من الطبيعي جدًا أن نشعر بالتعب والتوتر في العمل من وقت لآخر، فهي واحدة من الضغوط النفسية التي تلعب دورًا أساسيًا في تحسين الأداء وزيادة الإنتاجية والفعالية، ولكن بالنسبة لبعض الناس، قد تستمر هذه الحالة طويلًا، مما يؤدي إلى فقدان الحماس والطاقة لإنجاز أبسط المهام المتعلقة بالعمل وانتشار الممارسات والسلوكيات السلبية في بيئة العمل، وذلك يحذر من أزمة صحية ليست في مصلحة الشركات أو الاقتصاد بشكل عام.
تُعرف هذه الحالة التي تغض الشركات الطرف عنها بـ”الاحتراق النفسي” أو “الإنهاك الوظيفي”، وهي واحدة من مشاكل الجيل الحاليّ، فما تفاصيل هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن مواجهتها في الوقت الذي اختفى فيه الحد الفاصل بين أوقات العمل وأوقات الراحة في عصرنا الحاضر؟
الاحتراق النفسي.. لماذا نفقد حماسنا تجاه عملنا؟
في القرن الماضي، وتحديدًا خلال فترة السبعينيات، لم يكن مصطلح الاحتراق النفسي شائعًا بعد، وكان يستخدم عادةً للحديث عن الآثار الجانبية لإدمان المخدرات مثل تدهور القدرات المعرفية، ولكن في عام 1974، ربط عالم النفس الألماني الأمريكي هيربرت فرودينبرغر، هذه المشكلة بالإرهاق البدني والعاطفي أو العقلي الناجم عن ضغوط العمل، وذلك حين لاحظ أن العاملين في إحدى عيادات الإدمان استنفدت طاقتهم وفقدوا عزيمتهم لمواصلة العمل.
واليوم باتت هذه الحالة واحدة من أكثر الظواهر انتشارًا رغم صعوبة اكتشافها مبكرًا وتشابه أعراضها بالتعب المؤقت الذي ينجم عن أعباء الحياة الثقيلة والمتزايدة، إلا أن الخبراء يحذرون من تفاقمها ويوصون بضرورة التعامل معها قبل أن تقود الموظفين إلى الاكتئاب، وربما الانتحار في الحالات الأكثر إرباكًا وأشد تعقيدًا.
أدت التكنولوجيا إلى زيادة المنافسة وكثافة العمل في السوق، ما يعني أن الأمر لا يقتصر فقط على ساعات دوام أطول وتغيب أكبر عن المحيط العائلي، وإنما يشير إلى التداخل الكبير بين الناحيتين
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فهي تعد متلازمة تنجم عن الضغوط النفسية المزمنة في بيئات العمل التي لم تعالج أسبابها بنجاح، وذكرت 3 أعراض أساسية لهذه المشكلة، وهي الشعور بالإعياء واللامبالاة وتدني الأداء في العمل، أما المصادر الأخرى، فقد أشارت إلى علامات إضافية مثل صعوبة النوم والتركيز وسرعة الانفعال، إلى جانب الشعور بالإرهاق والصداع وكثرة الشكوى وانخفاض الرضا الوظيفي والشك الدائم بكفاءة وقيمة العمل.
بالنسبة للأسباب التي تدفع البعض للوصول إلى هذا المستوى من الاستياء، يرى الخبراء أن في عصر الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب المحمولة يصعب على الموظفين الفصل بين العمل والحياة الشخصية، فلقد أدت التكنولوجيا إلى زيادة المنافسة وكثافة العمل في السوق، ما يعني أن الأمر لا يقتصر فقط على ساعات دوام أطول وتغيب أكبر عن المحيط العائلي، وإنما يشير إلى التداخل الكبير بين الناحيتين، فمن المألوف جدًا أن تجد نفسك تجيب عن الرسائل الإلكترونية في ساعات المساء أو تنجز إحدى مهمات العمل في أيام عطلتك.
