في جنيف السويسرية البعيدة آلاف الأميال عن جدة السعودية التي نشأ فيها الصحفي المغدور جمال خاشقجي، والبعيدة أيضًا عن إسطنبول التركية التي اختيرت موقعًا لجريمة اغتياله، وفي هذه المدينة المكرسة عنوانًا دائمًا لمساعي صنع السلام تتكشف معطيات جديدة، وتتعالى أصوات لو أُتيح لأحد أن يعيد تشكيلها رسمًا أو أدبًا لرأى العالم يد الرجل الذي قيل إن القتلة قطعوه إربًا تبزغ داميةً من وسط ثلوج أوروبا لتشير إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
شبح خاشقجي يطارد ابن سلمان مجددًا
لا يكف دم القتيل في الحكايات التراجيدية كما في التاريخ الإنساني عن تعقب دم القاتل بأشكال شتى أينما ذهب أو فر وحيثما ولَّى وجهه إلى أن يلقى جزاءه، وكأن تلك حقيقة لا تريد أن تستتر بعد أن اجتهدت المملكة في رفع تهم صُوِّبت إلى ولي العهد بتدبير مقتل صحفي أعزل اُستدرج إلى حتفه في قنصليتها.
من هذه المقتطفات بل أهمها أن هناك “أدلة موثوقة” تؤكد صلة الأمير محمد بن سلمان ومسؤولين سعوديين آخرين بجريمة القنصلية، وتستوجب التحقيق مع ولي العهد السعودي الذي يهيئ نفسه لتولي عرش البلاد
ليس مثل هذا المجاز في الواقع إلا ترجمة تكاد تكون حرفية لمقتطفات صريحة وردت في تقرير مقررة الأمم المتحدة المعنية بحالات القتل والإعدام خارج القانون أغنيس كالامار، الذي جاء فيه ما يكفي من الأدلة لتحميل الدولة السعودية المسؤولية عن جريمة مقتل خاشقجي، التي وقعت في الـ2 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أمَّا المسؤوليات الفردية فسيحددها مزيد من التحقيق مع مسؤولين كبار في المملكة.
من هذه المقتطفات بل أهمها أن هناك “أدلة موثوقة” تؤكد صلة الأمير محمد بن سلمان ومسؤولين سعوديين آخرين بجريمة القنصلية، وتستوجب التحقيق مع ولي العهد السعودي الذي يهيئ نفسه لتولي عرش البلاد، الذي برَّأه محققون سعوديون، إلى جانب مستشاره سعود القحطاني الذي أُقيل من منصبه لكنه لم يُقدّم إلى المحاكم مع المتهمين بتنفيذ الجريمة.
كالامار دعت أيضًا إلى أن تشمل ولي العهد السعودي وأصوله الشخصية في الخارج العقوبات المتعلقة بمقتل خاشقجي، واعتبرت أنه لا يوجد سبب لعدم تطبيق العقوبات عليه، لأن أنظمة العقوبات وُضعت في الماضي – وفق قولها – حتى قبل تحديد طبيعة الذنب.
أغنيس كالامارد المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالإعدامات خارج نطاق القضاء تتحدث في مؤتمر صحفي بمقر الأمم المتحدة
وبحسب التقرير الذي جاء في أكثر من مئة صفحة واستغرق إعداده أكثر من 6 شهور، فإن خاشقجي وقع ضحية “إعدام متعمد ومدبر وقُتل خارج نطاق القانون” تتحمل مسؤوليته السلطات سعودية، ويتناقض مع مبدأ أساسي من مبادئ الأمم المتحدة وهو حماية حرية التعبير.
خرجت المملكة ترفع عن نفسها التهم، وقال وزير خارجيتها عادل الجبير إن التحقيق تضمن “تناقضات مرفوضة”، واستند إلى مزاعم دون أساس، ويحاول المساس بقيادة المملكة، لكن المزاعم تلك استحالت إلى مأزق لا تعرف له المملكة مخرجًا، فوقفت تقلب الروايات، وتُبرئ الأمير الراغب في تلبُّس صورة المصلح، وتعد بإغداق الأموال على أهل القتيل، فتجبر أحزانهم وتشتري صمتهم.
