ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد نسخت الحكم الصادر في حقّها بخط يدها، فهذا هو الإجراء الذي يُتبع في المحاكم الثورية الإيرانية. وفي الواقع، إن مجموع الأحكام صادم حقًا، ويضم السجن لمدة سبع سنوات وستة أشهر بتهمة “التواطؤ بغرض الإضرار بالأمن القومي”، و74 جلدة بسبب الظهور دون حجاب في مكان عام، وسنة وستة أشهر بتهمة “الدعاية ضد الدولة”، وسبع سنوات وستة أشهر بتهمة “الانتماء لجماعة غير قانونية”، وثلاث سنوات و74 جلدة أخرى لنشرها معلومات زائفة، وسنتين بسبب الإخلال بالنظام العام، و12 سنة لتشجيعها على “الفساد” و”الفسق”. وقد فرضت هذه العقوبة الأخيرة والأثقل نفسها على بقية العقوبات.
سيتعيّن على نسرين ستوده، وهي محامية وناشطة في مجال حقوق الإنسان، أن تقضي السنوات الاثني عشر القادمة من حياتها بين جدران سجن إيفين في طهران. وخشية جعلها شهيدة، قررت عدالة بلادها إخفاء هذه الناشطة البالغة من العمر 50 سنة وذات الوجه الشاحب والنحيف.
متظاهرون يطالبون بالإفراج عن المحامية نسرين ستوده أمام السفارة الإيرانية في باريس، 13 حزيران/ يونيو 2019
قليلون هم الإيرانيون الذين يجهلون مسيرتها الحافلة بأكثر من ربع قرن من النضال. لقد نشأت نسرين ستوده، التي ولدت قبل 15 سنة من اندلاع ثورة 1979، في عائلة من الطبقة المتوسطة في طهران. وقالت إن والدها، الذي كان تاجرًا أميًا، كان غير سعيد بولادة طفلة أنثى. أما والدتها، فقد كانت تقية وترتدي الحجاب ولكن دون فرضه على هذه المراهقة الذكية والمتألقة. وفي الامتحان الوطني للقبول بالجامعة، حلت ستوده في المراتب الأولى، تحديدا في المرتبة 53 من بين 300 ألف مرشح. ودرست القانون، وهو الاختصاص المرموق والذكوري، خاصة منذ اندلاع الثورة واستيلاء رجال الدين على المؤسسة القضائية.
في خضم الحرب ضد العراق (1980-1988 التي خلّفت أكثر من 500 ألف قتيل من كلا الجانبين)، عدّل رجال الدين في إيران جملة من القرارات التشريعية المعادية بشكل أساسي للنساء؛ قليل من الحق الإلهي، وكثير من قانون الغلبة للأقوى، وهامش مرعب للتعسف. لقد بدأت الشابة نسرين طريقها في جامعة الشهيد بهشتي، حيث فرضت نفسها كنسوية وعلمانية. وكانت نسرين شخصية غير نمطية في إيران خلال تلك السنوات. ومنذ تخرجها سنة 1995، كانت بالفعل محل شبهات، ويشير إليها أساتذتها بأنها “عنصر مثير للشغب”. وقد جعلتها عمادة المحامين في طهران تنتظر لمدة ثماني سنوات قبل منحها حق ممارسة المهنة.
نخبة طهران المثقفة
حتى تكسب قوت عيشها، كانت تكتب في الصحف الإصلاحية. وفي إطار نشاطها هذا، التقت بمصمم الجرافيك رضا خندان، الذي تزوجته فيما بعد. واستنشق كلاهما نسمات الحرية التي هبت في البلاد بعد انتخاب الرئيس محمد خاتمي (1997-2005). وكانا يؤمنان بقدرة رجل الدين هذا المحاط بالعقول التقدمية على إصلاح “النظام”… وظلت خيبة أملهما، في مواجهة فشله، راسخة.
