عاد أحمد الشرع إلى مدينته الحبيبة دمشق يوم 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي بعد سنوات من الغياب فرضها الاحتلال الأمريكي للعراق، ثمّ انخراطه المدوّي في القتال ضد نظام بشار الأسد. لحظة وصوله، لم يتمالك نفسه فسجد لله شاكرًا في إحدى الحدائق العامة.
بعد ذلك، انطلق في جولة لتفقد أحوال العاصمة، مستعيدًا ذكرياته بين شوارعها ومعالمها، ثم توج زيارته عصر ذلك اليوم بالتوجه إلى الجامع الأموي، حيث كسر الأعراف التي اعتادها قادة آخرون، فلم يعتل المنبر ليخاطب الحشود، مفضلًا إلقاء كلمة عفوية من محراب الجامع.
خلال كلمته، هنأ الشعب السوري، وحمد الله طويلًا، مستذكرًا عذابات المستضعفين ومشيدًا بتضحيات المجاهدين الأبطال. وبينما كان الحاضرون يحيطون به هاتفين “الله أكبر” ويلتقطون الصور الذاتية معه، ظل الشرع محافظًا على هدوئه، وقال بأسلوب مؤثر:
“هذا النصر يا إخواني تاريخ جديد للأمة الإسلامية بأكملها. أنصح الأمم بأجمعها، إن ضاع لها حق أن تبقى تطالب به حتى تناله”.
لم تكن هذه اللحظة عادية؛ فهي لم تمثل فقط سقوط عقود من هيمنة النظام الأسدي، بل جسدت تحولًا محوريًا في مسيرة الحركات الجهادية في المنطقة العربية، إذ إن ظهور أبو محمد الجولاني (اسمه السابق) في هذا السياق، بدا أن هناك فصلًا جديدًا يُكتب في تاريخ الحركات الجهادية، فصلًا يُحتمل أن يغير من طبيعة التفكير الإستراتيجي لهذه الحركات، ويعيد إحياء روحها وتأثيرها في مجتمعاتها ومحيطها الإقليمي.
لذلك، يُعد أحمد الشرع شخصية استثنائية في التيار الجهادي، فقد نجح في بناء وقيادة أقوى وأطول حركة جهادية عمرًا وأكثرها تأثيرًا خلال الثورة السورية، ولم يكن هذا النجاح وليد اللحظة، بل جاء نتيجة سنوات من التدافع والتأقلم مع تحديات الواقع، بدءًا من الجانب الشرعي وصولًا إلى التكتيكات السياسية والجهادية.
في هذا التقرير، سنغوص عميقًا في شخصية أحمد الشرع، محاولين الإجابة عن أسئلة محورية: من هو؟ ما أهم أفكاره؟ وما رؤيته للعالم؟ وكيف تشكلت هذه الرؤية؟ سنتناول أيضًا أبرز سماته القيادية التي مكّنته من تحقيق ما عجزت عنه غيره من الحركات الجهادية، ونناقش السيناريوهات المحتملة لشكل سوريا تحت قيادته، مع استعراض تأثيره على مستقبل التيار الجهادي في المنطقة.
نشأة أحمد الشرع
ينحدر أحمد الشرع من عائلة أصيلة ذات جذور عربية عريقة تعود إلى قبائل “قرية جبين” في الجولان السوري المُحتل، وبرزت عبر التاريخ في ميادين متنوعة، بدءًا من النشاط العلمي والتجاري وصولًا إلى الحضور المؤثر في الساحة السياسية، كما وثق ذلك الدكتور حسين الشرع، والد أحمد الشرع، في كتابه “ثورة الزوية السورية المنسية“.
لعبت العائلة دورًا بارزًا في الثورة ضد الاستعمار الفرنسي في أوائل القرن العشرين، لكن هذا النضال لم يمر دون ثمن؛ فقد واجه أفراد العائلة مصيرًا مأساويًا تمثل في الإعدامات والتهجير وتشتيت أفرادها، بالإضافة إلى فقدان ممتلكاتهم وثرواتهم نتيجة السياسات التخريبية التي اتبعتها القوة الاستعمارية آنذاك.
بعد عام واحد من استقلال سوريا، وُلد حسين الشرع، والد أحمد الشرع، في بلدة فيق الواقعة في زاوية حوران جنوب الجولان، لكن القدر لم يمهل العائلة طويلًا لتعيش في موطنها، فمع نكسة 1967، اضطرت الأسرة إلى الهجرة كغيرها من العائلات التي شردها الاحتلال الإسرائيلي، فاستقرت العائلة في حي المزة بالعاصمة دمشق، لتبدأ رحلة جديدة مليئة بالتحديات.
كان والد الشرع ناشطًا سياسيًا، يحمل أفكارًا ورؤى جعلته في خصومة دائمة مع النظام السوري، خاصةً أن تخرجه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة بغداد، صقلت اهتماماته ورؤيته للأوضاع السياسية والاجتماعية، ونتيجة الضغوط قرر حسين الشرع مغادرة سوريا إلى الرياض، حيث عمل كباحث اقتصادي.
في الرياض، وُلد أحمد الشرع، المعروف لاحقًا بأبي محمد الجولاني، عام 1982، وهو نفس العام الذي شهد واحدة من أكثر المحطات الدامية في تاريخ سوريا الحديث: مذبحة حماة.
