تتمتع إيران بأهمية جيوبوليتيكية كبيرة على خريطة الإستراتيجيات العالمية، وذلك لطبيعة موقعها الجيوإسترايجي المميز، فقد مكنتها هذه الميزة الجغرافية من أن تكون نقطة تواصل بين شرق قارة آسيا وغربها، فضلًا عن المزايا الإستراتيجية الهائلة التي وفرها لها هذا الموقع الجغرافي المتمثل بوقوعها على طرق موارد التجارة العالمية والثروات البترولية، بالإضافة إلى توافرها على المزايا المادية والمعنوية التي أهلتها لأداء أدوار خارجية، عززت من سياستها ومكانتها إقليميًا ودوليًا.
إن امتلاك إيران لمصادر القوة المادية “الصلبة”، جعلها تستشعر بفائض القوة الذي انعكس بدوره على طبيعة إستراتيجيتها الإقليمية، يضاف إلى ما سبق احتواء إيران على عمق تاريخي وثقافي وحضاري، جعلها تعيد اكتشاف مصادر قوتها من جديد، لتشكل إضافة قوية لمصادر قوتها الناعمة التي مكنتها من الولوج إلى الكثير من مناطق وأقاليم العالم، وأصبحت أداة مؤثرة في إستراتيجيتها السياسية الخارجية، وذلك من خلال توظيف الثقافة والحضارة واللغة الإيرانية بشكل يستهدف الشعوب دون الدول والنخب دون الحكومات، وأن تنفذ إلى داخل الكينونات الإنسانية وتحديدًا المؤدلجة فكريًا، متجاوزة بذلك الأطر التقليدية لمفهوم استخدام القوة، وتحديدًا في المجالات القريبة منها، وبالتالي فقد أوجدت أنموذجًا إقليميًا يوائم بين استخدام القوة الصلبة المتكونة من العناصر المادية والبشرية، والقوة الناعمة المتكونة من الأفكار والتقاليد والأعراف التي تمثل عمقها التاريخي والحضاري، مما جعلها تطرح نفسها بإطار يتجاوز موضوع الدولة الإقليمية المشاركة أو المؤثرة.
تنطلق الإستراتيجية الإيرانية في تعاملها مع الشرق الأوسط من رؤى وخطوط عامة تعكس الطبيعة العامة للشخصية الإيرانية
إيران دولة حالها حال الدول الأخرى، لها من الإمكانات والموارد السياسية ما يؤهلها للاضطلاع بأدوار إقليمية ودولية ذات شأن إستراتيجي مؤثر، كما أن لها خصوصية سياسية في إدراتها للأزمات في الشرق الأوسط، من منطلق المصلحة القومية العليا، وهي في سبيل ذلك تجيش الموارد كافة صلبة وناعمة، لإدراتها بنجاح وتمكن قدر المستطاع، لكن في المقابل تواجه مشكلة كبيرة في تسويق نموذجها السياسي الثيوقراطي الطائفي، خصوصًا في دول الجوار الخليجي والعربي.
ورغم اعتمادها على إستراتيجية “التمكين الشيعي”، لإنجاح مسعاها السياسي، فإن هذا النجاح ارتد عليها بالفشل نتيجة عدم أداء الأدوات لأدوارها بصورة تخدم المصالح السياسية الإيرانية، بل إن المستقبل وضع إيران ضمن إطار حسابات جيوسياسية معقدة، أرقت صناع القرار فيها.
تنطلق إستراتيجية طهران في تعاملها مع الشرق الأوسط من رؤى وخطوط عامة تعكس الطبيعة العامة للشخصية الإيرانية، فهي كغيرها من دول العالم يلعب فيها عنصر التخطيط الإستراتيجي دورًا كبيرًا في تحديد الأطر والخطوط الرئيسة للحركة الخارجية، وهنا يبرز الحديث عن طبيعة المؤسسات العاملة في داخل الأجهزة الرسمية وغير الرسمية في النظام السياسي الإيراني.
إذ تتمثل الغاية والهدف القومي الأعلى لطهران، في بسط هيمنتها على مجمل منطقة الشرق الأوسط، ضمن مفهوم المجال الحيوي الذي يحتل مكانة كبيرة في تفكير العقل الإستراتيجي الإيراني، خاصة المجالات الحيوية المتاخمة لها سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وأيديولوجيًا، انطلاقًا من مفهوم عقائدي بأنها قوة إقليمية عظمى مؤهلة حضاريًا لقيادة دول المنطقة، وذلك بحكم ما تملكه من قدرات جيوبوليتيكية ضخمة وحضارة فارسية قديمة.