بعد أن تم قبولها في المحاكم، ناضلت ستوده ضد عقوبة الإعدام خاصةً تلك المفروضة على الشباب بسبب أفعال ارتكبوها حين كانوا قصرا. ولم تبال نسرين بالمشاكل التي قد تعترضها حين تدعم هؤلاء المجهولين والفقراء في معظم الأحيان في المقاطعات البعيدة. ويتذكر صديقها القديم عبد الكريم لاهيدجي، الرئيس الفخري للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان في باريس أنه “خلال الشتاء الماضي (في سنة 2018)، دافعت نسرين عن شاب حكم عليه بالإعدام في شيراز، الواقعة جنوب البلاد. وفي اليوم التالي للإعدام، كانت قد سلكت الطريق الليلي من طهران لمدة 10 ساعات تقريبًا. ولكنها وصلت بعد فوات الأوان. في تلك الليلة، اتصلت بي. كانت تبكي كما لو أنها فقدت طفلها”.
في العاصمة، تمثل النخبة المثقفة دائرة من المطلعين. ويدافع حفنة من المحامين عن الرفاق الذين، في كثير من الأحيان، يناضلون بين مرافعتين. ويلتف جميعهم حول شيرين عبادي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام في سنة 2003، الذين تحميهم مكانتها الدولية المرموقة. وفي العقد الأول من القرن الحالي، انضمت نسرين ستوده أيضًا إلى مركز الدفاع عن حقوق الإنسان الذي تقوده هذه المرأة الجدية والعاملة والنسوية والدينية. كانت السيدة عبادي، الأكبر منها سنا بـ 16 سنة، أول قاضية في البلاد. ومن خلال منعها من ممارسة هذه المهنة، حوّلتها الثورة إلى ناشطة.
انتهى مركزها بالانهيار في سنة 2009، أثناء قمع “احتجاجات الانتخابات الإيرانية 2009–2010″، وهي احتجاجات واسعة النطاق ضد إعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد المحافظ، التي اعتُبرت عملية احتيالية. في ذلك الصيف، لجأت شيرين عبادي إلى الولايات المتحدة، حين أخبرها زوجها عبر الهاتف بأنه ألقي عليه القبض متلبسا في قضية زنا في طهران، وتم اعتقاله وحكم عليه بالإعدام. بعد أيام، ولتخليص نفسه من هذا الفخ الذي نصبته أجهزة المخابرات، اتهم زوجته علانية بخدمة مصالح “الإمبرياليين الأجانب”. وهكذا، لن تعود عبادي إلى البلاد. في أعقاب ذلك، اعتُقل المحامون المرتبطون بمركزها واحدًا تلو الآخر.
حرية خادعة
سُجنت ستوده بدورها في سنة 2010 حين كانت تدافع عن المتظاهرين. وها هي الآن في جناح السجناء السياسيين في إيفين في ثلاث قاعات مرتبطة بممرات ضيقة، تحتوي 20 سريرًا معدنيًا لمحامين وصحفيين وفنانين ونشطاء أقلية كردية ومسيحيات غيرن دينهن أو حتى مناصرات لطوائف دينية وسياسية محظورة. إن هذا المكان مظلم وشديد البرودة في فصل الشتاء، وتنبعث منه رائحة مواد التنظيف وزيت الطهي. وهو عبارة عن جزيرة نسائية صغيرة في سجن للرجال.
في البرلمان الأوروبي، يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر 2012، أثناء منح جائزة ساخاروف لحرية الفكر.
منذ وصولها، رفضت نسرين ستوده ارتداء الشادور على الرغم من أنه إجباري. من الخارج، لا يمكنها رؤية سوى جبال ألبرز شمال العاصمة. وقد عانت من أمور عديدة لثنيها عما تؤمن به: عندما توفي والدها، منعت من الخروج لدفنه. كما دخلت في ثلاثة إضرابات عن الطعام وتشعر بالخوف على ابنها نيما. ووفقا لزوجها رضا خندان، “كان ابنها يبلغ من العمر ثلاث سنوات، وقد أثر عليه احتجاز نسرين كثيرا. ولطالما كان يخشى أن يتكرر ذلك مرة أخرى”. وفي الخارج، أصبحت قضيتها رمزا: ففي سنة 2012، منحها البرلمان الأوروبي جائزة سخاروف لحرية الفكر.