وبالتالي فإن المجتمعات الصناعية لن تصارع فقط بين مسؤوليات العمل والالتزامات الشخصية والعائلية، وإنما ستزداد أيضًا تكاليفها الطبية، فلقد وجدت إحدى الدراسات أن التكاليف الطبية للموظفين الذين يعانون من إجهاد مرتفع أو متوسط أكثر بنسبة 26% من الموظفين الآخرين، ويبدو أن هذه المشكلة تتزايد مع مرور الوقت بسبب ارتفاع معدل مشاركة المرأة في قوة العمل أكثر من أي وقت مضى، ما زاد من ثقل المسؤوليات المتنوعة بين العمل والمنزل والأطفال والزوج ورعاية المسنين، إضافة إلى الاحتياجات الفردية التي تستلزم غذاءً فكريًا وعاطفيًا وروحيًا وجسديًا.
إلى جانب ضعف السيطرة والعجز على التأثير في القرارات المهنية، وعدم وضوح التوقعات وحجم الصلاحيات، وعدم التوافق مع قيم ومبادئ العمل نفسها، وعدم ملاءمتها لاهتمامات الموظف وطموحاتها، بالإضافة إلى التعرض للتنمر والانتقاد السلبي وقلة الاحترام سواء من أصحاب أم زملاء العمل.
كيف يمكن تجنب هذه المشكلة؟
في هذا الجانب، يوصي الخبراء بضرورة تخصيص وقت للراحة أسبوعيًا، ما بين يوم أو يومين، لكي يتمكن الموظف من تصفية ذهنه من أعباء وضغوط العمل، كما يشيرون إلى دور الرياضة في تنشيط الدماغ وتجديد الطاقة البدنية اللازمة لمواصلة العمل بأكبر قدر من النشاط والحيوية، وبطبيعة الحال لا يمكن تطبيق ذلك دون وضع حدود واضحة بين التزامات العمل والحياة الشخصية، ولذلك يقول بعض الخبراء “لا تكن متاحًا دائمًا وحدد أولوياتك وخياراتك”.
أما فيما يخص الوقت داخل المكتب، توصي الطبيبة الألمانية آنيته فال فاخيندورف، الموظفين بالتنزه في أوقات راحتهم خلال فترة الظهيرة حول مقر عملهم بالهواء الطلق، حيث يسهم ذلك في رفع أداء المخ وقدرته على التركيز في العمل، ما يعطي الموظف فرصة لإكمال عمله بسرعة وكفاءة عالية.
الاحتراق النفسي قد يكون في بعض الأحيان نتيجة لبيئة العمل غير العادلة والمليئة بالضغوط والمشاحنات المستمرة، والخالية من أجواء التشجيع والتطور
في المقابل، ترى معالجة نفسية في لندن ومتخصصة في الإنهاك المهني، جاكي فرانسيس ووكر، بأن هذه المشكلة قد لا يمكن حلها بسهولة، فبحسب قولها: “في بعض الأحيان يصاب المرء بالإنهاك المهني بسبب رغبته في تأدية عمله على أكمل وجه أو لأنه يشعر أنه غير جدير بمنصبه بسبب ما يسمى بمتلازمة المحتال، ومن ثم يبذل مجهودًا مضاعفًا ليعوض ضعف كفاءته”.
إضافة إلى ما ذكرته دراسة أجرتها مؤسسة غالوب للأبحاث في عام 2018، حين استنتجت نتائجها بأن الاحتراق النفسي قد يكون في بعض الأحيان نتيجة لبيئة العمل غير العادلة والمليئة بالضغوط والمشاحنات المستمرة، والخالية من أجواء التشجيع والتطور، يضاف إلى ذلك سبب آخر وهو حرص الأجيال الحاليّة على تحقيق النجاح في جميع المجالات الموجودة في السوق مع عدم الرغبة في التنازل عن أي من الأهداف والخيارات، وذلك ما قد يدفع الموظف إلى استنزاف طاقاته من أجل الوصول إلى غايته بغض النظر عن التكلفة الحقيقية لهذه النجاحات.