2- يتضمن تقرير المقررة في مجلس حقوق الإنسان تناقضات واضحة وادعاءات لا أساس لها تطعن في مصداقيته
— Adel Aljubeir عادل الجبير (@AdelAljubeir) June 19, 2019
السعودية في قفص الاتهام الأممي
لم يطو الملف إذًا، فقضية خاشقجي حية وتتفاعل، بل وتنتقل إلى مرحلة جديدة، وهو ما يؤكده تقرير كالامار، الذي دشَّن فعليًا – كما يبدو – دخول القضية ساحة المساءلة القانونية الدولية التي لا ترفع عن أي مسؤول سعودي الشبهة بعد أن تدرج قرار القتل في رتب الآمرين، ولا يبدو أنه انتهى كما تصور الرواية الرسمية السعودية عند أحد مستشاري ولي العهد.
عقدت الرياض في يناير/كانون الثاني من هذا العام جلسة محاكمة “غير معلنة”، لم يُر فيها شهود ولم تُسمع فيها مرافعات، وغاب فيها أسماء القتلة
في التقرير الذي تلقت السعودية نسخة منه، نقرأ أن التحقيقات التي أجرتها سلطات المملكة لم تفِ بالمعايير الدولية، وأنها لم تتم بحسن نية، وقد تصل إلى حد عرقلة العدالة، وما سبق أن انتقدته كالامار بقولها: “السعودية ستكون مخطئة بشكل كبير إذا اعتقدت أن هذه الإجراءات كما تجري سترضي المجتمع الدولي”.
أمَّا المحاكمات التي تجريها الرياض للمتهمين، فلا تستجيب – كما جاء في التقرير – للمعايير الإجرائية أو الموضوعية، فقد عقدت الرياض في يناير/كانون الثاني من هذا العام جلسة محاكمة “غير معلنة”، لم يُر فيها شهود ولم تُسمع فيها مرافعات، وغاب فيها أسماء القتلة، وتم خلالها تكييف الوقائع قضائيًا بما يبعد الشبهة عن ولي العهد وورجلين من أهم المحيطين به، وهما مستشاره سعود القحطاني والرجل الثاني في المخابرات أحمد العسيري، وذلك عن طريق البحث عن “أكباش فداء”.
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وفي الإطار ماهر مطرب
وفي حين تحدثت الرواية التركية عن 18 متهمًا في الجريمة، تراجع العدد لدى الرياض إلى 11 شخصًا، وذاك تكييف قضائي قام بإقصاء أهم المتهمين المفترضين، ومثل هؤلاء أمام المحكمة فطالبت بإعدام 5 فقط منهم، ما يعني أن 5 من 18 أو يزيد سيدفعون ثمن جريمة وُصفت بـ”حدث القرن”، ويبقى من أمر حرًا طليقًا.
وثمة ما هو أكثر كشفًا لكون المسعى السعودي يندرج في سياق طي القضية لا تطبيق العدالة وفقًا للبعض، فالمحكمة انعقدت ووجهت التهمة وطالبت بالإعدام بينما مصير الجثة ما زال مجهولاً، ما يعتبره البعض قفزًا على مرحلة التحقيق الجدّي والضروري قبل الوصول إلى المحكمة، فأركان الجريمة لم تكتمل، وبعضها بحسب الأتراك في أيدي السعوديين.
لذلك كله، يوصي فريق كالامار بوجوب إجراء تحقيق جنائي دولي يحث مجلس الأمن الدولي أو مجلس حقوق الإنسان أو الأمين العام للأمم المتحدة على المطالبة به، ويُرفع فيه جرح كل الحلفاء، ويُحاسب فيه كل من تورط في القتل وأمر به.
التسجيلات الصوتية التي حصلت عليها المحققة الدولية من الحكومة التركية فضحت مرتكبي الجريمة بسبب ما احتوته من سرد مروّع وتقشعر له الأبدان
كما توجه كالامار ضغطها أيضًا على الولايات المتحدة وتحثها على فتح تحقيق آخر من خلال مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومتابعة الملاحقات الجنائية داخل واشنطن، صاحبة العلاقة المميزة مع الرياض، إذ ما فتئ يتبجح الرئيس الأمريكي ووزير خارجية بوشائج علاقة المال والثراء بين البلدين.
فماذا تعني تلك التوصية التي تؤيدها تركيا بشدة تمامًا كما تؤيد خلاصة أول تقرير محايد عن القضية؟ لم تتأخر ردود الفعل التركية على نتائج تقرير المقررة الأممية، فقد أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو تأييد أنقرة الكامل للتقرير بما يتضمنه من دعوة صريحة بالتحقيق في تورط ولي العهد السعودي.
وفي رصد لردود الفعل المبكرة، كتبت خطيبة خاشقجي على “تويتر” أن دعوة المقررة الأممية الخاصة للتحقيق مع الأمير محمد بن سلمان محل ترحيب، ويتعين الآن – كما تقول خديجة جنكيز – أن يتحرك أعضاء مجلس الأمن الدولي بناءً على هذه التوصية.
