حالة من القلق تخيم على الشارع الألماني في أعقاب مقتل المسؤول المحلي في مدينة كاسل بغرب ألمانيا والمعروف بدفاعه عن اللاجئين، فالتر لوبكه، على يد أحد عناصر اليمين المتطرف في البلاد وفق ما كشفته تحقيقات النيابة العامة الاتحادية المتخصصة بشؤون مكافحة الإرهاب.
الحادث يعد نقلة نوعية في التصعيد العدائي من اليمين المتطرف ضد اللاجئين، الأمر الذي أثار العديد من التخوفات بشأن ما يحمله من دلالات ربما تضع مستقبل النظام الديمقراطي في الدولة الأوروبية على المحك، وهو ما عبر عنه وزير الداخلية هورست زيهوفر، بأنه “إشارة إلى وجود خطر يستهدفنا جميعًا”.
الوزير الألماني في تصريحات له الثلاثاء قال إن الجريمة تعطي “بعدًا جديدًا” للأعمال التي قامت بها عناصر من أقصى اليمين المتطرف خلال السنوات القليلة الماضية واستهدفت “النظام الديمقراطي” برمته، محذرًا مما وصفه “الخطر المتنامي” للمتطرفين من اليمين الذين ينتهجون العنف، في حين وصفته المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بأنه “يبعث على الإحباط”.
وكانت النيابة العامة قد اعتقلت شخصًا في الخامسة والأربعين من العمر ينتمي إلى فكر اليمين المتطرف يدعى “شتيفان. ي” وهو المشتبه به في الحادث الذي وصفته بأنه “اعتداء سياسي” في المقام الأول، الأمر الذي دفع الكثير من مسؤولي الحكومة الألمانية لقراءة الحادث بصورة مختلفة، خشية تداعياته على أمن وأستقرار البلاد داخليًا وصورتها وسمعتها خارجيًا.
عمل فردي أم شبكة منظمة؟
السؤال الذي فرض نفسه مع الساعات الأولى لإعلان الحادث وهوية من قام به، ما إذا كان عملاً فرديًا أم ممنهجًا في ضوء شبكة وتنظيم تابع لليمين المتطرف، حيث كشفت السلطات المعنية بالتحقيق ضلوع المتهم في العديد من النشاطات الإجرامية على خلفية يمينية متطرفة في الماضي.
رئيس المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة هولغر مونش، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع وزير الداخلية بحضور رئيس جهاز الأمن الداخلي ـ حماية الدستور ـ توماس هالدفانغ، أكد أن المشتبه به في قتل لوبكه كان لافتًا للأنظار فعلاً من خلال ارتكاب عدد كبير من الجرائم خلال السنوات الأخيرة.
عام 2015 تعرضت عمدة مدينة كولونيا هنرييت ريكر للطعن بسكين، وبعد سنتين تعرض رئيس بلدية مدينة التينا اندريا هولشتاين لاعتداء مشابه، وقد نجا السياسيان (معروفان بدفاعهما الشرس عن سياسة استقبال المهاجرين واللاجئين) من الموت بأعجوبة
وأضاف أن لديه “سجلاً إجراميًا طويلاً”، لافتًا إلى أنه لم يقل أي شيء حتى الآن عن الاتهامات الحاليّة المنسوبة إليه، أما عن نوعية الاتصالات التي لدى المشتبه به مع التيار اليميني وربما مع تيار مسلح، قال رئيس الهيئة الاتحادية لحماية الدستور: “هناك حاليًّا مهمة ملحة لدينا، وهي توضيح جهات الاتصال الخاصة بالمشتبه به المدعو شتيفان إي، المعروفة بالنسبة لنا”.
كما أكد أن هناك علاقات للمشتبه به مع التيار اليميني المتطرف تعود للماضي، موضحًا أنه سوف يتم حاليًّا استيضاح ما إذا كان لا يزال هناك اتصالات من هذه النوعية اليوم أيضًا أم لا، وبحسب السجل الأمني للمتهم فقد قام بالهجوم على نزل للاجئين بقنبلة عام 1993 حين كان عمره 20 عامًا، هذا بجانب جرائم أخرى تسببت بجروح جسدية وإشعال نار بخلفية معادية للأجانب وخروقات ضد قانون حيازة الأسلحة.
وفي القضية الحاليّة كشفت آثار الحمض النووي تورطه في الجريمة، الأمر الذي دفع النيابة العامة لمحاولة الكشف عما إذا كانت شبكة يمينية متطرفة تقف وراء الحادثة، وإن لم تشر حتى كتابة هذه السطور إلى وجود أي قرائن في هذا الموضوع.
مؤتمر صحفي يجمع وزير الداخلية الألماني ورئيس مكتب مكافحة الجريمة وجهاز الأمن الداخلي
جيش أحمر جديد
نقلة نوعية يشهدها فكر اليمين المتطرف خلال السنوات الستة الأخيرة على وجه الخصوص، ويعد استهداف السياسيين المدافعين عن اللاجئين أحد مخرجات تلك النقلة بعدما كانت مقتصرة في السابق على مناهضة اللاجئين أنفسهم عبر مضايقات تشريعية وقانونية وممارسات حياتية، وصلت في أحلك مراحلها إلى العنف الجسدي ضدهم.