خلال السنة التالية، كان كل من انتخاب المرشح المعتدل حسن روحاني للرئاسة والمفاوضات الدولية حول البرنامج النووي للبلاد مبعثا على الأمل. مع ذلك، كان إطلاق سراح نسرين ستوده في منتصف مدة عقوبتها في نظرها مجرد حرية يُراد بها التضليل. وقد فسرت ذلك وهي تضحك لصديقها المخرج جعفر باناهي في فيلم “تاكسي طهران” (2015) الذي جسدت فيه شخصيتها في الواقع، حيث قالت: “أنت تعلم يا جعفر أنهم يحرصون على أن نكون على بيّنة من أنهم يراقبوننا. إن تكتيكاتهم واضحة، حيث أنهم يُلفقون لك سجلا سياسيا فتصبح عميلا للموساد أو وكالة المخابرات المركزية أو جهاز الاستخبارات البريطاني، ومن ثم يضيفون قضية أخلاقية ويُصيّرون حياتك سجنا. أنت تخرج من منزلك لكن العالم الخارجي ليس سوى سجن كبير. كما يجعلون أعز أصدقائك يتحولون إلى ألد أعدائك، ولا يظل أمامك سوى الفرار من البلاد أو التذلل للعودة إلى الجحر الذي كنت فيه. لذلك، لا يظل أمامك خيار سوى عدم الاكتراث”.
شعور بالذنب
مع التوصل إلى الاتفاق النووي في تموز/ يوليو سنة 2015، أراد الإيرانيون تصديق حلم العيش في رخاء الذي صوّره لهم روحاني. على صعيد آخر، يلقي مجهولون التحية على المحامية عندما يلتقون بها في المعارض الفنية ويشجعونها عندما يقابلونها في المسرح الذي يمثل شغفها الآخر ولكن دون أن يقضوا الكثير من الوقت معها. في هذا الصدد، صرحت نسرين لصديقتها منصورة شجاعي، الناشطة النسوية في المنفى، أن “الناس أصابهم الإرهاق. إنهم يشعرون بخيبة أمل تجاه الحركة [الدفاع عن الحقوق المدنية] ولهم الحق في ذلك”.
يظهر أمر آخر يقض مضجع نسرين ألا وهو الشعور بالذنب فكيف يمكنها العيش حرّة بينما زميلتها نرجس محمدي، التي حُكم عليها بالسجن لمدة 16 سنة في 2016، تعاني في سجن إيفين؟ في الواقع، تشعر نسرين أن بلدها ينزلق مرة أخرى نحو الهاوية. من جانبه، يعِد الرئيس الأمريكي الجديد، دونالد ترامب، بفرض عقوبات على إيران ستُعتبر الأسوأ في تاريخها. وفي الوقت الذي يبتعد فيه المستثمرون الأجانب، تتزايد المظاهرات.
من هذا المنطلق، تجرؤ الشابات على تحدي قوات الأمن لوحدهن، حيث أنهن يلوّحن بحجابهن الذي يربطنه في عصا احتجاجا على إرغامهن على تغطية رؤوسهن في الأماكن العامة. ومن جهتها، لا يسع ستوده سوى التفكير في شجاعتهن التي تتأتى من اليأس والنضال على حد سواء، لكن وقوفهن لوحدهن يخيفها. في هذا الصدد، قالت منصورة إنه “يتعين على أحدهم الدفاع عنهن” وسيكون هذا الشخص هو نسرين ستوده، والأمر ذاته ينطبق على المتظاهرين الشباب الذين اعتقلوا في جميع أنحاء المقاطعة، في كانون الثاني/ يناير 2018.
من منفاها في لندن، أبدت شيرين عبادي خشيتها من أن يتسبب القمع (الذي انجر عنه وفاة 26 شخصا وفقا لتقرير رسمي، فضلا عن آلاف الاعتقالات) في اندلاع حرب أهلية. وفي الحقيقة، لم تعد شيرين تؤمن بقدرة النظام على إصلاح نفسه. وفي شباط/ فبراير، طالبت شيرين بإجراء استفتاء بشأن دعم الجمهورية الإسلامية من عدمه. لكن في إيران، طالب أصدقاء نسرين ستوده المحامية بعدم الانضمام لهذه الدعوة مخافة أن ينتهي بها المطاف في السجن.
