“يونُس إمره” لعلك صادفت يومًا هذا الاسم في أثناء قراءتك لشيء يتعلق بجذور الثقافة التركية المعاصرة وخطوطها الممتدة قديمًا، خاصة أن الدولة التركية بهُويتها الحديثة تعرف نفسها كدولة غير منسلخة عن ماضيها، بل وترى في هذا الانسلاخ تناقضًا وجوديًا، وتعتبر الاتصال في المقابل ميزةً إضافية، يؤكد على البُعد الثقافي الحضاري لمشروعها الحديث، وهي الثنائية التي تتبدى بوضوح في أحد أبرز تجليات هذا المشروع، وهي البعثات والمنح التي تنظمها تركيا للراغبين من الأجانب في الانخراط بالثقافة التركية، حيث تجد اسم “يونُس إمره” لصيقًا بمشروعات المنح والثقافة المدعومة من الدولة التركية.
فمن يونُس إمره وما ملامح مشروعه الذي جعله – بلا مبالغة – حاملاً لواء الثقافة والتعليم وأشعاره ما زالت حاضرة على الألسن والأذهان منذ أكثر من سبعمئة عام وتُدرس في مناطق معينة وممتدة من العالم كأستراليا ودول البلقان والأرناؤوط بشكل لا يقل أهمية عن حضوره في الأوساط الثقافية المحلية التركية؟
حياته
تقول المصادر التاريخية التي أرخت له وعاصرته، إنه وُلد في قرية “صاريكوي” التابعة لمدينة “أسكي شهير” التركية، من جذور عائلية مُهاجِرة من خراسان إلى الأناضول في تركيا.
أوضح يونس في بعض قصائده أنه أدرك مولانا جلال الدين الرومي والتقى به وبغيره من كبار المتصوفة كچايكلي بابا وبالم سلطان وأحمد فقيه
ولد إمره في هذه المدينة عام 1240م، أي منذ نحو ثمانية قرون من الآن، وتزامنت هذه الفترة مع نهاية عصر السلاجقة وبداية حكم عثمان غازي، ولعل ظروف تلك الحقبة التاريخية التي نشأ فيها كانت إحدى العوامل التي ساعدت في سطوع نجمه في سماء الأدب الإسلامي الصوفي، حيث اتسمت تلك الفترة بالقلاقل والاضطرابات في حياة الأناضول وتاريخه على السواء، إذ كانت الأناضول تقاتل خارجيًا في عدة جبهات مشتعلة ضد السلاجقة والبيزنطيين وخطر المغول القادمين إليها من أقصى الشرق من جهة، وتعاني داخليًا أمام حركات التمرد وقطاع الطرق والقحط والغلاء الذين أوقعا الناس في هوة التشتت وعدم الاستقرار من جهة أخرى.
هذه الظروف الصعبة أنتجت مقاربة طالما كان لها قيمتها التفسيرية في ظهور الحاجة إلى الممارسة الصوفية، لا سيما في الأدب، فعندما يشتد البلاء ويتزامن الخطر الخارجي مع الداخلي يصبح الناس أكثر ضراعة وأقرب ما يكون إلى الله، كاستجابة طبيعية للشعور بالخطر، فكانت المدارس تنير العقول، والتكايا تنقي الأرواح والقلوب بأفكارها الصوفية، واستطاع يونس هنا حماية هذه التجربة الدينية تاريخيًا من شطط الدروشة المحضة والاتكالية والتفويضية، فدعا إلى التوحيد بين العلم والإلهام، وبدأ التحدث عن الدواء والعمل على التئام الجروح وتضييق الهوة ما بين المادي والمعنوي، مما أدى إلى تبلور شخصيته الشعرية والمعنوية التي أثرت وتأثرت بهذه التجربة التاريخية، ساعيًا إلى تأسيس مذهب معرفي وسطي وجداني جديد يوظف العلم ولا يفتتن به، يحتويه ولا يسمح له بابتلاعه، ويستوعب أن في الخلفية صدى من المؤثرات الخارجية الصعبة التي تدفع – في حال التسليم لها – إلى التطرف في التسليم للقدر أو في السخط على قدر، وكلاهما شطط لم يستجب له يونُس.
شيوخه
وأوضح يونس في بعض قصائده أنه أدرك مولانا جلال الدين الرومي والتقى به وبغيره من كبار المتصوفة كچايكلي بابا وبالم سلطان وأحمد فقيه، وكان لكلٍ اسم من هذه الأسماء أثر في حياة وأدب يونس، خاصة جلال الدين الرومي الذي تشير المصادر إلى أن تأثيره الكبير في شخصية يونس بلغ إلى أن وفاته (الرومي) في قونية 1273م، جعلته بائسًا حزينًا حتى أسبلت عيناه من خلفه، فشارك في بناء ضريح قبره كواحد من البنائين كنوع من الرثاء وعرفان الجميل.