The UN’s special rapporteur’s call for MBS to be be investigated for the murder of my beloved Jamal is a welcome development. Now it is time for the UNSC members to act upon this recommendation. Justice needs to be served and truths revealed. https://t.co/vwlJZgzKQT
— Hatice Cengiz / خديجة (@mercan_resifi) June 19, 2019
من جانبه، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية إن برلين تطالب الرياض بكشف ملابسات اغتيال خاشقجي، في حين اعتبرت منظمة العفو الدولية تقرير كالامار دليلاً إضافيًا على الحاجة إلى تحقيق دولي ومستقل في جريمة اغتيال خاشقجي، أمَّا الأمم المتحدة فجددت الدعوة إلى إجراء تحقيق شامل وشفاف ومحاسبة المسؤولين عن مقتل خاشقجي.
“كبش العيد وصل”.. تفاصيل الدقائق الأخيرة
يتضح من بعض ما روته كالامار أن دم الصحفي السعودي لم يكن وحده ما تعقب خُطى قاتليه، بل إن التسجيلات الصوتية التي حصلت عليها المحققة الدولية من الحكومة التركية فضحت مرتكبي الجريمة بسبب ما احتوته من سرد مروّع وتقشعر له الأبدان.
“صرير منشار العظام” وقبله أحد المفترضين يقول إن هذه تجربته الأولى في تقطيع إنسان، بينما يتساءل آخر عمّا إذا كانت الأضحية قد وصلت، بحسب ما جاء في التسجيلات التي اطلعت عليها كالامار.
ومما كشفته كالامار في تقريرها أنه في صباح يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، أجرى خاشقجي اتصالاً هاتفيًا مع قنصلية بلاده في إسطنول، مستفسرًا عن الأوراق التي طلبها، وقا لله احد موظفي القنصلية إنه سيعاود الاتصال.
بعد 40 دقيقة اتصل به أحد موظفي القنصلية وطلب منه الحضور إلى القنصلية في تمام الساعة الواحدة ظهرًا.
توحي تقييمات التسجيلات التي أجراها ضباط المخابرات في تركيا وفي بلدان أخرى أن خاشقجي ربما حُقن بمهدئ ثم خُنق بكيس بلاستيكي، وكان ممكنًا سماع أصوات حركة ولهاث
في الساعة الواحدة ودقيقتان، أي قبل دخول خاشقجي إلى القنصلية بدقائق، دار الحوار التالي بين ماهر المطرب العقيد في الاستخبارات السعودية وصلاح الطبيقي الطبيب الشرعي السعودي:
المطرب: هل يمكن وضع الجذع في الكيس؟
الطبيقي: لا، أمل أن يكون الأمر سهلاً، سيتم التقطيع من المفاصل، ليست مشكلة، الجسم ثقيل وهذه أول مرة أقوم فيها بالتقطيع على الأرض، إذا أخذنا الأكياس البلاستيكية ووزعنا الأجزاء إلى قطع فسيتم الانتهاء منها، سنلف كل واحد منها لوحده.
المطرب: هل وصل حيوان الأضحية أم لا؟
في الساعة الواحدة و13 دقيقة، قال الصوت: “لقد وصل”، وبعد دقيقتين دخل جمال خاشقجي القنصلية، وبمجرد دخوله يبدو أن خاشقجي قابل شخصًا يعرفه.
دُعي إلى مكتب القنصل العام في الطابق الثاني من القنصلية، وتركزت المحادثة معه أولاً على ما إذا كان خاشقجي سيعود إلى السعودية معه، فإجاب أنه يريد العودة في المستقبل.
ثم قيل لخاشقجي: “سيتعين علينا إعادتك، يوجد طلب من الإنتربول بإعادتك”، فرد الأخير: “ليست هناك قضية ضدي، أخطرت بعض الناس بالخارج ـنهم ينتظرونني”.
في الساعة الواحدة و22 دقيقة، أي بعد دخوله بـ7 دقائق، سُمع هذا الحوار بين المطرب وخاشقجي:
المطرب: هل معك هواتف؟
خاشقجي: هاتفان
المطرب: ما هي العلامات التجارية؟
خاشقجي: هواتف “أبل”
المطرب: أرسل رسالة إلى ابنك
خاشقجي: أي ابن؟ ماذا يجب أن أقول لابني؟
المطرب: سوف تكتب رسالة، دعنا نتمرن
خاشقجي: ماذا يجب أن أقول؟ لا أستطيع أن أقول إنني أتعرض للاختطاف، كيف يمكن أن يحدث هذا في السفارة؟ لن أكتب أي شيء.