في عام 1989، عادت عائلة الشرع إلى دمشق بعد أن شهدت ظروفها المالية تحسنًا ملحوظًا مع تأسيس والد الشرع مشروعًا صغيرًا ساعد الأسرة على الاستقرار مجددًا، وهكذا نشأ أحمد الشرع في أجواء تنتمي للطبقة الوسطى، وسط عائلة كبيرة تضم عددًا من الأشقاء والشقيقات، وتعيش في حي المزة الراقي، وبالتحديد في منطقة الفيلات الشرقية.
من خلال كتابات والد الشرع، يتضح أن البيت كان مشحونًا بكراهية نظام الأسد، ما قد يشي بأن التأثير الأكثر وضوحًا للأب على الابن كان في المجال السياسي، إلا أن الشرع ذكر سابقًا أن والده كان يؤمن بالقومية العربية ويركز على قضايا الوطن العربي، بينما تبنى الشرع نفسه رؤية أوسع تنظر إلى القضايا من منظور الأمة الإسلامية بأكملها، وهو ما كان محور خلاف بينهما. لكن السؤال الأهم: من أين استمد الشرع وعيه الإسلامي؟
رغم أنه أكمل معظم تعليمه في حي المزة، إلا أن التعليم النظامي لم يترك أثرًا كبيرًا عليه، بل بدأ التزامه الإسلامي من خلال احتكاكه المباشر بالمساجد، حيث وجد في مسجد الشافعي، القريب من منزله، منبرًا ثقافيًا واجتماعيًا أثّر بعمق في تشكيل شخصيته. كما بدأ الشرع هناك بالتواصل مع شخصيات من الحركة الإسلامية الفلسطينية، خاصة من أبناء حركة حماس الذين كانوا يرتادون المسجد بانتظام.
كانت علاقة الشرع بشيخ مسجد الشافعي علاقة وثيقة أيضًا، حيث أشار الشيخ إلى أن الشرع نشأ وتربى في هذا المسجد، وقضى جزءًا كبيرًا من صباه وشبابه في أحضان مساجد أخرى، حيث تعلم علوم الشريعة واكتسب وعيًا دينيًا عميقًا.
لذلك، لم يكن مستغربًا أن يكون مسجد الشافعي من أوائل الأماكن التي زارها الشرع بعد تحرير دمشق في عام 2024، في إشارة واضحة إلى عمق ارتباطه بالبيئة الدينية التي شكلت جزءًا كبيرًا من شخصيته ورؤيته.
مظاهرة خرجت من جامع الشافعي في حي المزة
في أواخر التسعينيات وبداية الألفية، شهد العالم العربي والإسلامي أحداثًا مزلزلة، من أبرزها احتلال أفغانستان والعراق وحرب الشيشان الثانية واقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى، إلى جانب الانتفاضة الفلسطينية، ما أدى إلى تصاعد موجات الغضب الشعبي والاحتجاجات ضد السياسات الأمريكية في المنطقة.
لم يكن الشرع بمنأى عن تلك الأحداث الكبرى التي عصفت بالعالم الإسلامي، إذ يُروى أنه تأثر بشدة بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث كان يبلغ من العمر آنذاك 18 عامًا، كما نظر إلى تنظيم القاعدة نظرة إيجابية بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، معتبرًا أن القاعدة هي الخصم الوحيد الذي تحدى الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
ثم بدأ، بطريقة عفوية، يبحث عن سبيل يدافع به عن المظلومين، وهو ما شكّل نقطة تحول في حياته، إذ شعر بمعنى مختلف للحياة، وتغيرت نظرته إلى الإسلام، ليصبح أكثر ارتباطًا بقضايا الأمة وواجبها الجهادي.
ومثل الكثيرين من شباب جيله، تأثر الشرع بالمزاج العام الذي هيمن على الشباب آنذاك، حيث رأى في الجهاد المخرج الوحيد من المأزق الذي يعانيه العالم الإسلامي، وبعد أن التحق بجامعة دمشق لدراسة الإعلام، لم يكمل تعليمه، وإنما استجاب للعاطفة الدينية المتأججة في فورة شبابه وقرر قطع دراسته بعد عامين فقط، من أجل الانضمام إلى صفوف الجهاد ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، مستفيدًا من الظروف التي جعلت سوريا آنذاك الممر الرئيسي لأبناء التيار الجهادي المتجهين إلى العراق.
في العراق.. قدرًا أم فكرًا
وصل الشرع إلى العراق قبل أسبوعين من بدء الغزو الأمريكي، وهناك بدأت مسيرته المهنية في ساحات الجهاد، لكن معتقداته لم تكن متسقة تمامًا مع تنظيم القاعدة في العراق، إذ لم يكن على دراية كافية بالخلافات الأيديولوجية بين أفرع الجماعات الجهادية، كما اعترف لاحقًا بأنه لم يكن على نفس المستوى من الوعي الذي اكتسبه لاحقًا.
