ربّما يعلم الكثير منّا كيف تتغيّر وتتكيّف أجساد النساء مع الأمومة، بدايةً من التحولات الهرمونية ووصولًا إلى التقلبات العصبية ونهايةً بالتغيرات البيولوجية الواضحة التي تعقب عملية الولادة. كلّ هذا اعتمد على فهم غير دقيق لتجربة الحمل والولادة باعتبارها تجربة خالصة للأم، فتم التركيز عليها مع إغفال الشريك. وإن كان ذلك يبدو منطقيًا في مرحلة الحمل، فإن تجربة ما بعد الولادة تعدّ تجربة مشتركة لكلا الوالدين، تؤثر فيهما ويؤثرون فيها، وعليه لا يمكن النظر إليها كتجربة خالصة للأم. برغم ذلك، وجدت دراسات حديثة أن الحمل يؤثر في الرجل كذلك بطريقة مثيرة للاهتمام.
ففي الآونة الأخيرة، بدأ العلماء يركّزون على التغيرات التي تطرأ على أجساد الرجال مع بداية مرحلة الأبوة، ووجدوا أنهم يواجهون اختلافات متعددة في مستويات الهرمونات والاستجابات الدماغية، وحتى فيما يخص حالتهم الاجتماعية والاقتصادية التي تميل إلى التغيّر بمجرد وصول أطفالهم إلى الحياة.
تجربة الآباء مع التغيرات الهرمونية
وجدت دراسة نوقشت خلال مؤتمر جامعة “تافتس” الأمريكية، أن الرجال يعانون من أعراض الحمل أيضًا، وأبرزها التقلبات الهرمونية التي تساعدهم على التأقلم مع مطالب الأبوة بشكل أكثر مرونة، ففي الوقت الذي تشهد فيه النساء ارتفاعًا كبيرًا في 4 هرمونات مرتبطة بالحمل، مثل التستوستيرون والكورتيزول والاستراديول والبروجستيرون، يشهد الرجل تغيرات بسيطة في هرمونات التستوستيرون والاستراديول، وهي الهرمونات التي تجعلهم أقل عدوانية واهتمامًا بالجنس، وأكثر ميولًا للمسؤوليات والمهام التي تتطلب رعاية.
جدير بالذكر أن معدلات التستوستيرون العالية مرتبطة لدى الذكور بسلوكياتهم العنيفة والتنافسية وخاصةً في مواسم التزاوج، ولكن مع بداية انخفاضها إلى الثلث في الأشهر الأولى من الحمل، أي قبل أن يصبح الرجل أبًا، وخلال الأسابيع الثلاثة الأولى بعد ولادة الطفل، تقلّ حدة هذه السلوكيات، لكي تساعد الرجال على التكيّف مع أدوارهم الجديدة كمقدمي رعاية، وبهدف زيادة ارتباطهم بأطفالهم. ويضيف العلماء إلى ذلك، بأن حفاظ الهرمونات على مستوياتها المعتادة يجعل الرجل مشغولًا في محاربة الرجال الآخرين وإغواء النساء الأخريات أكثر من الاهتمام بمسؤولياته الأسرية.
ذكرت إحدى الدراسات الحديثة أن وجود طفل في الأسرة يضيف نحو عامين إلى متوسط عمر الأب المتوقع.
تؤكد ذلك هايلي لواي، التي تدرّس علم الغدد الصماء لدى الآباء في جامعة ميموريال في نيوفاوندلاند الأمريكية، قائلةً: “إن كل التغييرات الداخلية يمكن أن تعتمد على مقدار الوقت الذي يقضيه الآباء مع أطفالهم على انفراد”. وتضيف “إن وجود تفاعل جسدي مباشر بين الرجل وطفله الرضيع له تأثير كبير على تغير مستوياته الهرمونية التي تجعله أكثر تعاطفًا وهدوئًا في التعامل مع طفله واحتياجاته”.
إضافة إلى ذلك، فإن التغيرات الهرمونية في الآباء خلال المراحل الأولى من حياة الطفل لا تستمر لفترة مؤقتة، فالأطفال لديهم تأثير طويل المدى على أجساد الرجال وصحتهم. وهذا ما أشارت إليه دراسة أجريت عام 2017 في السويد في جامعة ستوكهولم، حين وجدت أن وجود طفل في الأسرة يضيف نحو عامين إلى متوسط عمر الأب المتوقع. كما توصلت دراسة بريطانية أخرى في عام 2003 -شملت 4 آلاف و252 رجل تتراوح أعمارهم بين 60 و70 عامًأ- إلى أن الرجال الذين لديهم طفلان معرضين لخطر الإصابة بمرض القلب أقل من الرجال الذين لديهم طفل واحد أو ليس لديهم أطفال على الإطلاق.
