بالتوازي مع الرسائل الإيجابية التي بعثت بها الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع إلى الدول الإقليمية والغربية، والتي تؤكد فيها حرص سوريا الجديدة على إقامة علاقات طبيعية مع هذه الدول وعدم التدخل في شؤونها أو تصدير الثورة لها، وإذ تجلى الرد الإيجابي على هذه الرسائل في زيارة الوفود العربية والأمريكية والأوروبية إلى دمشق، حرصت الإدارة الجديدة مقابل ذلك إلى إرسال إشارات إيجابية لحلفاء النظام الذين ساعدوه في قمع ثورة الشعب السوري على مدى 14 عامًا، لا سيما روسيا وإيران.
في مقابلة مع قناة العربية الأحد 29 ديسمبر/كانون الأول قال الشرع: “سوريا لا تستطيع أن تستمر بدون علاقات مع دولة إقليمية كبيرة مثل إيران، لكن يجب أن تكون على أساس احترام سيادة البلدين وعدم التدخل في شؤون البلدين”، وعن العلاقة مع روسيا أكد أنه لا يريد أن تخرج روسيا بطريقة لا تليق بعلاقتها مع سوريا، مضيفًا “روسيا ثاني أقوى دولة في العالم ولها أهمية كبيرة”، كما اعتبر أن لدمشق مصالح استراتيجية مع موسكو.
وفي الوقت الذي يبدو فيه مفهومًا حرص الإدارة الجديدة على فتح علاقات سياسية وأمنية واقتصادية مع الدول العربية والإقليمية والدولية، بسبب حاجتها إلى تأمين الشرعية من جهة، وإلى المساعدات اللازمة في مشروعات التنمية وإعادة الإعمار بعد تركة الخراب والفساد التي خلفها النظام المخلوع، يبرز السؤال حول حرص هذه الإدارة على فتح علاقات مع روسيا وإيران اللتين كان لهما الدور الأكبر في قمع ثورة الشعب السوري، وإطالة عمر النظام كل هذه السنوات.
روسيا ترد برسائل إيجابية
وجه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، رسائل عدة عن مواقف بلاده تجاه التغييرات في سوريا. وحملت لهجته اعترافًا غير مباشر بـ”السلطات الجديدة”، وبدا من حديث لافروف مع ممثلي وسائل إعلام روسية وأجنبية الخميس 26 ديسمبر/كانون الأول أن موسكو بدأت تبلور الملامح الأولى لسياستها تجاه القيادة الجديدة في سوريا.
كما بدا لافروف مرتاحًا للإشارات التي صدرت من القيادة السورية الجديدة حول العلاقات مع روسيا. وقال إنه “بالنظر إلى ما قاله رئيس الحكومة السورية الجديدة، أحمد الشرع، عن العلاقات بين روسيا وسوريا والتي وصفها بأنها طويلة الأمد واستراتيجية، فإن السلطات السورية الجديدة سيكون بمقدورها أن تقرر الشكل المحدد، لآليات المساعدة في العمليات التي بدأت الآن في سوريا”.
وبحسب مراقبين فإن روسيا تسعى للحفاظ على علاقات جيدة مع الإدارة السورية الجديدة حفاظًا على وجودها العسكري في قاعدة حميميم، وميناء طرطوس، وهو ما يؤمن لها المنفذ الوحيد للوصول إلى المياه الدافئة، كما أن وجود موسكو في شرق المتوسط كان عنصرًا مهمًا للغاية في دعم العمليات اللوجستية العالمية لروسيا، ما سهَّل نقل القوات والأسلحة الثقيلة إلى إفريقيا.
من جانب آخر فإن الوجود العسكري الروسي في سوريا هو الذي أدى – إلى حدٍّ كبير – إلى تحالفها الحالي مع إيران، التي ساعدتها في توفير معدات عسكرية مهمة في حربها ضد أوكرانيا.
وكان نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أوضح في تصريحات صحفية أن محادثات بلاده البناءة مع الإدارة السورية الجديدة تهدف إلى تأكيد استمرار الوجود العسكري الروسي وتأمين القواعد الروسية في طرطوس واللاذقية، قائلًا إن تلك القواعد كانت “بناءً على طلب السلطات السورية بهدف محاربة الإرهابيين وداعش، وأفترض أن الجميع يتفقون على أن المعركة ضد الإرهاب وما تبقى من داعش لم تنتهِ بعد”.