انضم الشرع إلى تنظيم القاعدة على أساس الدفاع عن أهل العراق، أو كما وصف ذلك “ساقته الأقدار”، وهكذا بدأ رحلته في بغداد ثم انتقل إلى الرمادي قبل بدء الحرب بفترة وجيزة. وبعد فترة من النشاط في العراق، عاد إلى سوريا، حيث خضع للتحقيق عام 2003 بتهمة السفر غير المشروع إلى العراق لكنه تمكن من تجاوز التحقيق الذي أجراه معه الفرع 243 بنجاح.
أطلقت مخابرات الفرع سراح الشرع بعد أن نفى انتسابه إلى أي أحزاب سياسية أو تنظيمات دينية متطرفة، ثم عاد إلى العراق مرة أخرى، حيث استقر في مدينة الموصل وشارك في معارك عام 2004، وفي تلك الفترة انضم إلى مجموعة جهادية صغيرة في الموصل، بايعت مع العديد من الفصائل أبو مصعب الزرقاوي، ومع ذلك لم يُقدّر له أن يلتقي بالزرقاوي شخصيًا.
تفاجأ الشرع بالإيديولوجية المتطرفة التي نشأت في سجون العراق، وأعرب عن اعتراضه على فلسفة الزرقاوي والعديد من سلوكيات وأفكار تنظيم الدول
بعد فترة قصيرة، اكتشفت سلطات الاحتلال الأمريكي مجموعة الشرع، وفي أواخر عام 2004، تم اعتقاله مع العديد من رفاقه وأُودع في سجن أبو غريب، حيث سُجن على أنه عراقي، فلم تكن الاستخبارات العراقية على دراية بهويته الحقيقية.
بعد ذلك، تنقل الشرع بين سجون بوكا وكروبر في مطار بغداد، ثم سلمته القوات الأمريكية إلى العراقيين الذين وضعوه في سجن التاجي، وبعد فترة طويلة من الاعتقال، أُطلق سراحه في عام 2010، ليقضي ما يقرب من 5 سنوات في السجون.
كان لتجربة السجن تأثير كبير على الشرع، حيث التقى بالعديد من الشخصيات الإسلامية والحركات الجهادية، وأقام علاقات مع قيادات جهادية عراقية، كما بدأت حياته الفكرية تتبلور بشكل واضح، فقد تفاجأ بالإيديولوجية المتطرفة التي نشأت في سجون العراق، وأعرب عن اعتراضه على فلسفة الزرقاوي والعديد من سلوكيات وأفكار تنظيم الدولة، إذ كان ضد تفجير الأسواق والحسينيات، لكنه لم يصرح بذلك علنًا.
بعد إطلاق سراحه من السجن، بقي الشرع في شمال العراق وتدرج في المناصب داخل تنظيم الدولة، ومع ذلك لم ينس سوريا، حيث قال في وقت لاحق: “أجسادنا في العراق وقلوبنا كانت معلقة في أرض الشام”، ووفقًا لرواية أبو عبد الله الشامي، أحد مؤسسي حركة أحرار الشام، كان تفكير الشرع بالعمل في سوريا يسبق ذهابه إلى العراق، حيث ذهب هناك فقط لاكتساب الخبرة والتجربة ليعود لاحقًا للعمل في الشام.
مباشرة بعد خروجه من السجن، التقى الشرع بأحد قيادات تنظيم دولة العراق ورفيقه في سجن بوكا، حيث تحدث له عن مشروعه في الشام، وأوصاه الشرع في حال تعرضه لأي مكروه، بأن يستمر في المشروع، وقد علق الرجل حينها قائلاً: “جزاك الله خيرًا، لقد جعلتني أخرج بتفكيري خارج العراق لأول مرة”، وطلب منه أن يكتب مشروعه ليرسله بنفسه إلى البغدادي.
حسب رواية الشرع، فقد كتب ورقة بحثية تحليلية من حوالي 50 صفحة عنونها بـ “جبهة النصرة لأهل الشام”، حيث أخذ في اعتباره التجربة العراقية وشرح الاختلافات الجوهرية بين العراق وسوريا، مؤكدًا تمايز سوريا عن ساحات الجهاد الأخرى، كما شدد على ضرورة عدم تكرار أخطاء الجهاد في العراق، وعندما أرسل أبو مسلم مشروع الشرع إلى البغدادي، وافق الأخير على الخطط والاستراتيجيات، قائلاً: “إن صاحب هذا المشروع لم يدع في مشروعه مجالًا لأن يُنتقد”.
دفعت الثورة السورية مشروع الشرع إلى الأمام، فذهب للقاء البغدادي لمناقشة خطته في سوريا، وتم الاتفاق على أن ينشئ الشرع تنظيم جبهة النصرة ويكون فرعًا للقاعدة في الشام. وبحسب الشرع، لم يضع يده في يد البغدادي إلا بعد أن قال له البغدادي: “إن في عنقه بيعة للدكتور أيمن”.
طلب الشرع من البغدادي 100 رجل للانضمام إليه في سوريا، لكن القيادات المحيطة بالبغدادي لم تكن مرحبة بفكرة الشرع، وفي النهاية ذهب معه فقط 6 أشخاص، منهم سوريون وعراقيون، كما قرر البغدادي منح الشرع نصف ميزانية التنظيم، التي تراوحت ما بين 50 إلى 60 ألف دولار شهريًا لفترة محددة، فتوجه الشرع وفريقه إلى سوريا في أغسطس 2011، أي بعد حوالي 5 أشهر من اندلاع الثورة.
