى تزايد الضغط السياسي والاجتماعي على اليهود في روسيا، وتنامي ظاهرة العداء لهم، إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى بريطانيا، وهناك حاولوا الاندماج في التيار الاقتصادي المحلي، إلا أن محاولاتهم قوبلت ببرود سواء على المستوى الحكومي أو الشعبي، ولذلك أصبح توظيفهم في الجيش البريطاني بمثابة مخرج ملائم لجميع الأطراف.
إضافة إلى ذلك، لعب الصندوق القومي اليهودي، الذي كان جابوتنسكي أحد أبرز الفاعلين فيه، دورًا حاسمًا في إقناع بريطانيا بالفكرة، فقد أظهر الصندوق قدرة استثنائية على جمع الأموال وإطلاق الحملات، وبلغ رأس ماله نحو 400 ألف جنيه إسترليني، ما ساعد في تعزيز قبول فكرة “المساهمة اليهودية في الاحتلال البريطاني لفلسطين”، خاصة أن الدعم المالي الكبير، إلى جانب توفير العتاد والجنود كان من جيب الحركة الصهيونية نفسها.
وبين إسطنبول، حيث كان جابوتنسكي يشغل منصب مسؤول شبكة الصحافة الصهيونية، والإسكندرية، التي انطلق منها ترومبلدور لتجهيز الرجال والعتاد، بدأت ملامح تأسيس الفيلق اليهودي تتشكل عام 1915، بعد أن وافقت الحكومة البريطانية على تجنيد عدد محدود من اليهود ضمن صفوف الجيش البريطاني.
في البداية، تشكلت كتيبة عسكرية حملت الرقم 40، وضمت 650 جنديًا يهوديًا من سائقي البغال، تولى قيادتها القائد البريطاني جون بيترسون، بمساعدة نائبه جوزيف ترومبلدور، الذي سرعان ما تولى قيادتها بمفرده، فمنح الكتيبة هوية يهودية واضحة، حيث استخدم اللغة العبرية فقط في إصدار الأوامر، واختار نجمة داوود في قلب الأسد البريطاني كشعار رسمي لها، ليجسد الطابع الصهيوني في العمل العسكري.
الكتيبة التي حملت اسم “كتيبة بغال صهيون” لم تبدأ عملياتها في فلسطين وما حولها، بل عملت في منطقة آسيا الصغرى، على جبهة غاليبولي العثمانية، حيث تولت مهام نقل الإمدادات إلى الخطوط الأمامية، وإسناد القوات البريطانية خلال محاولتها اختراق دفاعات الجيش العثماني.
ورغم نجاح الكتيبة في دعم السيطرة على مضائق الدردنيل، وطموحها في المساهمة بالسيطرة على إسطنبول وإسقاط الإمبراطورية العثمانية، إلا أن التقهقر العسكري البريطاني في أوائل عام 1916 أدى إلى إنهاء عمل الكتيبة وتفكيكها، مع توزيع أفرادها على مواقع أخرى.
لم تُعتبر نهاية عمل الكتيبة فشلًا للحركة الصهيونية، رغم مقتل 12 من أفرادها وإصابة 5 آخرين. على العكس، كان أداؤها المميز في مهام الإسناد والإمداد، وحصولها على 3 أوسمة عسكرية رفيعة وميدالية سلوك متميز، إضافة إلى رمزيتها كأول وحدة عسكرية يهودية تُنظم بعد أكثر من 1800 عام على سقوط مملكة يهوذا، نقطة تحول في الفكر العسكري الصهيوني، وأرضية جاهزة للبناء عليها لاحقًا.
الفيلق اليهودي
بفضل جهود الضغط والاستمالة العسكرية والسياسية، تمكنت الحركة الصهيونية من إقناع قادة الجيش البريطاني بإعادة تأسيس كتائب عسكرية يهودية تعمل على دعم وإسناد القوات البريطانية، بشرط أن يكون ميدانها العسكري فلسطين وما حولها.
بناءً على ذلك، تم جمع المتطوعين مجددًا من بريطانيا ومصر، وتأسيس 3 تشكيلات عسكرية جديدة، ضمت جميعها أفرادًا يهودًا، وكانت لغة الأوامر فيها مقتصرة على العبرية، كما رفعت شعار “المينوراة” (الشمعدان اليهودي).