ما علاقة الغرب بالحفاظ على العلاقات مع روسيا؟
من أبرز التحديات التي تواجه الإدارة السورية الجديدة على المستوى الخارجي هي قضية تصنيف هذه الإدارة وقائدها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) على لوائح الإرهاب الأمريكية والأوروبية، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي تفرضها هذه الدول على سوريا منذ أيام النظام السابق، والتي تشكل عائقًا أمام حركة التنمية ومعالجة الواقع السوري المتردي على المستويات كافة.
الباحث في مركز أبعاد للدراسات، فراس فحام، يشير إلى أن روسيا دولة قوية لها علاقات تاريخية مع الدولة السورية بغض النظر عمن يحكم سوريا، لذا يرى فحام في حديثه لموقع “نون بوست” أن الوجود الروسي في سوريا يمكن أن يكون ورقة تفاوضية كبيرة بيد الإدارة الجديدة، خاصة أن قيادتها ما زالت مصنفة على قوائم الإرهاب العالمي، إضافة إلى وجود عقوبات غربية وأمريكية.
وبحسب الباحث فحام فإن الإدارة السورية الجديدة قد تتعامل مع هذا الموضوع على النحو التالي؛ أن تطالب الولايات المتحدة والدول الأوروبية برفع التصنيف والعقوبات الاقتصادية وتقديم الدعم لإعادة الإعمار مقابل إخراج روسيا من سوريا، وإلا “فإننا سنبقي على القواعد الروسية في سوريا”.
ويبدو أن الروس يدركون هذا الأمر جيدًا، وهو ما بدا واضحًا في حديث لافروف للصحفيين عندما أوضح أن الشرع “يتعرض لضغوط كبيرة من جانب الغرب الذي يريد أن يختطف أكبر قدر ممكن من التأثير والمساحة. ويضغط عليه كي يبتعد عن روسيا، حتى إن المفوضة السامية لشؤون السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، قالت إن عددًا من الوزراء اقترحوا (طرد) الروس، واشترط وزير الخارجية الإستوني، مارغوس تساخكنا، خروج القواعد العسكرية حتى تحصل سوريا على المساعدات”، وهو ما أسماه لافروف “وقاحة لا مثيل لها”.
من ناحيته يتوقع الباحث بمركز جسور للدراسات، بسام سليمان، لموقع “نون بوست” أن يكون هناك احترام في العلاقة مع روسيا بغض النظر عن النتيجة، سواء قدم الغرب أشياء تجعل الحكومة تطلب من روسيا الخروج، أو لم يقدم، فبالنهاية تبقى روسيا عضوًا أساسيًا في مجلس الأمن يمكن الاستفادة منه في الكثير من الملفات.
ماذا عن إيران؟
على خلاف الموقف الروسي، كان الموقف الإيراني سلبيًا تجاه الإدارة السورية الجديدة، وهذا ما بدا واضحًا في تصريحات المسؤولين الإيرانيين ابتداءً من المرشد الذي أوضح في 17 ديسمبر/كانون الأول “أن الثوار تسببوا بالفوضى، والآن يعتقدون أنهم حققوا النصر، وبدأوا في التفاخر بشكل مبالغ فيه”، متوقعًا أن تظهر في سوريا “مجموعة شريفة وقوية لهزيمة هؤلاء”، حسب تعبيره.
من جانبه قال وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في تصريحات صحفية: “من يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا، عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”.
لكن على الرغم من هذه التصريحات، نجد أن قائد الإدارة السورية الجديدة حرص في أثناء مقابلته مع قناة العربية على إرسال رسائل إيجابية إلى طهران، وقد عبّر عن ذلك بالقول: “كنا نتوقع تصريحات إيجابية من طهران”، وأعرب الشرع عن أمله في أن تعيد طهران حساباتها حول التدخلات في المنطقة، وتعيد النظر في سياساتها، لأن هناك “شريحة واسعة تطمح لدور إيراني إيجابي في المنطقة”. وأوضح الشرع أن إدارة العمليات العسكرية “قامت بواجبها تجاه المقرات الإيرانية رغم الجراح”.