الشيخ الفاتح
عبر الشرع إلى سوريا مع 6 أشخاص قاصدًا جهاد نظام الأسد، فحاول تجميع مقاتلين وبناء شبكات في عموم محافظات سوريا، وفي غضون عامه الأول في سوريا، استطاع تجنيد حوالي 5000 شخص، وفي يناير/كانون الثاني 2012 أعلن عن تشكيل جبهة النصرة، وبدأ التنظيم في استهداف الأفرع الأمنية بدمشق وحلب ودرعا وإدلب وحماة.
كان أول بيان صوتي للشرع قد تم التلاعب به لإخفاء هويته، لكن لقبه الجديد حمل دلالة هامة، حيث وصف نفسه بـ “الفاتح” تيمنًا بفتح دمشق. ومنذ تأسيسه لجبهة النصرة، كان سلوكه مختلفًا عن الأسلوب التقليدي للعمل الجهادي، فعلى سبيل المثال لم يطلق على نفسه اسم أمير علنًا، بل استخدم لقب المسؤول العام.
كما سعى إلى التعاون مع الفصائل الأخرى التي تقاتل ضد نظام الأسد، وامتنع عن فرض الهيمنة أو استهداف المخالفين في السنوات الأولى للثورة، بالإضافة إلى حرصه على كسب حاضنة شعبية.
ظهرت ثمار هذا النجاح عندما دعمت معظم فصائل المعارضة التنظيم، وأدانوا تصنيف الولايات المتحدة له كمنظمة إرهابية في ديسمبر/كانون الأول 2012، قبل أن تعلن الجبهة عن ارتباطها بتنظيم القاعدة، كما دعا البعض إلى التظاهر تحت شعار “كلنا جبهة النصرة”.
نتيجة لهذا النجاح، بدأ الشرع يتجاهل الإشارة إلى ولائه لتنظيم دولة العراق أو للبغدادي، ورفض أوامر البغدادي باستهداف تركيا وتصفية بعض قادة الفصائل السورية الذين اعتبرهم البغدادي جزءًا من مشروع الصحوات ومرتدين.
هذه المواقف جعلت البغدادي يدرك أن الشرع خرج عن سيطرته، وبعد مداولات بين الرجلين، أعلن البغدادي في أبريل/نيسان 2013 عن اندماج التنظيمين تحت مسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في محاولة لإنهاء ما اعتبره عصيان الشرع.
وبالفعل، انشق عدد من مقاتلي جبهة النصرة وانضموا إلى داعش، ما دفع الشرع للشعور بالقلق، ففي تلك المرحلة، كان لا يزال شخصية صغيرة في عالم الجهاديين ولم يكن معروفًا لدى الظواهري، وفي الوقت نفسه، لم يكن مستعدًا للاستسلام للبغدادي، حيث كانت له خلافات أيديولوجية معه ومع أسلوبه، لذا لجأ إلى الحركة الجهادية الأوسع، وجدد بيعته لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، في خطوة فاجأت الكثيرين، ليبعد نفسه وتنظيمه عن داعش.
وحسب الباحث السوري حسام جزماتي، كان الشرع يسعى منذ البداية إلى الاستقلال بتنظيمه الخاص، ولم يلجأ إلى الارتباط بالقاعدة إلا مضطرًا، من أجل الحصول على شرعية في مواجهة دولة العراق الإسلامية.
بعد إعلان الشرع مبايعة الظواهري ومعارضته للبغدادي، حكم الظواهري لصالح الشرع وأعلن الفصل المكاني بين الولايتين، إلا أن تنظيم داعش نظر إلى الظواهري على أنه شجع الشرع على الانشقاق، ما أدى إلى استمرار سلسلة من الشهادات والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، لكن عملية قتل داعش لأبو خالد السوري، زعيم أحرار الشام الذي عينه الظواهري مبعوثًا للفصل بين البغدادي والشرع، كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر العلاقة بين الطرفين.
أصبح الوضع أكثر تعقيدًا بعد أن تبرأ تنظيم القاعدة رسميًا من داعش وأفعاله في عام 2014، وعندها ندد الشرع علنًا بتنظيم الدولة واصفًا إياهم بالنفاق، وقال لهم: “كم من موقع للرباط على خطوط القتال مع النظام قاتلتم مَن يرابط عليه؟ ثم لا أنتم أخذتم مواضعَ الثغورِ ولا تركتم من يأخذها”.
وبعد يومين من اغتيال أبو خالد، أصدر الشرع بيانًا من جبهة النصرة يوضح فيه منهجها المختلف عن داعش، ووصل الخلاف إلى حد اتهام داعش للجبهة بأنها خوارج، بينما اتهم داعش القاعدة وجبهة النصرة بالولاء والتحالف مع المرتدين، ومع تصاعد التوترات، بدأت مرحلة الاقتتال بين داعش والفصائل السورية بما في ذلك جبهة النصرة.
في تلك الفترة، كان الشرع يصف أمريكا بالعدو، منتقدًا إياها بشدة بسبب إدراج جبهة النصرة ضمن لوائح الإرهاب، كما كان ينتقد تركيا بشكل متكرر، معتبرًا أنها تنفذ أجندة الغرب وتدعم المعارضة المعتدلة، وهو ما كان يرى فيه تهديدًا للمشروع الجهادي.
