ملفات عديدة شائكة برزت خلال حديث أحمد الشرع، قائد إدارة العمليات العسكرية في سوريا، خلال مقابلة أجراها على قناة “العربية” السعودية. تتعلق تلك الملفات بخططه المستقبلية ومنهجية إدارة البلاد، وتصوراته لاحتياجات المرحلة القادمة.
ومن بين أهم الملفات التي تناولها الشرع، مسألة تنظيم انتخابات حرة والتعهُّد بصياغة دستور جديد أهم عقدة في بناء الدولة الجديدة، إضافة إلى القرار الأممي 2254 الذي رأى أن جوهره والمتمثل بإعادة اللاجئين وإطلاق سراح المعتقلين وانتقال السلطة بشكل سلمي، قد تمّ تحقيقه إلى حدّ كبير.
الانتخابات والدستور
أوضح الشرع “النهج” الذي يتبعه في قيادة البلاد والمراحل السياسية المتعددة التي تسبق اختيار شخصية الرئيس، والتي تتعلق بإجراء الانتخابات وتنظيم الدستور الوطني، إذ قال إن “تنظيم انتخابات في سوريا قد يستغرق 4 سنوات، حيث أن أي انتخابات سليمة ستحتاج إلى إجراء إحصاء سكاني شامل”، مشيرًا إلى أن “إعداد وكتابة دستور جديد قد يستغرقان أيضًا نحو 3 سنوات”.
وأكد أن أي انتخابات سليمة تتطلب إحصاء سكاني شامل ودقيق، إذ لن تكون ممكنة قبل تجهيز بنية تحتية مناسبة تشمل إحصاءات دقيقة وتواصلًا قانونيًا مع الجاليات السورية في الخارج، فضلًا عن أن كثيرًا من السوريين في الخارج يفتقرون إلى قيود مدنية ثابتة، ما يستدعي توثيق الولادات والوفيات، فإدارة المرحلة يجب أن تتم بعقلية الدولة.
تصريحات الشرع لاقت جملة من الانتقادات، لا سيما بخصوص طول مرحلة تنظيم الانتخابات وكتابة الدستور وكيفية إدارة الدولة خلال هذه الفترة، وما إذا كانت عمليات الإحصاء والتواصل القانوني مع الجاليات تستدعي هذه السنوات، مع إمكانية طرح خيار الاعتماد على دستور مؤقت وقوانين مؤقتة.
ومن المعلوم أن تنظيم انتخابات وبناء دستور جديد للبلاد ليسا سهلَين، فهو يتطلب مشاورات واسعة بين أصحاب الخبرة القانونية ولجان تكنوقراط وممثلين عن الأقليات والطوائف، لا سيما مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة السورية والمجتمع المتنوع دينيًا وإثنيًا وقوميًا وطائفيًا وتعدد التيارات السياسية، فضلًا عن وجود قرابة نصف السكان السوريين خارج سوريا.
يرى الناشط السياسي رضوان الأطرش، أن الانتخابات سواء انتخابات المجالس المحلية أو البرلمانية أو الرئاسية، تحتاج لجهد وطني كبير وإحصاء دقيق والتأكد من هويات الشباب السوريين الفاقدين للهوية الوطنية، وإثبات مواليد ووفيات الحرب والمواليد خارج الأراضي السورية، إضافة إلى مراجعة وضع المجنّسين في عهد النظام البائد بعد فتحه باب التجنيس على مصراعيه لأفراد الميليشيات الأجنبية التي كانت تقاتل معه.
مضيفًا أن هذه الآلية تحتاج للمدة المطروحة من الشرع، مع مراعاة ضبط الأمن والسلم الأهلي اللذين يشكّلان أولوية للإدارة الجديدة وللشعب السوري، لا سيما أن الواقع السوري وحالة الشعب الممزقة من كل النواحي تحتاج إلى وقت كافٍ حتى تلتئم، وحتى تعود الحالة المجتمعية والسياسية إلى ما كانت عليه.
ويشير الأطرش خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن الكثير من الدول استغرقت سنوات طويلة لكتابة دساتيرها، فألمانيا مثلًا بدأت بكتابة دستورها في العام 1945 وانتهت بعد 4 سنوات، وبقيَ يوصف دستورها بالمؤقت حتى عام 1990 حين اُعتمد نهائيًا، كما أن دولة العراق استغرقت سنتين وتونس 3 سنوات.
وختم الأطرش بالتأكيد على أن كتابة الدستور تحتاج إلى خبرات ولجان مختصة لا توضع أمامها أي عراقيل وتعمل بأريحية تامة، على عكس ما فعل النظام البائد مع اللجنة الدستورية المنبثقة عن اجتماع سوتشي عندما كان يعطّل عملها، فخلال 5 سنوات لم تستطع كتابة حرف واحد من الدستور.
مدة منطقية وتخوفات مشروعة
يصف المحامي السوري عارف الشعال المدة التي حددها الشرع بـ”المنطقية”، لأن الدستور ليس نصًّا تضعه لجنة فنية تقوم بصياغته خلال فترة وجيزة، إنما عملية بناء تقوم به مختلف القوى السياسية التي تحتاج وقتًا لتتوافق على شكله، كما أن الكثير من المسائل المعقدة، مثل شكل الدولة ونظام الحكم والقوانين والحريات والتعددية، تتطلب وقتًا طويلًا للتوافق عليها.