ولتفسير موقف الإدارة السورية الجديدة تجاه إيران يوضح الباحث بمركز جسور للدراسات، بسام سليمان، أن حرص أحمد الشرع على إرسال رسائل إيجابية إلى إيران نابع من حرص الإدارة الجديدة على عدم الوقوع في صراع مع إيران، لأن إيران ما زالت تملك أدوات للضغط في سوريا كـ”حزب الله” اللبناني، إضافة إلى أن وجودها في سوريا لمدة 13 عامًا ساعدها على خلق أدوات للتحرك منها المليشيات المحلية التي كانت تتبع لها.
أما السبب الآخر الذي يدفع الإدارة السورية الجديدة لاستيعاب الموقف الإيراني – بحسب الباحث سليمان – فهو أن حكومة تصريف الأعمال همها في الوقت الحالي تحسين الواقع الخدمي والمعيشي، لذا تسعى إلى تصفير المشكلات مع الجميع سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، والتفرد لمعركة البناء والأمان في الداخل.
وفيما تم افتتاح العديد من السفارات الأجنبية في العاصمة دمشق، إلا أن العلاقات الدبلوماسية بين إيران والإدارة السورية الجديدة مقطوعة تمامًا، وقالت الناطقة باسم الحكومة الإيرانية، فاطمة مهاجراني، أن بلادها بصدد تقييم العلاقات مع دمشق، و”ستتخذ قرارها بناءً على سلوك وأداء الحكام المستقبليين في سوريا”.
إيران مصدر قلق دائم
يبدو واضحًا أن إيران هي الخاسر الأكبر من سقوط النظام السوري، نظرًا لعلاقاتهما التاريخية والاستراتيجية منذ انطلاق الثورة الإيرانية عام 1979، من جهة، ولدورها البارز في دعم النظام خلال مواجهته لثورة الشعب السوري، والذي لم يقتصر على الدعم السياسي والاقتصادي، بل تخطاه إلى الدعم اللوجستي والعسكري، كما كان للمليشيات الإيرانية حضور بارز في شوارع المدن السورية ولا سيما في العاصمة دمشق والمقرات الأمنية، حتى أضحت القوات الموالية لها منتشرة في قرابة 600 نقطة موزعة على طول سوريا وعرضها، بينها 55 قاعدة عسكرية، بحسب تقرير مركز جسور للدراسات.
وعليه تبقى إيران بحسب كثير من الباحثين بالشأن الإيراني مصدر قلق للإدارة السورية الجديدة، لأنها لن تتخلى عن مكتسباتها في سوريا التي تشكل لها جسور عبور لتهديد “إسرائيل” عن طريق تأمين نقل الأسلحة والمعدات لمليشيا “حزب الله” اللبناني.
وعبر عن هذا الموقف الإيراني القائد السابق للحرس الثوري الإيراني، محسن رضائي، في تصريحات نقلتها وكالة إيسنا الإيرانية قال فيها: “المقاومة ستبعت من جديد في سوريا في أقل من عام وبشكل جديد”، لإحباط ما دعاه “بالمخطط الأمريكي والصهيوني الخبيث والمخادع المدبر للمنطقة”، وخاطب رضائي الشعب السوري “معولًا” على وعيه ورفضه “للاحتلال والعدوان الخارجي ومحاولات التفرد الداخلي” بالسلطة.
وفي هذا السياق يؤكد فحام أن الإدارة السورية الجديدة في تحركاتها الدبلوماسية تحاول أن تختبر الفرص والخيارات لدى اللاعبين الدوليين والإقليميين باستثناء إيران، التي من الواضح أنه لن يكون لها نفوذ في سوريا الجديدة، ويتابع فحام أن كسر مشروع إيران في سوريا على يد الإدارة الجديدة وإسقاط نظام الأسد هو ما دفع دولًا كثيرة عربية وإقليمية إلى فتح الأبواب الدبلوماسية مع هذه الإدارة، والتي كانت إيران وأذرعها الإقليمية تسبب لهم الكثير من الأزمات.