في ذلك الوقت، شعر الشرع أنه مستهدف من جميع الأطراف، فبدأ يدين بعض الفصائل التي حصلت على الدعم الغربي، وزعم أن هذا الدعم يهدف إلى استهداف جبهة النصرة. وتحت فكرة استباق مؤامرة ضده، بدأ في خريف عام 2014 أول محاولة لتفكيك بعض الفصائل أو استيعابهم بالقوة.
كانت أبرز الحالات في ذلك الوقت هي القضاء على جبهة ثوار سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2014 وحركة حزم في مارس/آذار 2015، التي كان يشرف عليهما “أصدقاء سوريا”، وهو تحالف من الدول الغربية والخليجية، اعتبرهما الشرع مظلة عسكرية موالية للغرب، وكانت هذه بمثابة بداية لسياسة سينتهجها الشرع بشكل أكبر فيما بعد.
رغم ذلك، لم يسعى الشرع لتصدير مشروعه الجهادي على النحو الذي كان يراه تنظيم القاعدة، ولم يخطط لهجمات دولية. صحيح أنه تبنى في بعض الأحيان سردية تنظيم القاعدة ورثى أحد قادته في اليمن، أبو بصير ناصر الوحيشي، لكنه كان في المقام الأول منغمسًا بالشأن المحلي السوري.
كل أعمال الشرع، سواء كانت سياسية أو عسكرية، كانت محصورة ضمن الحدود السورية، ففي أول لقاء صحفي له مع تيسير علوني في ديسمبر/كانون الأول 2013، أظهر انتقاده الشديد لتكفير المجتمع. وفي المقابلة التي أجريت معه في 27 مايو/أيار 2015 مع أحمد منصور على قناة الجزيرة، أشار إلى أن مهمته الوحيدة هي قتال النظام والمليشيات الإيرانية.
منعطف حاسم
شهدت الأمور تحولًا مفاجئًا عندما دخل تنظيم الدولة إلى سوريا وسيطر على مناطق واسعة كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة سابقًا، ما يفسر حالة الغليان الفكري التي أصابت المسرح السوري آنذاك، إذ دفع تطرف داعش العديد من الجهاديين إلى محاولة تمييز منهجهم عن منهج داعش، وكان من بينهم أبو محمد الجولاني.
في أواخر مارس/آذار 2015، تعاون الشرع مع عدد من القوى الإسلامية في غرفة عمليات مشتركة، ومنذ ذلك الوقت نشأت دعوات لإنشاء إدارة عسكرية وسياسية موحدة، لكن ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة كان العقبة الرئيسية أمام جهود الوحدة.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تُبذل فيها محاولات تشجيع الشرع على فك ارتباطه بالقاعدة، نظرًا لما يشكله هذا الارتباط من عبء على الساحة وعلى الشعب السوري، إلا أن الظروف المحيطة به كانت تسرع من إعلان الانفصال.
موقف زعيم جبهة فتح الشام من الاتفاق الروسي الأمريكي حول الأزمة السورية
إذ رأى الشرع أن ارتباط تنظيمه بالقاعدة سيعرضه لمزيد من الضغوط، بالإضافة إلى خطر العزلة الاجتماعية والسياسية والعسكرية، فقد كان يواجه تحديات كبيرة بين نظام الأسد وتنظيم الدولة، فضلاً عن استهداف الطائرات الأمريكية والروسية له، ووضعه في نفس سلة داعش، كما كان يخشى أن تستخدم الدول الأجنبية بعض الفصائل ضده.
وبعد سلسلة من النقاشات خلف الأبواب المغلقة، قرر الشرع قطع الروابط التنظيمية مع القاعدة دون التشاور مع الظواهري. وفي خطوة مفاجئة، أعلن عن حل جبهة النصرة، مؤكدًا على تركيزه على سوريا فقط، وكجزء من هذه المرحلة الجديدة، غيّر اسم جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام، قبل أن تتحول في النهاية إلى هيئة تحرير الشام.
وافق نائب الظواهري في سوريا، أحمد حسن أبو الخير، على خطوة الشرع بشرط موافقة الظواهري، ما خلق انطباعًا بأن زعيم القاعدة قد وافق على هذه الخطوة، لكن الظواهري نفسه رفض الانفصال، وكانت كلمته بمثابة لحظة فاصلة، أكدت وجود انقسام حقيقي وأن الأحداث تحركت بسرعة، مع تراجع تأثير الظواهري.
ومع ميلاد الشرع الجديد وخروجه بموقف جديد تبناه بالكامل، واجه تحديًا آخر، فقد رفض العديد من قدامى الجهاديين داخل جبهة النصرة فك الارتباط، إذ كانوا غاضبين مما اعتبروه “نكث البيعة”، وأدى ذلك إلى تفاقم وجودهم، ليشكلوا مصدر قلق للجولاني، وفي النهاية انخرطوا في تأسيس فرع جديد للقاعدة باسم “حراس الدين”، الذي تم الإعلان عن وجوده لأول مرة في فبراير/شباط 2018.