المطرب: أي شيء يا سيد جمال، عجِّلوا، ساعدنا حتى نتمكن من مساعدتك، لأننا في النهاية سنعيدك إلى السعودية، وإن لم تساعدنا مّنْ يدري ما الذي سيحدث في النهاية، دع هذه المساءلة تجد نهاية جيدة.
في الساعة الواحدة و33 دقيقة، أي بعد دخول خاشقجي إلى القنصلية بـ17 دقيقة، بدت في التسجيلات أصوات عراك، ويمكن سماع عبارات مثل “رفع رأسه، استمر في الضغط، اضغط هنا، لا ترفع يدك”.
وفقًا لنتائج أول تحقيق دولي مستقل خلص إليه فريق المقررة الأممية، فإننا إزاء جريمة جرت خارج نطاق القانون، وشكَّلت انتهاكًا لـ”اتفاقية فيتنا للعلاقات القنصلية”
توحي تقييمات التسجيلات التي أجراها ضباط المخابرات في تركيا وفي بلدان أخرى أن خاشقجي ربما حُقن بمهدئ ثم خُنق بكيس بلاستيكي، وكان ممكنًا سماع أصوات حركة ولهاث.
وحدد تقييم الاستخبارات التركية بدء استخدام منشار الساعة الواحدة و39 دقيقة، أي بعد 24 دقيقة من دخول جمال خاشقجي إلى قنصلية بلاده في إسطنبول.
مظاهرة أمام البيت الأبيض الأمريكي تطالب ترامب برفع الغطاء عن قتلة خاشقجي
ماذا بعد التقرير الأممي؟
وفقًا لنتائج أول تحقيق دولي مستقل خلص إليه فريق المقررة الأممية، فإننا إزاء جريمة جرت خارج نطاق القانون، وشكَّلت انتهاكًا لـ”اتفاقية فيتنا للعلاقات القنصلية”، إنها جريمة دولية ينبغي للدول أن تطالب بالولاية القضائية العالمية عليها، كما تقول كالامار.
من المفترض أن تقدم المحققة الدولية تقريرها يوم الـ26 من يونيو/حزيران الحاليّ إلى اجتماع مجلس حقوق الإنسان الذي يضم 47 دولة إحداها السعودية نفسها.
لكن المعنيين بمتابعة القضية سينتظرون موقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي دعته كالامار أيضًا إلى إجراء تحقيق جنائي، وكذلك الإدارة الأمريكية التي تلقت هي الأخرى دعوة مماثلة مع إشارات وتلميحات دالة إلى أن أجهزة مخابراتها اطلعت على تسجيلات الجريمة ولم يعد مقبولاً أن تتغاضى عنها.
من المجدي برأي مراقبين إقناع عواصم وازنة بممارسة ضغوط على القيادة السعودية أو حتى مقاطعتها أو ربما إشعار الضالعين في الجريمة بخطر مواجهتهم الاستجواب والاعتقال في أي مكان من العالم
وبحسب المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، فإن مقرري الأمم المتحدة مستقلون ولا يتحدثون نيابة عن المنظمة الدولية، كما أن الأمين العام لا يمتلك صلاحية لبدء التحقيق دون تفويض وتعاون من الدول الأعضاء، وقد يفسر ذلك كشف كالامار عن مدى إحباطها إزاء ما تصفه بضعف رد فعل المؤسسات الأممية والدولية، لكن لا بديل عن تحقيق دولي شامل وشفاف.
وذاك ما يؤكده خبراء قانونيون يدركون أن مصالح دول مؤثرة في مجلس الأمن قد تعوق أي تحرك في ذلك الاتجاه، لكنهم يحثون أنقرة على الضغط مع أكبر عدد من الدول على الأمين العام الأممي كي يشكل ضمن صلاحياته هيئة تحقيق دولية.
وبعد استكمال التحقيقات، يمكن الدفع نحو تشكيل محكمة دولية خاصة تضمن عدم إفلات قتلة خاشقجي من العقاب، أمَّا إذا تعذَّر ذلك المسعى، فإن من المجدي برأي مراقبين إقناع عواصم وازنة بممارسة ضغوط على القيادة السعودية أو حتى مقاطعتها أو ربما إشعار الضالعين في الجريمة بخطر مواجهتهم الاستجواب والاعتقال في أي مكان من العالم.