لا يخفى على أحد أن الشكوك الأمنية الإيرانية تلعب دورًا كبيرًا في صياغة إستراتيجيتها الإقليمية، ولعل الدور الذي يلعبه مجلس الأمن القومي الإيراني والمرشد الأعلى في صياغة الإستراتيجية الإيرانية خير مثال على ذلك
شهدت الساحة السياسية الإيرانية وتحديدًا بعد العام 1979 حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي انعكس بدوره على طبيعة فعلها الخارجي، محاولةً إعادة قولبة وإنتاج إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، ولذلك تراوحت الأدوار الخارجية الإيرانية بين عدم الاستقرار وتعدد أنماط دورها الإقليمي.
ففي بداية الثورة شكل التوجه الأيديولوجي الثوري عنصرًا محركًا للإستراتيجية الإيرانية، من خلال تبني شعار تصدير الثورة، وبعد الحرب العراقية الإيرانية وما تبعها من تداعيات كبرى في الشرق الأوسط كحرب الخليج الثانية عام 1991، شكل الموضوع الأمني وحماية الوحدة الوطنية وإعادة بناء وتحديث القدرات العسكرية ركيزة رئيسة في الإستراتيجية الإيرانية.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، توجهت إيران إلى تنشيط مفاعيل تحركها الإقليمي في الشرق الأوسط، من خلال اعتماد إستراتيجيات تدخلية (صلبة وناعمة) في مختلف شؤون المنطقة، فضلًا عن توظيف فرضيات الحروب اللامتماثلة التأثير، لمواجهة التهديدات الخارجية والصراعات العسكرية في ساحات الشرق الأوسط.
لا يخفى على أحد أن الشكوك الأمنية الإيرانية تلعب دورًا كبيرًا في صياغة إستراتيجيتها الإقليمية، ولعل الدور الذي يلعبه مجلس الأمن القومي الإيراني والمرشد الأعلى في صياغة الإستراتيجية الإيرانية خير مثال على ذلك، فهم يحددون الأهداف والضرورات الوطنية الواجب اعتمادها في كل مرحلة مستجدة من مراحل الشرق الأوسط المتغير، وذلك يرتبط بطبيعة المتغيرات الحاكمة والملفات المستجدة والظروف الطارئة، وفي الوقت الحاضر سعت إيران إلى إعادة بناء دورها الإقليمي، مستغلة بذلك جملة من المتغيرات التي شهدتها المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، من خلال فرض مكانة جديدة قادرة على التجاوب مع ضرورات المرحلة.
حظي العراق بمكانة مهمة في التفكير الإستراتيجي الإيراني، بمختلف المراحل والفترات التاريخية، وعلى كل الأصعدة السياسية والعسكرية والأمنية وغيرها
شكلت الهيمنة الإيرانية على العراق، المرتكز الرئيس للتغول الإيراني في المنطقة، وعند دراسة وتحليل الإستراتيجية الإيرانية في العراق، نجد أنها مثيرة للجدل بطبيعة تفاصيلها وأهدافها وركائزها، فهي شملت الميادين كلها، وتدخلت في أبسط أبجديات الساحة العراقية، وامتدت تأثيراتها لمختلف القطاعات الرسمية وغير الرسمية، وهذه الجدلية تنبع من الطريقة التي تعاطت بها إيران من المتغيرات المستجدة في الساحة العراقية، خصوصًا أن العراق يقع في قلب منطقة الشرق الأوسط التي استقرت هي الأخرى على أنها غير ثابتة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
إذ حظي العراق بمكانة مهمة في التفكير الإستراتيجي الإيراني بمختلف المراحل والفترات التاريخية، وعلى كل الأصعدة السياسية والعسكرية والأمنية وغيرها، ولعل الانغماس الإيراني الحاليّ في الشأن الداخلي العراقي، يوضح الأهمية الكبرى التي يمثلها العراق في المجال الحيوي الإيراني، فإيران كانت وما زالت تطمح بربط العراق دولة ومؤسسات بعجلة إستراتيجيتها الإقليمية، ولأنها تعد نفسها قوة إقليمية مهيمنة، فإنها تتوقع أن يتم استشارتها في كل قضايا المنطقة بلا استثناء.