بين عامي 1916 و1917، تم تنظيم هذه التشكيلات التي عُرفت لاحقًا بـ”الفيلق اليهودي”، وبدأت بالكتيبة 38، المسماة “حملة البنادق الملكية”، وصولًا إلى الكتيبة 42، وبلغ قوامها نحو 6400 مجند، حيث تولى زئيف جابوتنسكي قيادة الكتيبة 38 بعد ترقيته إلى رتبة “فريق”، في حين واصل جوزيف ترومبلدور قيادته للكتيبة 40، مؤكدًا على الطابع الصهيوني العسكري في هذه التشكيلات.
أما الكتيبة 39، التي تمّ تشكيلها بعد إعلان الولايات المتحدة دخولها الحرب إلى جانب بريطانيا في يناير/ كانون الثاني 1918، فقد أشرف على تنظيمها ديفيد بن غوريون وإسحاق بن تسفي، وتشكلت من يهود أمريكيين قدموا من الولايات المتحدة والأرجنتين وكندا. وبينما تمركزت معظم الكتائب في مصر، بدأت الكتيبة 39 تدريباتها في شرق الأردن.
رغم الإعداد العسكري الكبير، لم يكن ذلك يعني بالضرورة مشاركة فعالة في الهجوم البريطاني على فلسطين، ففي الفترة ما بين عام 1917 وعام 1920، لم تشارك الكتائب العسكرية اليهودية في أي عمليات قتالية داخل فلسطين. ورغم ذلك، دخل جزء من هذه الكتائب إلى فلسطين مع تقدم القوات البريطانية في الجنوب نهاية عام 1917، بعد السيطرة على الجزء الجنوبي من البلاد.
أما الكتائب العسكرية المتمركزة شرق نهر الأردن، فقد أصيب أفرادها بالملاريا، ما أدى إلى انخفاض كبير في أعداد المجندين النشطين، حيث تراجعت الأعداد إلى 150 جنديًا فقط من أصل 800. نتيجة لذلك، تم تكليف هذه الكتائب بمهمة السيطرة على معابر نهر الأردن والمناطق المحيطة بها، وبعد محاولتين تمكنت الكتيبتان 38 و39 من عبور النهر والسيطرة على مدينة السلط، وهو ما اعتبره الجنرال اللنبي “مساهمةً في الانتصار العظيم في دمشق”.
كانت هذه المهمة العسكرية الوحيدة التي قام بها الفيلق اليهودي خلال الحرب العالمية الأولى، قبل أن يكتمل الاحتلال البريطاني لكامل أرض فلسطين، وهو ما أتاح للكتيبتين 38 و39، بالإضافة إلى الكتيبة 40، التمركز بحرية داخل فلسطين، ومع مرور الوقت أصبح معروفًا أن الفيلق اليهودي هو فوج “يهودا”، وتحولت مهمته إلى تأمين الاتصالات ودعم الحراسة والسيطرة على المواقع المحتلة.
بحلول ذلك الوقت، كان قوام الكتائب الثلاث قد وصل إلى 5 آلاف يهودي، وأمام الحاجة البريطانية الملحّة للتوسع الاستعماري في مناطق أخرى، تم تقليص الوجود العسكري البريطاني في فلسطين لصالح زيادة الوجود العسكري اليهودي، الذي بلغ حينها حوالي 15% من إجمالي القوة العسكرية البريطانية على الأرض الفلسطينية.
مع تصاعد أحداث الحرب العالمية الأولى، اكتسب الوجود العسكري اليهودي في فلسطين زخمًا كبيرًا ودعمًا من قبل البريطانيين، وأصبح وجود أفراد الكتائب في معسكرات التدريب البريطانية أمرًا اعتياديًا، كما تولت الحركة الصهيونية مهمة تطوير هذه الكتائب، من خلال تزويدها بالأسلحة وتجديد الخبرات العسكرية لعناصرها.
رغم انخراطه في التدريب إلى جانب البريطانيين ومحاولات دمج العرب معهم، حافظت التشكيلات العسكرية اليهودية على نمط من السرية والاستقلال، فقد ظلّت ملتزمة بالخطة الاستراتيجية للحركة الصهيونية التي كانت تهدف إلى تأسيس وجود دائم وثابت في فلسطين، مدعومًا بقوة عسكرية. وعليه، قامت بتحديث كتائبها وأطلقت على كل منها اسمًا مختلفًا، مثل “الحارس” و”قوات الدفاع الذاتي” و”فرق العمال”.