لكن الشرع نجح تدريجًا في وضع حد لسلسلة الانشقاقات والاندماجات بين معارضيه، فقضى على فرع القاعدة السوري “حراس الدين”، واستقطب بعض الفصائل من خلال تقديم بعض الدعم لها، كما قلص نفوذ المقاتلين الأجانب، وفكك فصائل أخرى، واتخذ في بعض الأحيان إجراءات صارمة ضد منافسيه، مبررًا ذلك بأنها تهدف إلى منع الأذى والشر.
وفي نهاية المطاف، تمكن الشرع من مواجهة التحديات التي فرضها السداسي المتمثل في: تركيا وإيران وروسيا وأمريكا والنظام السوري والجماعات الجهادية، وبالتوازي مع هيمنته العسكرية على إدلب، فرض سلطته المدنية عبر تنظيمه الجديد “هيئة تحرير الشام”.
وفي 26 يونيو/حزيران 2020 أعلنت هيئة تحرير الشام حظر إنشاء أي فصائل جديدة أو غرف عمليات عسكرية جديدة، مشيرة إلى أن الجهود العسكرية الوحيدة ستكون من خلال غرفة العمليات العسكرية الخاصة بها “الفتح المبين”.
وبهذا، بعد أن هيمن الشرع على الفصائل المختلفة ومنع ترسيخ البدائل، ونجح في إضعاف التهديد الفكري الذي شكله تنظيما القاعدة وداعش، أصبح في موقف أقوى، وهو ما فتح الباب أمام مرحلة ثالثة في مساراته السياسية والفكرية.
التطلعات واستغلال المساحات المتاحة
عندما استقر الشرع في إدلب، بدأ يخطط لرؤيته الخاصة حول حركة جهادية ناجحة قادرة على تحرير ما تبقى من الأراضي السورية، مدركًا حجم التحديات التي تواجهه، بالإضافة إلى عدم جدوى الوسائل التي اتبعتها العديد من الجماعات الجهادية، بما في ذلك تلك التي اتبعها هو شخصيًا، وحاول معالجة كل هذه الأخطاء بطريقته الخاصة، مستفيدًا من الموارد التي كانت تحت يده.
ومن الممكن القول إن ما ميز الشرع في تلك الفترة هو قدرته على الموازنة بين الظروف المحلية والإقليمية وإمكانياته المتاحة، مع التركيز على العمل ضمن الممكن والمتاح.
الأهم من ذلك، كان سعيه لوضع أسس تنظيمية واستراتيجية جديدة وشاملة لمواجهة النظام، مستخلصًا من الأحداث السابقة أن غياب المخطط والرؤية الواضحة سيؤدي إلى العمل في فوضى لن تؤدي إلا إلى الدمار، رغم إمكانية تحقيق إنجازات جزئية.
وهكذا، أدرك أهمية تطوير مواقفه السياسية، فتخلي تدريجيًا عن النهج السلفي الصارم الذي كان يعتبر فيه الولاء والبراء أو التوحيد الخالص المقياس الأول والأخير في التعامل مع المخالفين، فتحولت العديد من المواضيع من “مسألة عقدية” إلى “مسألة فقهية”، وهذا التحول لم يقتصر فقط على الأبعاد الفكرية، بل تُرجم أيضًا إلى تغييرات هيكلية داخل هيئة تحرير الشام، حيث تقلصت بشكل كبير ظاهرة “الشرعيين”.
كما ركز الشرع على مجموعة واسعة من القضايا وتحرك على عدة أصعدة، فعلى المستوى الخارجي بدأ يظهر اهتمامًا بالحوار مع الخارج بعدما كان يتجنب سابقًا العلاقة مع الدول الأجنبية، حيث صرح بأنه لا يرى حاجة لتصنيفه كإرهابي أو إعلان مكافأة لقتله، وتحدث عن ضرورة وضع حد لمعاناة السوريين.
وأنشأ مكتبًا سياسيًا من أجل التواصل مع الدول، وعمل على تبديد المخاوف بشأن تشكيل تهديد دولي أو إقليمي، كما عمل على تنمية العلاقات مع المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة.
في إطار تطوير رؤيته السياسية، بدأ منظرو هيئة تحرير الشام التنظير بشكل أكبر لمجال السياسة الشرعية، خاصة من خلال فقه النوازل والمقاصد، حيث عملوا على تبرير سياسات الهدن والاتفاقيات مع الكفار والمرتدين، وكان هدفهم هو الرد على الحجج التي ساقها الخصوم وتقديم تبريرات شرعية للبراغماتية أو الواقعية التي اتبعها الشرع.
فقد أثار التعاون مع تركيا بعض الاعتراضات، لا سيما من الجهاديين الذين لم يوافقوا على النهج الواقعي الذي انتهجه الشرع، ففي 9 سبتمبر/أيلول 2019، وجه أحد القيادات البارزة في هيئة تحرير الشام، أبو العبد، نقدًا لاذعًا للجماعة في مقطع فيديو بعنوان “كي لا تغرق السفينة”، حيث انشق عن الجماعة بسبب قبولها الضمني بمفاوضات أستانا وسوتشي.