صحيفة “زوددويتشه تسايتونغ” في افتتاحيتها، الثلاثاء، علقت على الجريمة بقولها: “الملفت في هذه المسألة أننا لا نزال نتفاجأ في كل مرة يرتكب فيها اليمينيون المتطرفون جرائم تعتبر من الأخطر في البلاد”، مستعرضة عدد من الجرائم السابقة التي تأتي في السياق ذاته.
نقلت صحيفة نوي أوسنابروكر تسايتونغ عن وزارة الداخلية وجود 24 ألف متطرّف يميني، بينهم 12700 لديهم جاهزية للقيام بأعمال عنف
ففي عام 2015 تعرضت عمدة مدينة كولونيا هنرييت ريكر للطعن بسكين، وبعد سنتين تعرض رئيس بلدية مدينة التينا اندريا هولشتاين لاعتداء مشابه، ونجا السياسيان (معروفان بدفاعهما الشرس عن سياسة استقبال المهاجرين واللاجئين) من الموت بأعجوبة.
الصحيفة كشفت كذلك مجموعة صغيرة من النازيين الجدد “إن إس يو” مسؤولة عن قتل نحو عشرة مهاجرين في ألمانيا مطلع الألفية الثالثة، معتبرة أن ألمانيا تواجه “تنظيمًا جديدًا” على غرار فصيل “الجيش الأحمر” اليساري المتطرف الذي نفذ الكثير من الاعتداءات ذات الطابع الإرهابي بين العامين 1968 و1998.
“حين ينشط اليمين المتطرف بقوة أشعر بالخوف الشديد”، هكذا علق ماركوس نييرث رئيس بلدية مدينة تروغليتز في ألمانيا الشرقية سابقًا، على الجريمة، كاشفًا أن تهديدات عدة وجهت إليه، معتبرًا أن مقتل لوبكه يعد تجاوزًا واضحًا للخط الأحمر “وأن الإرهابيين من اليمين المتطرف بدأوا يحققون ما يحلمون به”.
نشاط مكثف لليمين المتطرف ضد اللاجئين في ألمانيا
تهيئة الأجواء لمعاداة اللاجئين
على مدار السنوات الماضية عزفت الأحزاب اليمينة المتطرفة في الغرب بوجه عام وألمانيا على وجه الخصوص على وتر مناهضة اللاجئين وتعزيز الشعبوية والقومية، ولعل التقدم الذي حققه حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الشعبوي خلال الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2017، مستخدمًا شعارات تستهدف الأجانب والمهاجرين أكبر تجسيد لنجاح هذا التيار.
تلك الشعارات وما رافقها من تصريحات صادرة عن قيادي الحزب الألماني ساهمت بشكل كبير في تزايد أعمال العنف ومعدلات الجريمة ضد اللاجئين، وهو ما حذر منه الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الذي ربط بين هذه التصريحات المتطرفة وأعمال العنف، قائلاً “عندما تصبح اللهجة عنيفة تصبح الجريمة قريبة”، مشيرًا إلى تعليقات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي رحبت بقتل لوبكه الذي ساهم عام 2015 في تأسيس مراكز لاستقبال اللاجئين.
وأمام تلك الإدانات خرج حزب “البديل من أجل ألمانيا” ليعرب عن “الإدانة الشديدة لأي عمل عنف يقوم به اليمين المتطرف” منددًا بجريمة مقتل المسؤول المحلي في مدينة كاسل بغرب ألمانيا التي وصفها بـ”الجريمة الشنيعة”، دعايًا عدد من الأحزاب إلى عقد جلسة استثنائية لمجلس النواب (البوندستاغ) لمناقشة عنف اليمين المتطرف.
في 2017 كشفت ألمانيا وجود آلاف المتطرفين اليمينيين في البلاد لديهم الاستعداد للقيام بأعمال عنف، تزامنت مع التقدم الملحوظ لهذا التيار في عدد من الدول الأوروبية، حيث نقلت صحيفة نوي أوسنابروكر تسايتونغ عن وزارة الداخلية وجود 24 ألف متطرّف يميني، بينهم 12700 لديهم جاهزية للقيام بأعمال عنف.
وفي تقرير لمجموعة “في بي أر دجي” الألمانية – منظمة محلية معنية بشؤون ضحايا العنف اليميني – كشف تصاعد أعمال عنف الجماعات اليمينية المتطرفة بالولايات الشرقية، مشيرًا إلى تسجيل أكثر من 1200 هجوم بهذه المناطق خلال عام 2018 فقط.
هذا بخلاف عشرات التظاهرات الشعبية التي تنظمها الحركات اليمينية المتطرفة واليسارية على رأسها حركة المسار الثالث التي اعتادت تنظيم مسيرات للنازيين الجديد في عيد العمال، تلك المسيرات التي تثير الجدل داخل الشارع الألمانية خاصة مع ما تحمله من شعارات تستهدف الأجانب.
وعلى الأرجح فإن حادثة فالتر لوبكه وإن لم تكن الأولى من نوعها إلا أن تداعياتها ستكون استثنائية فيما يتعلق بحالة القلق التي من المتوقع أن تخيم على الأجواء بصورة عامة خشية تكرار مثل هذه الجرائم النوعية التي تقوض النظام الديمقراطي الألماني وتضع سمعته على المحك.