تغيرات في الاستجابات الدماغية
هناك أيضًا أدلة غير مثبتة بشكل قطعي، ولكنها مثيرة للاهتمام، تشير إلى أن الأبوة يمكنها تغيير المخ. فقد عثرت دراسة في عام 2006 على تحسينات في قشرة الفص الجبهي لدماغ الأب بعد الولادة، حيث أظهرت الخلايا العصبية في هذه المنطقة اتصالاً أكبر مقارنةً مع الوضع الطبيعي، مما يدل على أن إنجاب الأطفال يمكن أن يعزّز الجزء المسؤول عن التخطيط والذاكرة في الدماغ، وهي مهارات يحتاجها الآباء لإنجاز مسؤولياتهم الأبوية وتتبع تحركات وتطورات نمو طفلهم.
إلى جانب ذلك، لاحظ العلماء إفراز أكبر لهرمون الفازوبريسين، وهو هرمون ثبت أنه يدفع الآباء في مملكة الحيوانات إلى الارتباط بمواليدهم بشكل وثيق، والتفاعل معهم بشكل كبير.
ولإثبات ذلك، طوّر الباحثون هذه التجربة وفحصوا أدمغة مجموعة من الرجال بأجهزة الرنين المغناطيسي التي تقيس التغيرات في المناطق الدماغية المختلفة. وفي هذه الأثناء، عرضوا لهم صور أطفال مجهولين بوجوه سعيدة وحزينة ومحايدة، بهدف تقييم استجاباتهم العاطفية. ولاحظ الخبراء أن التلفيف الجبهي الأوسط -منطقة مسؤولة عن توليد المشاعر- تزيد نشاطًا في أدمغة الآباء على العكس من الرجال الآخرين، وذلك ما يفسّر زيادة مشاعر التعاطف لديهم مع الأطفال وانخراطهم معهم. يضاف إلى ذلك تأثير الأبوة على نمو الخلايا العصبية، إذ يبدو أن ولادة الطفل تجدد الخلايا في دماغ الآباء في منطقة الحصين المسؤولة عن تقوية الذاكرة.
وجدت دراسة أخرى في جامعة كارولاينا الشمالية أن استخدام الأب للمفردات اللغوية المختلفة كان له أثر أكبر على تطور المهارات اللغوية لدى الطفل.
ولا بد من الإشارة هنا إلى دور الأب أيضًا في التأثير على التطوّر المعرفي والعاطفي لدى الطفل، فلطالما ارتبط وجود الأب بانخفاض نوبات الغضب والسلوك العدواني ومعدلات الاكتئاب لدى الأطفال. ووفقًا لكتاب “هل للآباء أهمية؟”، لخّص المؤلف، بول رايبورن، النتائج التي توصلت إليها دراسة سويدية عام 2007، وقال إن وجود الأب يحفظ أبناءه المراهقين من دخول السجن ويقلل سلوكياتهم العدوانية والإجرامية. ويزداد الأمر إثارة للاهتمام حين وجدت دراسة أخرى في جامعة كارولاينا الشمالية الأمريكية أن استخدام الأب للمفردات اللغوية المختلفة كان له أثر أكبر على تطور المهارات اللغوية لدى الطفل.
وإلى جانب الآثار البيولوجية والنفسية للأبوة، أظهرت الدراسات أن الرجال الذين لديهم أطفال يواجهون تغيرات اجتماعية أيضًا. ولكن، على عكس النساء، ففي الغالب، يقل الدخل المادي للمرأة حين تصبح أمًا، ولكن هذه التجربة مختلفة بالنسبة للرجال، فلقد وجدت أبحاث من جامعة نيويورك أن الآباء يكسبون أموالًا في المتوسط أكثر من غير الآباء.
ونظرًا لجميع التغيرات والتأثيرات التي يمر بها الرجل في هذه المرحلة، فمن المتوقع أن تطمئن هذه الدراسات والحقائق الرجال الذين يشعرون بالقلق تجاه الأبوة وما تحمله من مسؤوليات جديدة، ولا سيما أن التقلبات الهرمونية والدماغية سوف تؤهلهم نفسيًا وعاطفيًا وسلوكيًا للتكيف مع أطفالهم وزوجاتهم، وبالتالي قد لا تعود فكرة أن الآباء “أقل استعدادًا” أو “أقل استيعابًا” لمبادئ التربية والرعاية موجودة أو مقلقة بالقدر التي هي عليه الآن.