في ظل الضغوط الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة ضدها واستهدفت جل القطاعات على رأسها النفط الذي يعد المورد الأول للبلاد، لم تجد إيران بدًا من تجاوز حدودها وتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع جيرانها ومحيطها الإقليمي كخيار إسترايتيجي للصمود وتخفيف حدة التوتر دون تقديم تنازلات.
تحركات مكثفة تبذلها طهران لإعادة ترتيب أوراقها مع جيرانها تأتي وفق رؤية إستراتيجية تنطلق من قناعات مسؤوليها بأن تنمية العلاقات الاقتصادية معهم يزيد من قدرتها على الصمود في مواجهة التهديدات، ومن ثم يمكن قراءة الجهود الدبلوماسية المغلفة بالصبغة الاقتصادية التي تبذلها إيران في هذا الإطار.
ويعد الاتحاد الأوراسي (روسيا وبلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزيستان) بجانب منطقة القوقاز الشمالي في الاتحاد الروسي أحد أبرز المسارات التي لجأت إليها السلطات الإيرانية لتعزيز العلاقة معهم خلال الآونة الأخيرة في محاولة منها لمواصلة صمودها في مواجهة واشنطن دون أن تدفع ثمنًا سياسيًا.
شراكات واسعة
شهدت مدينتا طهران وأصفهان على مدار الأيام الثلاث الماضية عددًا من الفعاليات التي تصب في تحقيق الرؤية الإيرانية نحو تعزيز اقتصادها عبر الدخول في شراكات اقتصادية قوية مع جيرانها، على رأسها المؤتمر الـ15 للجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري بين إيران وروسيا والندوة الثانية لآفاق التعاون التجاري والثقافي بين إيران ومنطقة القوقاز الشمالي في الاتحاد الروسي.
وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الطاقة الإيراني رضا أردكانيان عقب الانتهاء من تلك الفعاليات، أكد أن التعاون بين بلاده ودول الجوار خطوة مهمة نحو تقوية الطرفين، كاشفًا أن المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة تتطلب توسيع دائرة التشابكات الاقتصادية لمواجهة التحديات الراهنة.
أردكانيان أضاف أن تنفيذ مشروع ممر الشمال/جنوب من شأنه أن يشكل ميزة جيدة لهذه البلدان لتصدير منتجاتها الزراعية ويمهد الأرضية لهم لتصدير منتجاتهم عبر طريق أقصر، كاشفًا إبرام اتفاقات جديدة بين وزارتي الزراعة الإيرانية والروسية، معربًا عن أمله في تنفيذ هذه الاتفاقات عبر إزالة العقبات المصرفية، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية “فارس“.
يمثل اتحاد أوراسيا الذي ترؤسه روسيا بجانب 4 دول أخرى ويقع على مساحة 20 مليون كيلومتر وتعداد سكاني يبلغ 180 مليون نسمة، فرصة جيدة لإنعاش الاقتصاد الإيراني وفتح أسواق جديدة
كما أشار إلى أن بلاده أجرت مباحثات مكثفة مع جيرانها الشماليين بما فيهم روسيا وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا، لكي تتمكن من إيجاد شبكة كهرباء مشتركة مع هذه البلدان، موضحًا أن تحقيق هذا الأمر من شأنه أن يسهم في استقرار شبكة الكهرباء في هذه البلدان ويؤدي إلى النهوض بمستوى تبادل الطاقة الكهربائية بين هذه البلدان.
وتابع الوزير “يوجد هناك تعاون جيد في مجال الخدمات الهندسية في إطار لجنة التعاون الاقتصادي المشتركة بين إيران وروسيا”، مشيرًا إلى إجراء مباحثات أخرى لتشكيل شركات مشتركة بين البلدين وتقديم خدمات هذه الشركات إلى دول المنطقة بما يعزز مستقبل العلاقات بينهم.
لافتًا في الوقت ذاته إلى أن منطقة القوقاز الشمالي بعدد سكانها البالغ 10 ملايين نسمة “تحتل موقعًا حيويًا في تنمية العلاقات التجارية بين إيران وروسيا، وتشكل بوابة لتصدير السلع بين البلدين”.