نظم يونس أشعاره بلغة الشعب والقوافي والأوزان الشعبية مازجًا فيها بين الذوق التركي والثقافة الإسلامية الزاهدة
وانتسب يونس إلى شيخٍ يدعى طابطوق إمره في منطقة “صقاريا”، ويعد هذا الشيخ أحد خلفاء “حاجي بكتاش والي”، وقد تلقى عنه يونُس الفيض، كمفهوم وخبرة رئيسة في التجربة الصوفية، لسنوات طويلة.
كما تجول يونس في المنطقة الممتدة في الأناضول وأذربيچان وسوريا، وترك أثرًا عظيمًا في كل بلد مر بها، وكان لذلك أثره الذي انعكس عليه عندما مات.
أدبه
نظم يونس أشعاره بلغة الشعب والقوافي والأوزان الشعبية مازجًا فيها بين الذوق التركي والثقافة الإسلامية الزاهدة، فأبدع نمطًا فريدًا سكن قلوب الناس وعقولهم، ليقلده بعد ذلك الشعراء المتصوفون الذين تعاقبوا من بعده وشعراء النهضة الوطنية التركية بعد عام 1910.
ومن العوامل التي ساعدت على انتشار شعره بين مختلف طبقات وفئات المجتمع التركي سهولة عبارته ووضوح كلماته وأسالبيه بعيدًا عن الشعر المصطنع المتكلف، وقد تميزت لغته بهالة قدسيةٍ نتيجة العلاقة المعنوية التي أوجدها بين الدين والإنسان، وأدخل في بعض أشعاره ألفاظًا من العربية والفارسية اللتين كان يجيدهما ببراعة فائقة لا تشعرك بغرابتهما.
عني في شعره بحب الخالق والتعلق بآلائه، والتفكر بجلاله وجماله وإنعامه كما تطرق إلى موضوعات في المنطقة البينية بين التصوف والفلسفة
ونظم يونس أشعاره على الأوزان العروضية والهجائية (أحد الأوزان الشعرية في اللغة التركية) ورغم أنه أغلب أشعاره كانت على الوزن العروضي فإن أشعاره التي على الوزن الهجائي هي الأفضل في نظر النقاد، وبشكل عام، فقد نجح في كل أشكال الشعر وموضوعاته من تعليمي وملحمي وغنائي ووجداني ورعوي وحماسي.
وعني في شعره بحب الخالق والتعلق بآلائه والتفكر بجلاله وجماله وإنعامه، كما تطرق إلى موضوعات في المنطقة البينية بين التصوف والفلسفة، فنظم أشعارًا عن الوجود والموت والعدم والفناء والحب والعشق الإلهي والكائنات ودورة النباتات ودوران الفلك والفصول التي اعتبرها رمزًا لمراحل الوجود والفناء في الكون، فيقول في أحد أشعاره:
قطع بردُ الشتاءِ الأوْصال،
وهبتْ نسائمُ الربيع العليل من
جديد.
وفجأة، لفت رحمةٌ شاملةٌ المكان،
وقدم الصيفُ المبارك من
جديد.
فاكتسى العالم من خزائنه خلعا جديدة،
ووهب النبات حياة جديدة.
لم
تأت كلمتي،
من أجل الصيف، أو الخريف،
بل من أجل المعشوق من جديد.
أتوسل
للسلطان
أن يهب الحياة،
للذين أفناهم من جديد…
وقد نُسب إلى يونس كتاب “الديوان” وقيل إنه يحتوي على كل أشعاره ويُعرف بـ”الهيلر”، وفيه يناجي ربه ويتضرع إليه كي يغفر له ذنوبه ويحط عن خطاياه ويحشره في زمرة أحباب الحق.
كما يُنسب إليه أيضًا “رسالة النصيحة”، وهو كتاب أدبي في نمط المثنوي، ويعد أثرًا تعليميًا مهمًا لاحتوائه على التفاسير والنصائح والحكم والعبر والعظات بما يعكس دوره الذي تبوأه في هذه الفترة من عمر تركيا ونظرة الناس إليه كمُرشد روحي وديني.
وذكرت العديد من المصادر أن شعره من دون “الرسالة” قد جُمع في “الديوان” التي كتبت عام 1307م، وفي بدايتها 13 بيتًا من بحر الرمل، يلي ذلك قسم منثور، أما القسم الأخير فيشمل 573 بيتًا موزونًا.