وفي الوقت نفسه، عاد جوزيف ترومبلدور إلى روسيا، حيث بدأ العمل على تأسيس جيش يهودي هناك يضمّ بين 70 و100 ألف مجند، بهدف الوصول إلى فلسطين عبر اختراق الجبهة التركية، والتزم بخطه الأساسي في تدريب المجندين اليهود، ففتح عضوية جيشه لجميع الشبان اليهود الذين بلغوا سن الـ 18، وجعل تعلم اللغة العبرية، بالإضافة إلى إتقان الزراعة والقتال، شرطًا أساسيًا لإكمال العضوية والانضمام إلى الجيش.
انطلق بن غوريون وجابوتنسكي في توحيد الجهود العسكرية اليهودية تحت مظلة وحدة واحدة، فمع تأسيس “الهستدروت” في نهاية عام 1920، والتي كانت بمثابة نواة “الوطن القومي اليهودي”، تم إقرار حل الكتائب الثلاث ودمجها في كتيبة واحدة، أُطلق عليها اسم “الكتيبة العبرية”، وسرعان ما عُرفت باسم “الهاغاناه”، التي اعتبرتها الحركة الصهيونية أول قوة عسكرية يهودية مستقلة من حيث المنشأ والهدف.
من الفيلق إلى الجيش
لم يمرَّ التحول من الفيلق إلى الجيش تحت مسمى “الهاغاناه” بسلاسة ويسر، خاصة بين بن غوريون وجابوتنسكي، إذ كان الأخير يطمح إلى إنشاء قوة عسكرية يهودية علنية قادرة على التدريب والتجنيد، حتى وإن كانت تحت الإمرة البريطانية. في المقابل، كان بن غوريون يرى أن السرية والتكتم يجب أن يكونا أولوية، خاصة أن بريطانيا، رغم وعودها، كانت تتوخى الحذر خوفًا من غضب العرب.
امتد الخلاف بين بن غوريون وجابوتنسكي إلى التعامل مع المواقف البريطانية السياسية، إذ كان بن غوريون يعتقد بأهمية التماهي مع السياسات البريطانية في العلن، مع مخالفتها سرًّا، وقبول فكرة الوطن اليهودي غرب نهر الأردن فقط. في المقابل، دعا جابوتنسكي إلى مخالفة المواقف البريطانية علنًا وسرًّا، والمطالبة بضمّ شرق النهر إلى الوطن القومي اليهودي المستقبلي. هذا الخلاف السياسي والعسكري أدى في النهاية إلى انفصال كل منهما عن الآخر على الصعيدين العسكري والسياسي.
بينما تسبّبَ سقوط الحكومة الروسية في فشل مشروع ترومبلدور، تمكنت أفكاره حول التطوع في الجيش اليهودي من الانتشار في أوروبا الشرقية والوسطى، وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، كما عاد ترومبلدور إلى فلسطين، حيث قُتل في هجوم شنه المقاومون العرب على مستعمرة تل حاي، التي كانت قد بُنيت على أنقاض بلدة طلحة في الجليل الشمالي، وذلك في عام 1920.
تكريمًا له، أنشأ جابوتنسكي في عام 1923 منظمة “بريت ترومبلدور” (بيتار)، التي قامت على المطالبة بإسرائيل الكبرى ذات الطابع الصهيوني الذي لا يتبنى الاشتراكية ولا الليبرالية، معتمدة على التجنيد والتدريب العسكري الصارم، وكان شعارها يتضمن خريطة لفلسطين والأردن، مع صورة بندقية مكتوب حولها “راك كاخ” أي “هكذا وحسب”.
عُرفت لاحقًا منظمة “بريت ترومبلدور” باسم منظمة “أرغون” أو “ايتسل”، التي استهدفت البريطانيين والفلسطينيين على حد سواء من خلال تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية والمذابح، من بينها مذبحة دير ياسين الشهيرة.
من جهة أخرى، اتجه بن غوريون، بدعم من الهستدروت، إلى تحويل “الهاغاناه” إلى “الجيش اليهودي”، بهدف استخدامه لاحقًا كقوة عسكرية وسياسية، لكن جهوده لم تنجح في تجنيد أكثر من 3800 مجند، وذلك بسبب عدم رغبة الأقلية اليهودية في الكيبوتسات واليشوفات الزراعية في المشاركة بالعمل العسكري، إضافة إلى الموقف البريطاني الحذر من رد الفعل العربي.
بقيَ الحال على ما هو عليه حتى عام 1931، حين تزايد خطر ألمانيا النازية، ما دفع المزيد من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ما أسهم في تفاقم نفوذ الحركة الصهيونية، التي باتت تعقد مؤتمرات علنية تؤكد فيها عزمها على إنشاء دولة وحكومة يهودية على أرض فلسطين، ثم مع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، توسعت امتيازات الجيش اليهودي.
فقد بدأ الضباط البريطانيون يعتمدون بشكل أكبر على القوة العسكرية اليهودية وشراكتها لهم في قمع الثورة الفلسطينية، كما وافقوا على تأسيس مجموعات نظامية يهودية خالصة تهدف إلى حماية المستعمرات اليهودية. وفي الوقت نفسه، تمكنت القيادات السياسية والعسكرية الصهيونية من اللعب على الحبلَين البريطاني والأمريكي، مستفيدة من الظروف المتاحة لتطوير الجيش اليهودي ودعمه بقرارات سياسية تعزز من قوة الحركة الصهيونية.
وهكذا خرج الجيش اليهودي إلى العلن من خلال “شرطة المستعمرات اليهودية”، التي استمرت في الانخراط في التوسع الاستيطاني ومهاجمة المدن والقرى العربية، مدفوعة برؤية قائدها بن غوريون الذي كان مرتاحًا للتفوق السياسي والعسكري لليهود، معتبرًا أن الحركة الصهيونية قد خرجت من دائرة الخطر، وأن العلاقة مع العرب لا يمكن تحديدها إلا من خلال الحل العسكري، وليس السياسي.
وبحلول نهاية عام 1939، بلغ تعداد الجيش اليهودي ما بين الهاغاناه وشرطة المستعمرات اليهودية أكثر من 67 ألف مجند، منتشرين في 270 نقطة استيطان، كانوا يتلقون التدريب بالتعاون مع الوكالة اليهودية، ويملكون عتادًا متطورًا يتجاوز أكثر من 4500 بندقية، و10 آلاف مسدس، و230 مدفعًا رشاشًا.
ثم دعم الجيش البولندي والبريطاني الجيش اليهودي بأكثر من 10 آلاف قنبلة يدوية، ومليوني طلقة، و2750 بندقية بولندية، و7860 بندقية بريطانية، بالإضافة إلى 96 مدفعًا رشاشًا، وكان من أبرز المقاتلين في تلك الفترة كل من موشيه ديان، وإسحاق رابين، ويغال آلون.
ومع نهاية الثلاثينيات، أطلق الجيش اليهودي برنامجًا إجباريًا للذكور والإناث اليهود، الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عامًا، للبدء بتدريب عسكري تمهيدي يشمل التمريض وآليات الدفاع، وسرعان ما توسع البرنامج ليشمل مختلف أفراد المهاجرين اليهود، حيث تم تدريب الأطباء على الخدمة العسكرية الطبية، كما تمّ الاستعانة بالعلماء في تطوير الصناعة العسكرية اليهودية.
على وقع الحرب تزدهر الصهيونية
لم يمضِ وقت طويل حتى دقت طبول الحرب العالمية الثانية، ومعها حملت من دور أمريكي أكبر وانحسار في القوة البريطانية، وانتشار لأخبار الهولوكوست والعلاقات العربية الألمانية المتقاربة، وفي ظل هذه التحولات استطاع الجيش اليهودي تحقيق نقلة نوعية في تاريخه.
بدأت هذه النقلة من خلال استعادة دور الفيلق اليهودي عبر الجيش لإسناد البريطانيين في حربهم، ما أسهم في زيادة المكاسب السياسية والعسكرية للمشروع الصهيوني، ثم توسعت طموحاتهم نحو تحقيق الاستقلال اليهودي، لينتهي المطاف بتحولهم من الكفّة البريطانية إلى الكفّة الأمريكية.