من المآخذ الكبرى التي يوجهها المعترضون للشرع أيضًا هي طموحاته السلطوية واهتمامه المفرط بوضع كل شيء تحت سيطرته، معتبرين أنه أسس نظامًا شبه استبدادي على غرار الأنظمة العربية، وتمادى في التصرف بشكل تعسفي في عدة جوانب. ومع ذلك، يبرر الشرع هذه الأفعال بأنها كانت ضرورية من أجل توحيد الصفوف وبناء سلطة مركزية تهدف إلى حفظ مصلحة الثورة.
على المستوى الداخلي، بدأ الشرع يركز على تحسين إدارة المناطق التي يسيطر عليها عبر بناء المؤسسات المدنية وتطوير مشاريع الحوكمة، إذ كان يعتقد أن الوقت والهدنة يمكن أن يُحسنوا الوضع الداخلي ويمنحوا الفرصة لتأسيس بنية تحتية مؤسسية قادرة على تقديم خدمات أفضل للسكان. وفي نظر الشرع، كانت هذه المؤسسات أساسية لتوسيع نطاق الحكم والسيطرة في حال تم تحرير المزيد من الأراضي.
وفي سعيه لبناء شرعية قوية، حرص على التفاعل المباشر مع مختلف فئات المجتمع في المناطق التي يسيطر عليها، فكانت استراتيجيته تركز على التقارب مع السكان المحليين بشكل أكبر من محاولات تغييرهم، حيث عمل على تعزيز علاقاته مع شيوخ القبائل والأعيان وكذلك الأقليات، مدركًا أهمية هذه العلاقات في تعزيز قاعدة الدعم الشعبي.
أظهر الشرع كذلك اهتمامًا واضحًا بمشاعر الناس، تمثل ذلك بزيارته للجرحى من مصابي المعارك وتوزيع الهدايا في حفل تكريم لأطفال الشهداء وتنظيم مسابقات لحفظة القرآن، كما كرّم الخريجين المتفوقين من جامعات إدلب وشارك في المعايدات والاحتفالات بالذكرى السنوية للثورة.
كما كان ظهوره في شوارع إدلب، وتجواله بين المتاجر، والتقاطه لصور سيلفي مع السكان، خطوات رمزية تعكس تحوله نحو نهج أكثر قربًا من الناس، وكان هذا التوجه أيضًا ملموسًا في حديثه عن قضايا اقتصادية ملحة مثل أزمة الليرة التركية وارتفاع أسعار الخبز، وتفاعله المباشر مع مجلس الشورى لحكومة الإنقاذ لحل هذه المشاكل.
كانت جلساته الطارئة مع المسؤولين أيضًا حول قضايا، مثل الشتاء في مخيمات النازحين، تعكس حرصه على أن يظهر كزعيم يهتم بشكل كبير بالظروف الاجتماعية والإنسانية لسكان المنطقة، وهو ما يعكس صورة مغايرة عن القائد الجهادي التقليدي الذي يركز فقط على المعارك أو الجوانب العسكرية.
تجلت تحولاته في تبني خطاب شعبي يرتكز بشكل أكبر على القضايا المحلية والهموم اليومية للسكان بدلاً من التركيز على الإيديولوجيا الجهادية التي كان ينتهجها في بداية مسيرته، فقد سعى من خلال عباراته مثل “نلتحم مع أصلنا ومع أهلنا ومع ناسنا” إلى بناء علاقة أقوى مع المجتمع المحلي وإظهار نفسه كجزء من هذا المجتمع، وليس كقائد من بعيد.
هذا التحول يعكس فهمًا عميقًا للواقع المحلي وضرورة تكييف استراتيجيته مع الظروف المتغيرة، فمن خلال تركيزه على تجنب التنفير من خلال القضايا الفكرية والعقائدية، أدرك أنه لا يمكن فرض الأيديولوجيات بالقوة في أوقات الحرب، وأن النجاح في كسب الدعم الشعبي يتطلب التعامل مع المجتمع الشامي المحافظ.
على سبيل المثال، في لقاء مع مسؤولين دينيين ومحليين نُشر في 27 أبريل/نيسان 2022 عبر مؤسسة “أمجاد”، تناول الشرع موضوعات الحلال والحرام وأكد على ضرورة التفريق بين سلطة الله وسلطة الواقع، مشددًا على أهمية مراعاة الأعراف والتقاليد المحلية، كما أشار إلى أن سلطة التحريم هي من اختصاص الله فقط، ولفت إلى ضرورة تجنب تكرار أخطاء وتجارب سابقة فشلت.
وذلك على عكس ما كان يروج له في الفترة من 2012 إلى 2016، حين كان يركز بشكل كبير على مبدأ “حاكمية الشريعة” وإعادة بسط سلطان الله على الأرض، بالإضافة إلى الدعوة لإقامة حكومة إسلامية راشدة تطبق تعاليم الإسلام بشكل كامل، وتقاتل حتى تفرض شرع الله في الأرض.
هذا النهج الجديد، يعكس مرونته الكبيرة، إذ يبدو من خلال هذه التصريحات أنه ينتقد بشكل ضمني أسلوب التفكير السائد لدى بعض الجماعات الجهادية، وهو ما دفع أبو محمد المقدسي، أحد منظري التيار السلفي الجهادي، الذي لا يزال يندد بالشرع، إلى التأكيد على أن العقيدة السلفية يجب أن تأخذ الأولوية على أي براغماتية سياسية.