الحقيقة الدينية عند يونس إمره
كان يونس إمره مسلمًا سني المذهب خلافًا لمن يشكك في ذلك وينسبه إلى الدرزية أو النصرية، والدليل على ذلك إقراره بشرعية ولاية الخلفاء الأربع ودراسته كتب السنة الأربع، ومن يطلع على أشعاره يلحظ التزامه بأوامر الشرع كما تضمن شعره آيات من القرآن الكريم، وكان يدعو الناس بأسلوب القرآن والسنة عبر الحكمة والموعظة الحسنة.
ظهرت في أشعار يونس ملامح الصوفيين والدراويش كالمبالغة في التعبير عن حب الله سبحانه وتعالى بكلمات العشق البشري وعبارات الخمر والكأس والساقي ونحوهما
وعند الاطلاع على مؤلفات أهل التصوف، نجدهم ينسبونه إلى “البكتاشية” نظرًا لتأثره بأفكار “حاچي بكتاش والي” فتحدث يونس في “رسالة النصيحة” بحس صوفي سُنيٍ عن أفكار ناقشها حاچي بكتاش وهي المقامات الأربعين والأربعة أبواب ومرتبة المناجاة والشاهدة والصراع بين القوى الرحمانية والشيطانية داخل الإنسان وسلطان كلا الطرفين.
ومن المتصوفين من زعم أنه “قزلباشي” أو “حروفي” أو”مولوي” وغيرها من الطرق الصوفية التي انتشرت في تركيا آنذاك، ولكن يرى النقاد ومنهم يوسف ضياء عنان أن يونس صوفي دون طريقة لأنه ولي تجاوز كل الطرق الصوفية وتعلمت منه كل الطرق، وقد ساعده عدم انتسابه إلى طريقة معينة على تقبل كل الطرق له دون اختلاف، ولم يقتصر هذا القبول على الطرق فقط بل أصبح اسمه مقبولًا على مستوى العالم من كل الناس.
وظهرت في أشعار يونس ملامح الصوفيين والدراويش كالمبالغة في التعبير عن حب الله سبحانه وتعالى بكلمات العشق البشري وعبارات الخمر والكأس والساقي ونحوهما، مظهرًا بذلك تعلقه بالله سبحانه كما يتعلق شارب الخمر بكأسه، وولى يونس وجهه عن الدنيا تمامًا وربط قلبه بالله ورسوله، ولم ينقطع هذا الحب أبدًا، حتى عرف الله جل وعلا كما يقول.
وفاته
“والمسكين يونس أيضاً سيموت، وقبره سيُملأ بالنور
والإيمان سيكون رفيقه، وللآخرة أسداً سيرحل”
بهذه الأبيات الحزينة من “رسالة النصيحة”، رثى يونس إمره نفسه.
يوجد ليونس ثلاث مقابر في “صاريكوي”، وقد سعت الحكومة التركية إلى الحفاظ على قبر يونس ونقلته تحت رعاية وزارة الثقافة من مرقده الأول بسبب قرب خط السكة الحديدية منه إلى قبر آخر يبعد 50 مترًا عن القبر الأول، في حضور مهيب من طوائف الشعب كافة
كانت نهاية هذه الرحلة الثرية شديدة التراجيدية، إذ عاد يونس إلى المكان الذي بدأ فيه الحياة ورحلته معها لينهيها هناك أيضًا، مطبقًا بذلك أحد مفاهيم التصوف: “العودة إلى المكان الذي بدأ فيه”، ففارق ‘يونس’ دنيا الغربة إلى وطنه الأصلي عام 1320م، ودفن في قرية “صاريكوي”، لكن هذا لم يمنع انتشار عشرات المقابر له في أنحاء الأناضول وأذربيچان وأوسكوب، وذلك لشدة إعجاب الترك به، ولأنه رمز روحي يتجمع الأتراك حوله في مختلف أوطانهم، فيتساءل شاعر أذربيچاني عن سبب تعدد قبوره فتكون الإجابة “لأن مكانه الحقيقي في قلوب الشعب التركي بأسره”.
يوجد ليونس ثلاث مقابر في “صاريكوي”، وقد سعت الحكومة التركية إلى الحفاظ على قبره ونقلته تحت رعاية وزارة الثقافة من مرقده الأول بسبب قرب خط السكة الحديدية منه إلى قبر آخر يبعد 50 مترًا عن القبر الأول، في حضور مهيب من طوائف الشعب كافة، واستغلته الحكومة وأمرت ببناء نصب تذكاري له في هذه القرية عام 1948، وفي 24 من مايو 1970م نُقل قبره لمكانه الحاليّ.