ومن المشروعات التي ركز عليها أردكانيان خلال لقائه مع نظيره الروسي، غير الـ12 مشروعًا الذي تم توقيعهم على هامش المؤتمر، مشروع “ممر الشمال/الجنوب” (يربط المحيط الهندي ومنطقة الخليج مع بحر قزوين مرورًا بإيران، ثم يتوجه إلى سان بطرسبرغ الروسية ومنها إلى شمال أوروبا، وسينقل سنويًا 10 ملايين طن) الذي أكد أنه في حال اكتماله فإنه يمثل “امتيازًا للدول الجارة لتصدير منتجاتها عبر طريق أقصر إلى الخارج”.
ويعتبر هذا المشروع أحد أرخص الطرق الرابطة بين قارة آسيا وأوروبا وبذلك ينافس قناة السويس، إذ إن تكاليف النقل عبره تتقلص بمقدار 2500 دولار مقابل كل 15 طنًا، هذا فضلاً عن أن ذلك يستغرق 14 يومًا فقط، في مقابل 40 يومًا عبر طريق قناة السويس.
أثار الاتحاد الأورواسي الجمركي حفيظة الولايات المتحدة بصورة كبيرة، كونه يمثل تهديدًا لمصالحها في المنطقة من جانب، ويقوض نفوذها وهيمنتها على الاقتصاد العالمي من جانب آخر، حيث رأت فيه محاولة لإعادة تأسيس الهيمنة الروسية بمفهوم الاتحادالسوڤيتي بين دول ما بعد الاتحاد
الاتحاد الأوراسي.. نقطة تحول
تكثيف إيران من تحركات التعاون مع روسيا يتزامن مع قرب الانضمام إلى اتحاد أوراسيا الاقتصادي، حسبما نقلت وكالة أنباء “إيرنا” الإيرانية (رسمية) عن وزير الطاقة الإيراني، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الوزير الروسي لشؤون شمال القوقاز سيرغي تشيبوتاريف، الذي قال فيه إن بلاده ستسهل العلاقات بين القطاعات الخاصة لروسيا وإيران لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
الوزير ألمح إلى قرب إنهاء إجراءات الانضمام إلى الاتحاد الأوراسي، تلك الخطوة التي يعتبرها كفيلة بأن تزيد حصة إيران في السوق الروسية، إضافة إلى توفير أفضلية في الرسوم الجمركية لنحو 800 سلعة، وهو ما يمثل نقطة نوعية كبيرة في إطار ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي لطهران في الوقت الراهن.
ويمثل اتحاد أوراسيا الذي ترؤسه روسيا بجانب 4 دول أخرى ويقع على مساحة 20 مليون كيلومتر وتعداد سكاني يبلغ 180 مليون نسمة، فرصة جيدة لإنعاش الاقتصاد الإيراني وفتح أسواق جديدة تستطيع من خلالها تعويض العجز الناجم عن العقوبات الأمريكية المفروضة التي تستهدف سيادة القرار السياسي الإيراني في المقام الأول.
وبلغ حجم صادرات إيران إلى روسيا 250 مليار دولار أمريكي في السنوات الماضية، إلا أنه شهد ارتفاعًا في السنوات الأخيرة على رأسها العام الماضي بنسبة 7.4% حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال 2018 قرابة ملياري دولار سنويًا، وهو رقم كبير قياسًا بالسنوات السابقة.
وزير الطاقة الإيراني والروسي على هامش توقيع اتفاقات تعاون مشتركة
لماذا يقلق الأمريكان؟
تأسس الاتحاد الجمركي الأوراسي في يناير 2010 بمشاركة 3 دول هي “روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا” وكان يهدف إلى تدشين تحالف اقتصادي على خطى الاتحاد الأوروبي، وبعد عام واحد فقط ساهم الأعضاء في تاسيس مفوضية مشتركة لتعزيز الروابط الاقتصادية، وكانت اللبنة الأولى لتأسيس الاتحاد الأوراسي بحلول 2015.