ومن هنا جاءت الوثيقة الإستراتيجية الايرانية التي تحمل عنوان “إيران 2025″، لتؤكد هذا التوجه في الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية، إذ رسمت هذه الوثيقة موقف إيران الإستراتيجي للمدة بين “2005 – 2025″، حيث وضعت هذه الوثيقة خريطة الطريق للبعد المستقبلي للدور الإيراني في المنطقة للمدة المذكورة أنفًا، التي مثل فيها العراق نقطة الانطلاق نحو الشرق الأوسط ودوله.
استندت الرؤية الإيرانية في تعاملها مع الواقع العراقي إلى تحقيق غايتين أساسيتين: أن تكون إيران قوة متنامية تمسك بكل خيوط اللعبة السياسية والأمنية من جهة، ومن جهة أخرى أن تكون قوة وصاية مؤثرة في مجمل القضايا العراقية، ومن أجل تحقيق ذلك رسمت إيران الملامح الشاملة التي تشكل تفكيرها الإستراتيجي والعسكري في العراق الذي يستند بالحاجة إلى تأكيد دور إيران المهيمن في العراق، وفيما هو أبعد من العراق، وكذلك الحاجة إلى تعزيز قدرات إيران في الدفاع عن نفسها في مواجهة أي عدوان عسكري خارجي.
ولتحقيق ذلك سعى قادة إيران إلى جعل العراق خط الدفاع الأول عن إيران من خلال الاعتماد على الأحزاب والمليشيات والجماعات المسلحة، وغيرها من أدوات الفعل غير الدولتي المؤثر في الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية في العراق.
أفرزت مرحلة ما بعد عام 2003 تذمرًا أمريكيًا متصاعدًا من طبيعة الدور الإيراني في العراق والمنطقة، فقد تمكنت إيران من إدارة التناقضات في العراق الجديد بتمكن
إن منطقة الشرق الأوسط شهدت من التحولات السياسية الكبرى، ما أدى إلى إعادة تشكيلها وهيكلتها من جديد، وتحديدًا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي كان للعراق النصيب الأكبر منها، وساهمت بدورها في إضعاف وتفتيت العراق دولة ومؤسسات وشعب، من خلال سياسات الاحتواء والعقوبات الاقتصادية والضربات الجوية وغيرها من الإجراءات العقابية التي صبت بمجملها في إطار المصلحة الإستراتيجية الإيرانية، ولعل هذا ما جعلها تستثمر الفرصة السانحة بعد عام 2003، بحيث شهدت هذه الفترة إعادة هندسة للأدوار الإيرانية في العراق، وذلك بانتقال مجال عملها من خارج الحدود العراقية إلى داخله، من خلال إعادة توزيع الأدوار السياسية والأمنية بين الأوساط السياسية التي تدور في الفلك السياسي الإيراني بالعراق.
لقد أفرزت مرحلة ما بعد عام 2003 تذمرًا أمريكيًا متصاعدًا من طبيعة الدور الإيراني في العراق والمنطقة، فقد تمكنت إيران من إدارة التناقضات في العراق الجديد بتمكن، من خلال تبنيها إستراتيجية دعم المليشيات المسلحة من جهة، ومن جهة أخرى تفعيلها لإستراتيجية التمكين السياسي لأحزاب الإسلام السياسي، من أجل ضمان وصولها إلى السلطة والسيطرة على نظام الحكم بكل مفاصله ومؤسساته، وبالتالي فإن موضوع هل أن لإيران مصالح حيوية في العراق هي مسالة لا تقبل الشك أو النقاش، وذلك من خلال استقراء طبيعة الأدوار التي قامت بها، وهي بالتأكيد قادرة على القيام بأكثر من ذلك، إذا اقتضت الضرورات الإستراتيجية الإيرانية.
والأمر الذي لا بد من الإشارة إليه أيضًا أن الإستراتيجية الإيرانية في الوقت الحاضر، أصبحت على دراية واسعة بالوضع العراقي وحيثياته، فحرب الثماني سنوات ونفوذها العسكري والأمني والديني والمليشياوي داخل العراق بعد احتلاله، جعلها تتمتع برؤية واضحة لمجمل الحالة العراقية، فهي اليوم تنشط في كل مناطق العراق ولديها شبكة واسعة الانتشار من العناصر الاستخباراتية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، فضلًا عن تأثيرها الديني والثقافي والاجتماعي، والموضوع الأكثر أهمية من كل ما تقدم يتمّثل في ارتباطها السياسي والعقائدي بأغلب الأحزاب والمنظمات والمليشيات المسلحة في العراق، والهدف من ذلك كله، ضمان عدم عودة العراق كطرف فاعل ومؤثر في الشرق الأوسط، من خلال إفراغه من كل مقومات العودة والنجاح.