واستشهد الشعال بتجارب دولية لإظهار الحاجة للوقت في صياغة الدساتير، مثل تجربة تونس التي استغرقت 3 سنوات لكتابة دستورها في 2014، ودستور جنوب إفريقيا الذي يُعتبر من أحدث الدساتير في العالم، والذي استغرق بناؤه 7 سنوات.
كما أشار الشعال إلى ضرورة تعديل قانون الانتخابات السوري، إذ لفت إلى أن القانون الحالي يضمن فوز حزب البعث في أي عملية انتخابية مستقبلية، وذلك بسبب هيمنته على الدولة ومقرات الانتخاب، بالإضافة إلى تجربته الطويلة في تنظيم الانتخابات، إذ يمكنه تنظيم نفسه تحت أي مسمّى آخر والفوز بالانتخابات مستغلًّا غياب خبرة الأحزاب الأخرى.
دستور 1950 يعدّ من أفضل الدساتير في تاريخ سوريا، وقد وضعه نخبة من كبار الساسة وفقهاء القانون، إلا أنه ورغم تغنّي الكثير من السوريين به لم يحمِ الحياة الدستورية في سوريا أبدًا
مضيفًا أنه ولحين إعلان الانتهاء من إقرار الدستور الدائم بعد 4 سنوات، بات من المفترض الآن طرح “إعلان دستوري مؤقت”، وهذا له أصوله وشروطه المعروفة بالقانون الدستوري، وهو كافٍ أيضًا في هذه المرحلة مبدئيًا بطبيعة الحال.
ومقابل المدة التي طرحها الشرع، تطفو تخوفات كبرى على السطح، من محاولته كسب الوقت لترسيخ نفوذه في السلطة، باعتباره ينتمي إلى جماعة أيدولوجية استطاعت قلب طاولة الحكم السياسي في سوريا رأسًا على عقب من جهة.
من جهة أخرى توجُّه الأنظار إلى بقاء الشرع وحكومته مدة 4 أعوام على الأقل، وممارسته صلاحيات رئيس دولة حتى إجراء الانتخابات الرئاسية الأولى لتحقيق أول انتقال سياسي، وهي مدة يرى فيها معارضو الشرع أنها ستكون دافعًا لرسم هوية سوريا وقوننتها على الأرجح بالشكل الديني الذي يطمح إليه.
مطالبات بدستور الاستقلال
أمام التساؤلات الشعبية عن طبيعة وشكل اللجان المعنية بصياغة دستور سوريا الجديد، في ظل غياب جمعية تأسيسية منتخبة قادرة على التداول في بعض القضايا الدستورية الشائكة مثل شكل نظام الحكم، برزت أصوات في سوريا تطالب بالعمل بالدستور السوري لعام 1950 كمظلة للمرحلة الانتقالية السورية.
ويعدّ دستور 1950 المعروف بـ”دستور الاستقلال”، إحدى أبرز الوثائق الدستورية في تاريخ سوريا المعاصر، وقد أقرّته الجمعية التأسيسية التي اُنتخبت ديمقراطيًا عقب الاستقلال عن فرنسا، وتمّ اعتمادها رسميًا في 5 سبتمبر/ أيلول 1950.
تميّز دستور الاستقلال بتكريسه لمبادئ الديمقراطية والفصل بين السلطات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، ونصَّ على أن سوريا دولة ذات نظام جمهوري برلماني، كما تضمّن مجموعة من الحريات كحرية التعبير والصحافة وحق الاجتماع والمساواة أمام القانون دون تمييز بسبب الدين أو الجنس، مؤكدًا على استقلال القضاء وضمان حقوق المواطنين.
ورغم طبيعته الديمقراطية إلا أنه واجه تحديات عديدة، أبرزها حالة عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية التي عصفت بسوريا في الخمسينيات، وقد ظلَّ معتمدًا حتى انقلاب حزب البعث عام 1963 الذي عطّل العمل به واستبدله بدساتير لاحقة، تركزت حول تعزيز السلطة الرئاسية.
حسب المحامي الشعال، فإن دستور 1950 يعدّ من أفضل الدساتير في تاريخ سوريا، وقد وضعه نخبة من كبار الساسة وفقهاء القانون، إلا أنه ورغم تغنّي الكثير من السوريين به لم يحمِ الحياة الدستورية في سوريا أبدًا، فقد أطاح به الجيش 3 مرات، الأولى عام 1951 بانقلاب الشيشكلي، والثانية عام 1958 بداعي الوحدة مع مصر، والثالثة عام 1963 بانقلاب البعث.
ونفى الشعال إمكانية العمل بدستور الاستقلال أو الاعتماد عليه حاليًا، مؤكدًا أنه دستور برلماني كانت فيه السلطة التنفيذية منوطة بالبرلمان الذي ينتخب رئيس الوزراء وحتى رئيس الجمهورية. وأشار إلى أن البرلمان اليوم يحتاج إلى أحزاب وكتل سياسية متمرسة في العمل السياسي، كما كان الحال في فترة ما بعد الاستقلال، عندما كانت هناك الكتلة الوطنية، والإخوان المسلمين، وحزب الشعب، وغيرها من القوى السياسية التي كانت تشارك في الحياة السياسية.
وأوضح الشعال أن الوضع الحالي مختلف تمامًا، حيث لا توجد في الساحة السورية اليوم إلا أحزاب قليلة، أبرزها حزب البعث أو شخصيات تنتمي إلى تيارات مؤدلجة.