أثار الكيان الجديد حفيظة الولايات المتحدة بصورة كبيرة، كونه يمثل تهديدًا لمصالحها في المنطقة من جانب، ويقوض نفوذها وهيمنتها على الاقتصاد العالمي من جانب آخر، حيث رأت فيه محاولة لإعادة تأسيس الهيمنة الروسية بمفهوم الاتحاد السوڤيتي بين دول ما بعد الاتحاد.
فرض الاتحاد نفسه على خريطة الاقتصاد الدولي مبكرًا، فوفق بعض الخبراء فإنه سيكون علامة فارقة في دفع خريطة التحالفات الاقتصادية العالمية إلى إعادة تشكيل مرة أخرى، وهو ما ذهب إليه خبير العلوم السياسية، البرتغالي برونو ماكايس الذي توقع انكماش دور الاتحاد الأوروبي في العالم بشكل عام، ليس بسبب ضعفه أو انهياره أو تراجع في قدرته على المواكبة، بل بسبب بزوغ نجم منطقة جغرافية أخرى أهم وأوسع بكثير، من شأنها أن تحل محل دول أوروبا الشرقية والغربية على حد سواء.
هناك بنى تحتية وتاريخية قوية تربط بين أوروبا وآسيا، كما تجمعهما حدود مسامية للغاية ومتحركة باتجاهين، لا سيما بعد سقوط جدار برلين، الأمر الذي يتطلب على أوروبا أن تكون أكثر ذكاءً في إعادة تشكيل خريطة توجهاتها الخارجية
ماكايس الذي عمل وزير دولة سابق للشؤون الأوروبية، ويشغل حاليًّا منصب كبير مستشارين في مؤسسة “فلنت غلوبال” في لندن لفت إلى أن منطقة أوراسيا التي تضم 90 بلدًا، وتغطي مساحة لا تقل عن 55 مليون كيلومتر مربع، ويزيد عدد سكانها على 5 مليارات شخص، وهي التي تمتد على مجمل الأراضي الأوروبية والآسيوية، من لشبونة إلى شنغهاي أو إلى جاكارتا، سيكون لها حضور اقتصادي قوي خلال السنوات القادمة.
وفي كتابه الذي يحمل عنوان “فجر أوراسيا: على خطى النظام العالمي الجديد”، قال: “أوراسيا هي أضخم منطقة برية في الكرة الأرضية، وهو المكان الذي شهد ولادة وتطور أعظم الحضارات في تاريخ الإنسان على الأرض”، كما ينقل عن مؤرخ مهم هو جون دارون قوله في عام 2007: “مركز الجاذبية في تاريخ العالم الحديث يقع في أوراسيا”.
ويرى الكاتب البرتغالي أن هناك بنى تحتية وتاريخية قوية تربط بين أوروبا وآسيا، كما تجمعهما حدود مسامية للغاية ومتحركة باتجاهين، لا سيما بعد سقوط جدار برلين، الأمر الذي يتطلب من أوروبا أن تكون أكثر ذكاءً في إعادة تشكيل خريطة توجهاتها الخارجية، وأن تعيد النظر في علاقاتها مع دول هذا الكيان الجديد.
وفي المجمل.. يبدو أن ستار الحرب الباردة بين واشنطن وطهران – أيًا كانت أسبابها – لن يسدل قريبًا، في ظل المكاسب الهائلة التي تحققها أمريكا من ورائها لا سيما من حلفائها الخليجيين، وهو ما دفع إيران للبحث عن بدائل جديدة تستطيع من خلالها التصدي لتلك المواجهات التي تعتمد في المقام الأول على سياسة النفس الطويل، وهو ما فطن إليه الإيرانيون سريعًا، الأمر الذي يجعل من المرجح خلال الفترات القادمة مزيدًا من تلك التحركات التي تعزز بها الدولة الإسلامية شراكاتها الاقتصادية مع دول الجوار.