تشكلت لجنة يهودية بريطانية تعمل كلوبي للضغط على الحكومتين البريطانية والأمريكية لتوسيع قدرات الجيش اليهودي. وفي نفس الوقت انطلق كل من حاييم وايزمان، وديفيد بن غوريون، وفلاديمير جابوتنسكي في العمل على كسب دعم اليهود الأمريكيين، من خلال العديد من المنظمات الصهيونية الأمريكية مثل “لجنة الطوارئ الصهيونية” و”الأصدقاء الأمريكيين”، بهدف حشد الرأي العام الأمريكي لدعم الجيش اليهودي وتجاوز مخاوف ازدواجية الولاء في الولايات المتحدة، وكذلك القلق من معاداة السامية في أوروبا.
وبينما توفي جابوتنسكي جراء أزمة قلبية أثناء وجوده في الولايات المتحدة، واصل أنصاره من جهة، وبن غوريون ووايزمان من جهة أخرى، توسيع البنية التحتية العسكرية للجيش اليهودي وتطويره ليصبح أكثر استعدادًا لمواجهة الفلسطينيين والعرب. بالإضافة إلى ذلك، تمكنوا من تهريب معدّات عسكرية متطورة بلغت قيمتها أكثر من 20 مليون دولار من الولايات المتحدة دون اكتشافها من قبل السلطات البريطانية.
مع وصول هاري ترومان إلى الإدارة الأمريكية في عام 1945، وميوله لدعم الحركة الصهيونية، بالإضافة إلى تفوق قوات المحور في بداية الحرب العالمية الثانية، إلى جانب المساهمة الفعّالة من قبل الهاغاناه في دعم الحلفاء، استطاع الجيش اليهودي أن يصل إلى وضع سياسي وعسكري مثالي.
وفي أواخر عام 1944، أعلنت بريطانيا عن إقامة فرقة يهودية داخل الجيش البريطاني، حيث تم إرسال هذه الفرقة للمشاركة في 40 جبهة قتال أوروبية، كانت تحمل علمًا يهوديًا خاصًّا بها، وارتدى أفرادها ملابس عسكرية مميزة، ما منح المجندين “رضًا كبيرًا” من خلال تمييزهم عن بقية الأعراق المشاركة في القتال.
نتيجة لقرار رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ونستون تشرشل، تأسّست 3 أذرع عسكرية يهودية إضافية: الأولى اللواء المجهز بالدبابات والمدفعية الذي ضمّ حوالي 6 آلاف مجند يهودي، والثانية وحدة “البلماخ” التي كانت تتمتع بحرية أكبر في تنفيذ المهام العسكرية في جميع الأراضي التي يتواجد بها الجيش البريطاني، والثالثة ذراع احتياطية يهودية، وبلغ إجمالي عدد الجنود في هذه الأذرع أكثر من 24 ألف مجند يهودي.
وفي الوقت نفسه، زاد الاعتماد البريطاني على المصانع العسكرية اليهودية التي ساهمت بشكل كبير في توفير المعدّات الحربية، حيث كانت تنتج أكثر من 3 ملايين لغم أرضي، إلى جانب 7 ملايين وعاء فولاذي عسكري، بينما بلغت قيمة الإنتاج الحربي لصالح الجيش البريطاني أكثر من 33 مليون جنيه إسترليني.
مع منتصف عام 1945، وصلت ميزانية منظمة الهاغاناه إلى 7.5 ملايين دولار أمريكي، وانطلقت الصناعة العسكرية اليهودية تتوسع على مبدأ شراء المخلفات الحربية من الأسلحة والمعدّات العسكرية، ومن ثم إعادة تدويرها، فشُحنت مئات الأطنان من المعدّات العسكرية الأمريكية والبريطانية إلى فلسطين بأسعار زهيدة، وتمّ تهريب الأسلحة الجديدة من خلال هذه السياسة بتكاليف منخفضة إلى اليد الصهيونية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حصلت الحركة الصهيونية على وعود أمريكية قوية بدعمها في قمع أي مقاومة فلسطينية تتصدى لخطة بلتمور، فتم تقويض “الكتاب الأبيض” البريطاني، وتقديم التعهدات بإقامة وطن قومي يهودي عبر قوة عسكرية يهودية تقاتل تحت العلم اليهودي وتخضع لقيادة الأمم المتحدة العليا.