مع ذلك، كيف لنسرين أن تفترق عن صديقتها ومعلمتها؟ لهذا السبب، وقعت على هذا الطلب. في هذا السياق، ذكرت شيرين أن “المحامية نرجس محمدي وقعت أيضا من داخل سجنها. إن هؤلاء الأشخاص يوافقون على تحمل جميع المخاطر للدفاع عن قناعاتهم وهو ما يبرز جمال لفتتهم هذه وما يجعل النظام في البلاد قلقًا”.
نداء إيمانويل ماكرون
حُكم على نسرين ستوده بالسجن لمدة خمس سنوات من قبل محكمة ثورية، وكان ذلك غيابيا ودون علمها، بتهمة تآمرها على أمن البلاد. وتواجه نسرين، التي اعتقلت في حزيران/ يونيو 2018، سبع تهم جديدة. وترفض نسرين المثول مُجبرة أمام محكمة استثنائية غامضة ولا تحترم حقوق الدفاع، والتي ستسلط عليها في نهاية المطاف عقوبة أكبر ألا وهي 12 سنة.
خلال الآونة الأخيرة، انتشر مقطع فيديو قديم إلى حد ما على إنستغرام يعود تاريخه إلى سنة 2012 يصور جولة في غرفة الزوار في سجن إيفين ويُظهر نسرين وهي تبتهج ابتهاجا شديدا أمام أطفالها، في حين كانت ابنتها تبكي ويضع ابنها جبهته على الزجاج الفاصل. وكانت نسرين تلامس هذا الحاجز الشفاف وتطلق دعابات سعيدة حيث تتظاهر بأنها “تسرق” بأطراف أصابعها أنف الطفل.
نسرين ستوده في منزلها في 18 أيلول/ سبتمبر 2013 عندما أُطلق سراحها بعد قضاء ثلاث سنوات في السجن وابنها الذي كان بصدد أخذ صورة لها وهي تقف بجانب زوجها.
اليوم، كبر نيما وبات يبلغ من العمر 12 سنة، وتدرس شقيقته الفنون الجميلة. لكن بالعودة إلى غرفة الزوار ذاتها، يجد هذان صعوبة في قول كل ما يرغبان به من خلال سماعة الهاتف. ويُسمح لهما كل أسبوعين بالجلوس حول طاولة في قاعة كبيرة تحت مراقبة الكاميرات. وبينما تتحدث مهرافة قليلا، يتحدث نيما دون توقف ويُقاطع والديه حالما يبدآن مناقشة المواضيع السياسية. وكان والدهما، الذي يكن إعجابا شديدا لنسرين، قد سُجن لمدة 110 يوما في سنة 2018 بتهمة دعم الحملة المضادة لارتداء الحجاب، وهو الذي يبث آخر أخبار نسرين على فيسبوك.
خارج البلاد، أحدثت إدانة ستوده الصدمة. وفي فرنسا، تحرك عدد من المحامين. وفي نيسان/ أبريل، طلب الرئيس ماكرون بنفسه من روحاني إطلاق سراح نسرين. وفي الخفاء، تُنكر حاشية الرئيس الإيراني ضراوة العدالة وتؤكد أن المعتقلة المشهورة لن تتلقى 148 جلدة وأن عقوبتها ستُخفف عند الاستئناف وأنه سيُفرج عنها في نهاية المطاف قبل نهاية المدة.
لكن نسرين ترفض الرضوخ لهذه العبة ولا تنوي الاستئناف. ومن جانبهم، يخشى بعض أصدقائها من أن عدم تعاملها مع المعطيات بمرونة قد يجعلها الخاسرة. في هذا الصدد، قال عبد الكريم لاهيدجي إن “نسرين تعتقد أنها لا تزال تتمتع بثقل وأن الاتحاد الأوروبي يمكنه ممارسة الضغط على إيران ولكنني أخشى من أن هذا ليس سوى وهم. لقد قررت الدولة دفنها في السجن وقد أصبحت نحيلة للغاية”. ومنذ سنة تقريبا، دخلت نسرين في إضرابيْ جوع دام آخرهما 27 يوما وهي بالكاد تتعافى من ذلك.
المصدر: لوموند