مع سقوط نظام الأسد في سوريا، بدأت تتهاوى معه الأدوات والهياكل التي اعتمد عليها لترسيخ سلطته وإحكام قبضته على مفاصل الدولة والمجتمع لعقود. منظمات ومؤسسات كانت تُستخدم كأذرع سياسية واقتصادية واجتماعية لتكريس الهيمنة، باتت الآن تحت مجهر الإدارة السورية المؤقتة التي أعلنت عن حلّ “الاتحاد الوطني لطلبة سورية” وتجميد أنشطته، إلى جانب حلّ مؤسسة “الأمانة السورية للتنمية” المرتبطة بزوجة الرئيس المخلوع، أسماء الأسد، وتجميد أنشطة “حزب البعث العربي الاشتراكي”، بالإضافة إلى تفكيك “الضابطة الجمركية” التي كانت رمزًا لشبكات الفساد والاحتكار.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على هذه الخطوات وما تمثله من تحوّل جذري نحو تفكيك أدوات النظام السابق، وإعادة بناء سوريا على أسس ديمقراطية ومؤسسية.
أولًا: الاتحاد الوطني لطلبة سوريا
تأسس الاتحاد الوطني لطلبة سورية في نيسان/ أبريل 1963 ليكون الممثل الشرعي الوحيد للقطاع الطلابي داخل البلاد وخارجها، وفق المرسوم رقم 130 الصادر عام 1966 بقرار من القيادة القطرية لحزب البعث.
وفي عام 1970، حُددت مهام الاتحاد بشريحة الطلاب الجامعيين فقط، بينما أُسندت مسؤولية تمثيل الطلاب ما دون الجامعيين إلى “اتحاد شبيبة الثورة”. وظل الاتحاد مرتبطًا وظيفيًا وقانونيًا بالقيادة المركزية لحزب البعث، رغم صدور قانون الأحزاب عام 2011 وإلغاء المادة الدستورية التي تجعل البعث القائد للدولة والمجتمع عام 2012.
خلال الثورة السورية، برز دور الاتحاد الوطني لطلبة سوريا كأداة قمعية بيد النظام، حيث انضم أعضائه لما يسمى “كتائب البعث” للمشاركة في قمع الاحتجاجات واعتقال السوريين السلميين.
كما أقام أعضاء الاتحاد نقاط تفتيش داخل الجامعات، مستهدفين الطلاب والنشطاء المعارضين. بالإضافة إلى التبليغ عن الطلاب الثوريين وتسهيل اعتقالهم من قبل الأجهزة الأمنية. مما أدى إلى فصل مئات الطلاب الثائرين ومنعهم من متابعة تعليمهم.
حسب تحقيق أجراه المجلس السوري البريطاني عن دور الاتحاد الوطني لطلبة سوريا في قمع الحراك الطلابي بين عامي 2011 و2013، تأكد بالاستناد إلى 20 مقابلة مع شهود عيان من طلاب وأساتذة وأعضاء سابقين في الاتحاد، وجود نظام عمل منهجي للاعتقال والتعذيب وقمع المظاهرات السلمية داخل الحرم الجامعي تختص بالطلبة. متطابقة في طبيعتها مع ما يحدث في الأفرع الأمنية، ما يبرز التنسيق الوثيق بين الجهتين.
وأعلنت الإدارة السورية المؤقتة عن حل “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا”، الذي ظل لعقود أداة أساسية بيد النظام، ويشمل القرار إلغاء جميع الامتيازات والصلاحيات الممنوحة للاتحاد وقياداته، بما في ذلك السيطرة على المجالس الطلابية والأنشطة الجامعية.
كما أعلنت وزارة التعليم العالي عن تشكيل لجنة لمراجعة هيكلة العمل الطلابي ووضع إطار جديد يضمن استقلالية الحركة الطلابية ويعزز مناخ الحرية الأكاديمية في الجامعات. مما يفتح وفتح المجال أمام تأسيس اتحادات طلابية جديدة تعبّر عن طموحات الطلاب بعيدًا عن الإملاءات السياسية.
ثانيًا: الأمانة السورية للتنمية
تأسست “الأمانة السورية للتنمية” في عام 2001 كمؤسسة غير حكومية ظاهريًا، لكنها كانت منذ البداية وثيقة الصلة بعائلة الأسد، وخاصة أسماء الأسد، التي قادت المؤسسة وأشرفت على مشاريعها.
كان الهدف المعلن من الأمانة هو دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية في سوريا، لكنها عملت في الواقع كأداة لتعزيز سيطرة النظام على المجتمع المدني والموارد الاقتصادية. كما استخدمت كأداة لغسل الأموال الناتجة عن أنشطة غير قانونية، بحسب تصنيفات وزارة الخزانة الأميركية.
عملت الأمانة على احتكار المبادرات التنموية والخيرية، وتوجيهها لخدمة مصالح النظام. وتضاعف هذا الدور تدريجيًا لتصبح جزءًا من منظومة القمع السياسي، حيث استغلت شبكاتها لتحديد المناطق الموالية والمعارضة، لتوزيع المساعدات بشكل انتقائي. بالإضافة إلى تلميع صورة النظام داخليًا وخارجيًا، عبر الترويج لمشاريعها التنموية.
كما وضعت يدها على عمليات الترميم والتأهيل، مثل ترميم الأسواق القديمة في مدينة حلب، وعدد من المنازل والمباني التراثية والجوامع والحمامات في محافظتي حلب وطرطوس، إضافة إلى التكية السليمانية في دمشق. عدا عن استغلال المساعدات الموجهة للمتضررين عقب الزلزال الذي ضرب تركيا وشمالي سوريا.
وأعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة تسيير الأعمال السورية عن قرار حل مجلس الأمناء الحالي لـ”الأمانة السورية للتنمية”، وفق قرار صدر في 24 ديسمبر/ كانون الأول، تُنهى بموجبه جميع الصلاحيات الممنوحة لأعضاء مجلس الأمناء السابقين، بما في ذلك إدارة الحسابات البنكية، الأملاك، والالتزامات المالية والقانونية. فيما يمثل هذا القرار خطوة نحو تفكيك أدوات السيطرة الناعمة التي استخدمها النظام السابق لإحكام قبضته على الموارد والمجتمع المدني.
ثالثًا: الضابطة الجمركية السورية
تأسست الضابطة الجمركية في عام 2006، بموجب قانون الجمارك رقم 38 كجهة رقابية وتنظيمية للإشراف على حركة التجارة والبضائع عبر الحدود السورية ومكافحة التهريب. كانت مهمتها المعلنة تسهيل العمليات التجارية وتنظيم دخول وخروج السلع بما يضمن مصالح الدولة والمجتمع.
ومع مرور الوقت، تطورت الضابطة إلى جهاز يتمتع بصلاحيات واسعة وشبه مطلقة، مما جعلها واحدة من أقوى الجهات المؤثرة في المشهد الاقتصادي السوري. ارتبطت هذه الصلاحيات بعدد من القيادات النافذة في النظام السابق، مما أتاح لها تجاوز مهامها الأساسية لتصبح أداة لتعزيز القبضة الاقتصادية.
بعد عام 2011، لعبت الضابطة الجمركية دورًا محوريًا في شبكات التهريب التي مولت النظام وأعوانه، واستُخدمت كمعبر لمرور الأسلحة والذخائر له. كما ضمنت استمرار وصول الإمدادات للجيش. في الوقت ذاته، فرضت الضابطة إجراءات تعسفية على التجارة والاستيراد، مما أدى إلى تشديد الحصار الاقتصادي على السوريين. واستغلت سلطتها لإثراء شخصيات نافذة داخل النظام من خلال فرض رسوم وإتاوات غير قانونية على التجار، مما ساهم في خلق اقتصاد ظل عزز شبكات الفساد.
صدر قرار بحل الضابطة الجمركية بكافة تشكيلاتها وإلغاء صلاحياتها الواسعة ، في 18 ديسمبر/ كانون الأول. حيث أُوقف عمل كافة الضباط والعاملين المرتبطين بها، وتمت مراجعة القوانين التي منحتها سلطتها المطلقة. كما تم تشكيل لجنة مختصة لإعادة هيكلة النظام الجمركي ووضع آليات تنظيمية جديدة تهدف إلى ضمان نزاهة العمليات الجمركية، بدءًا لدعم تنمية التجارة الداخلية والخارجية.
رابعًا: حزب البعث
تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1947 كحركة سياسية قومية، مستندًا إلى شعارات مثل “وحدة، حرية، اشتراكية”. بعد توليه السلطة في سوريا عام 1963 من خلال انقلاب عسكري بقيادة حافظ الأسد، أصبح الحزب القوة الحاكمة والمسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية.
وترسخت سلطته مع تعديل الدستور عام 1973 الذي نص على أن حزب البعث هو “القائد للدولة والمجتمع”، مما ألغى التعددية السياسية وأخضع كافة مؤسسات الدولة، بما في ذلك القضاء والتعليم والإعلام، لسيطرة الحزب.
خلال الثورة السورية، لعب حزب البعث العربي الاشتراكي دورًا رئيسيًا في قمع الحراك الشعبي عبر أذرعه التنظيمية ومؤسساته القاعدية. استُخدمت فرق الحزب والشُعب الحزبية كوسيلة للتجسس والإبلاغ عن النشطاء والمشاركين في الاحتجاجات السلمية. كما نظّم الحزب مسيرات مؤيدة للنظام لتشويه صورة المعارضة وإظهار الولاء الشعبي المزعوم للنظام.
سياسيًا، عمل الحزب على ترسيخ الدعاية الحكومية التي تروج لسردية المؤامرة ضد سوريا، واستُخدم كوسيلة لإعادة توجيه الغضب الشعبي نحو “أعداء خارجيين”. أما على الصعيد العسكري، فقد ساهم أعضاء الحزب في تشكيل ميليشيات موالية للنظام، أبرزها “كتائب البعث”، التي شاركت في قمع المظاهرات المسلحة والمدنية، مما عزز حالة الاستقطاب والانقسام الاجتماعي.
وأعلنت الإدارة السورية المؤقتة عن قرار تاريخي يقضي بتجميد جميع أنشطة حزب البعث في البلاد. وشمل القرار تعليق جميع الاجتماعات التنظيمية للحزب، وإلغاء الصلاحيات الممنوحة له في المؤسسات الحكومية والمجالس الشعبية. كما أعلنت الإدارة عن تشكيل لجنة مختصة لمراجعة آثار سياسات الحزب على المجتمع السوري، واقتراح بدائل تهدف إلى دعم التعددية السياسية في رسالة واضحة بأن سوريا الجديدة لن تتسامح مع أدوات الاستبداد الباقية من حكم النظام السابق.
ختامًا، لا يمكن النظر إلى تفكيك إرث النظام في سوريا كعملية إدارية فحسب، بل كتحول سياسي جذري يعيد تعريف الهوية الوطنية والمفاهيم الأساسية للدولة والمجتمع. إذ أن هذه القرارات تمثل مواجهة مباشرة مع الموروثات التي أسست لاستبداد عميق ومؤسسات هشة، وتفتح الباب أمام بناء نموذج جديد قائم على العدالة والمشاركة الشعبية وسيادة القانون. وهو ما لن يتحقق سوى بإعادة بناء منظومة متكاملة من الإرادة السياسية، والوعي المجتمعي.