كما ربط برنامج بلتمور بين السلام والعدالة والمساواة في فلسطين، مشددًا على ضرورة السيطرة اليهودية على الأرض، ودمجها في الهيكل الديمقراطي العالمي الحديث، وكان من ضمن أهدافه تقويض العلاقة بين عرب فلسطين والدول العربية المجاورة ووقف جميع أشكال الدعم والإسناد التي كانت تأتي من هذه الدول.
خلال السنوات الثلاث التي سبقت النكبة، شنت قوات الهاغاناه وايتسل والبلماخ هجمات ضد العرب والبريطانيين، اعتراضًا على القرارات السياسية البريطانية التي رفضت منحهم السيطرة الكاملة على أرض فلسطين، وكذلك رفضًا لقرارات تقسيم فلسطين الصادرة عن المجتمع الدولي، وتصاعد الصراع بين الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، خاصة بعد احتلال الجيش البريطاني مقر الوكالة اليهودية في عام 1946، وتفجير فندق الملك داود في العام نفسه.
بين نهاية عام 1947 ومنتصف عام 1948، شنّ الجيش اليهودي، المدعوم من الولايات المتحدة، هجومين رئيسيين: الأول كان ضد الجيش البريطاني بهدف دفعه للخروج من فلسطين، والثاني ضد الفلسطينيين في محاولة لتهجيرهم من مدنهم وبلداتهم.
وفي الوقت نفسه، اتخذت القيادات السياسية الصهيونية قرارًا بالموافقة على خطة تقسيم فلسطين لتأخير دخول الجيوش العربية إلى جانب الفلسطينيين، كما تم عقد اتفاقات ثنائية مع القيادات العربية، مثل اتفاقية بيجن أبو الهدى مع المملكة الأردنية، لتنسيق مواقفهم العسكرية والسياسية.
مع انحسار الوجود البريطاني تدريجيًا في فلسطين، توسعت السيطرة الصهيونية على الأرض بشكل متسارع، وفي حين استمرت بريطانيا في معارضتها لقيام دولة فلسطينية تحت زعامة أمين الحسيني، مفضلةً ضمّ المناطق المتبقية مثل رام الله ونابلس إلى شرق الأردن، تمكنت العصابات الصهيونية من الاستيلاء على معظم أنحاء فلسطين.
مدعومة من أكثر من 94 ألفًا و500 مجند، مزودين بالعتاد العسكري والأسلحة وبدعم سياسي وعسكري من بريطانيا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى اتفاقات عربية سابقة تسهم في تعزيز الكينونة اليهودية، نجح الجيش اليهودي مع منتصف مايو/ أيار 1948 في السيطرة على معظم فلسطين.
وقد واجه هذا الجيش 5 آلاف جندي عربي غير نظامي فقط، إلى جانب بضع آلاف من الفلسطينيين الذين كانوا مشتتين بين الحسيني والنشاشيبي، وفي حال من الانقسام بين انتظار الجيوش العربية أو المقاومة بأسلحة ضعيفة ومعطوبة.
ختامًا، من المهم أن نفهم أن ما يُقال اليوم عن تفوق جيش الاحتلال الإسرائيلي على الجيوش العربية أو المقاومة الفلسطينية لا يمكن أن يُفصل عن حقيقة تأسيسه وتطويره، والدعم الغربي الذي حصل عليه، وكذلك المناورات العسكرية والسياسية التي اتبعتها قياداته، فقد عملت كل هذه العوامل على تأسيس كيان واحد، رغم اختلاف الحدود والسياسات.
وفي الوقت ذاته، يجب ألا نستخدم هذه المقارنة لإظهار العجز والتخاذل، بل ينبغي أن تُستند إلى مبدأ الطموح الجاد سياسيًا وعسكريًا في مواجهة الاحتلال. بالطبع، ستظل الفجوة بين الجانبين قائمة، وقد تتسع أحيانًا وقد تتقلص في أحيان أخرى، لكن هذا لا يعني التوقف عن السعي الدائم لتحويل المقارنة من جبهة الإعداد والتسليح إلى جبهة الإيمان بالحقوق وأهمية استعادتها.