جدير بالذكر أن هيئة تحرير الشام حظرت كتابات أبو محمد المقدسي، وأدانته في أكثر من مناسبة، إلى أن تبرأت منه رسميًا ومن منهجه، ونصحت بالتخلي عن كتبه وفتاويه وعدم اعتماده كمرجع للفتوى، كما اتهمته بأنه أقرب إلى منهج الخوارج.
مستقبل أحمد الشرع
تبلور الفقه السياسي للشرع وتحولت أفكاره نتيجة تفاعلاته مع سياقات الثورة السورية المحلية والبيئات الجيوستراتيجية المحيطة، فضلاً عن استجابته للأحداث المتغيرة وضرورات الواقع، وهي قناعات عميقة نابعة من تجربة عملية، وليست مجرد مواقف سطحية أو تكتيكية.
وأثبتت الأيام أن الشرع يمتلك فهمًا أفضل للبيئة السورية مقارنة بالكثير من الجهاديين، فقد نجح في تحرير بعض المناطق والسيطرة عليها دون إثارة نفس الانزعاج الدولي الذي تسبب فيه استيلاء البغدادي على أجزاء من العراق وسوريا، أو عندما سيطرت أي حركة جهادية عالمية أو محلية على مساحات من الأراضي.
من المرجح أن يواصل أحمد الشرع اتباع نهج “الواقعية” والتحرك بناءً على المصلحة العامة ومتطلبات الواقع في المستقبل القريب، وهو ما يتفق معه المحلل العسكري عمار فرهود، الذي يرى أن المناخ الإقليمي والدولي سيؤثر بشكل كبير على قرارات الشرع.
ورغم مرونة الشرع ونجاحه في التكيف مع الظروف السياسية وعقلانيته في اتخاذ القرارات، فإن هذا لا يعني أنه قادر على التكيف في كل الظروف، إذ تبقى رؤيته لإيران ثابتة ولم تتغير حتى الآن، رغم محاولاته الأخيرة لارتداء رداء الدبلوماسية.
إذ لم يتمكن الشرع من كبح مشاعره تجاه إيران، حيث لا يزال يحمل انطباعًا قويًا عن تهديدها المستمر لأهل السنة في المنطقة، ففي خطابه بعد سقوط نظام الأسد، ربط تحرير سوريا بمصير أهل السنة في المنطقة، معتبرًا أن التهديد الوجودي الذي يواجهه أهل السنة لا يزال حاسمًا في تحركاته وأفكاره.
مع ذلك، فإن واقعية الشرع لا تعني تخليه عن حلمه في إحياء مجد الأمة وأمله في إقامة دولة إسلامية، ففي كلمة له بمناسبة تخريج دورة الضباط في الكلية الحربية في سبتمبر/أيلول 2022، خاطب الشرع خريجي الضباط، مشيرًا إلى أن تحرير سوريا بالكامل سيتيح لهم إقامة العدل ودحر الظلم تحت شريعة الرحمن.
ورغم أن الشريعة تظل مرجعية الشرع، إلا أنه، خلافًا للعديد من الجماعات الجهادية، لم يتطرق بعمق إلى تفاصيل النظام البديل، لكنه يرى الإسلام كأفضل نموذج للتنظيم السياسي والاجتماعي، وطموحه في إقامة الدولة الإسلامية يبدو مختلفًا في نهجه وشكله عن رؤية السلفية الجهادية التقليدية.
كذلك لم ينفصل الشرع تمامًا عن الحركة الجهادية الأوسع، حيث استمرت هيئة تحرير الشام في إصدار بيانات مناصرة في كل حروب “إسرائيل” على قطاع غزة. ومع ذلك، يمكن أن نرتكب خطأ إذا نظرنا إلى هذه القضية على أنها كل شيء، إذ تمثل جزءًا من رؤيته الأوسع في إطار المواجهة مع القوى التي يراها معادية للمسلمين.
في الختام، يظهر أن شخصية أحمد الشرع ليست بالأبيض أو الأسود، حتى إذا حاول العديد من الأطراف تصويره بهذه الطريقة. والاستمرار في النظر إليه بهذه الطريقة يعكس انفصالًا عن الواقع وقد يؤدي إلى تقييمات غير دقيقة، لأن نجاحه على الأرض يعكس بوضوح استراتيجياته الفعّالة التي قد تكون لها تأثيرات لاحقة على المعسكر الجهادي الأوسع.
فيما يبقى التحدي الأكبر أمام الشرع هو قدرته على الحد من التدخلات الخارجية وبناء تحالفات متوازنة مع الدول الإقليمية المجاورة، في ظل التعدد الكبير للفاعلين في سوريا واختلاف مصالحهم.
وتبقى الأسئلة المحورية في هذه المرحلة الحساسة: هل ستعيد جماعات السلفية الجهادية في العالم تشكيل نفسها بعد أن فقدت زخمها؟ وهل ستصبح تجربة الشرع نموذجًا يحتذى به من قبل الحركات الجهادية الأخرى؟ وما هو مصير الجهاد العالمي بعد أول تجربة جهادية محلية ناجحة؟ ربما لن ينتهي العقد الحالي حتى نرى نواة شبيهة بهيئة تحرير الشام، وقد يظهر في الأفق شخص مثل أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع.