أدى استشهاد منشد الثورة السورية عبد الباسط الساروت، في وقت سابق هذا الشهر، إلى تفجر غضب عارم في الأوساط الثورية السورية، بالإضافة إلى حزن شعبي واضح ظهرت علاماته من خلال إقامة الجنازات الرمزية وصلوات الغائب في العديد من مدن العالم لـ”أيقونة الثورة”، وأقام ناشطون مجالس العزاء للساروت، مستذكرين به أيام الثورة الأولى.
لم يكن الساروت الرمز الأول في الثورة التي سارت بها ركبان الشعب السوري وقتل من أجلها الآلاف، فقبله كان عبد القادر الصالح وغياث مطر وحسين الهرموش ويوسف الجادر أبو فرات وغيرهم، إلا أن مقتل الساروت في هذا الوقت بالذات أعطاه زخمًا كبيرًا، خاصة أن الثورة السورية تمر بأحلك ظروفها بعد انحسار رقعتها الجغرافية لصالح قوات الأسد وانحصار وجودها في مناطق بمحافظات حلب وحماة وإدلب.
تلاحق المخاوف شخصيات كثيرة أضحت محل الاستهداف من النظام وأتباعه ومن خلايا “داعش” وفصائل متشددة، غير أن الرمزية لا تتجسد فقط بالأشخاص في الثورة، إذ أثبتت بعض المؤسسات حضورها الأيقوني في وجدان الشعب السوري، ولقيت قبولًا عالميًا كبيرًا لخدماتها الجليلة بالمجال الإنساني، ولعل اسم منظمة الدفاع المدني “الخوذ البيضاء” أول ما يلمع في الذهن، إذ أضحت أيقونة للعمل الإنساني المتواصل وإنقاذ أرواح الناس في ظل القصف المتواصل من قوات الأسد وروسيا، بالإضافة للمجالس المحلية التي ساهمت بتنظيم العمل في المدن وتطوير الحياة الخدمية رغم قلة الدعم المتوافر.
الساروت أيقونة
الكاتبة السورية إيمان محمد قالت لـ”نون بوست”: “من الضروري دائمًا استحضار شخصية الساروت وسيرته وتضحياته ومتابعته وإصراره وإرادته من خلال الإعلام عن طريق أفلام وأناشيد ومطبوعات ورقية”، وترى الكاتبة ضرورة إقامة محاضرات عن رحلة عبد الباسط عبر الثورة وكيف وصل إلى هذه الدرجة من التأثير وعوامل ثباته واستمراره رغم التقلبات والتخوين وانحراف البوصلة أحيانًا.
ولأن صناعة الرموز تساهم في ازدياد الوعي الثوري والحراك الجماهيري، لم يترك السوريون موت عبد الباسط يمر هكذا، فقد أعاد فعليًا إلى الذاكرة أيام الثورة الأولى التي طالما تغنى بها الثوار.
وفي حديث مع الناشط السوري يوسف موسى قال لـ”نون بوست”: “الكثير من الشخصيات الثورية كان يمكن أن تكون رموزًا خلال حياتها، لكنها لم تملك هذا البُعد الجماهيري إلا بعد موتها مثل عبد القادر الصالح أو يوسف الجادر أبو الفرات وغيره”.
الثورة لا تفتقر لرموز، إنما تفتقر لإعلام يروج لهذه الرموز ويعطيها حقها، ومن بعد ذلك فإن الناس تلقائيًا ستستجيب لأن لديها القدرة على التمييز بين المضحي حقيقةً والمدعي
ويتابع موسى “أي حراك يأخذ الطابع الجماهيري يحتاج إلى رموز تكون القدوة والخط الناظم لشكل الحراك، وحتى إن لم يكن في الثورة السورية أشخاص أحياء هم رموز متفق عليهم لدى الطيف الثوري الأوسع، إلا أنه حتى الشهداء يجب الاستفادة من رمزيتهم والحفاظ على قدسية المكانة التي وضعوا فيها”، ويرى موسى أن الحفاظ على هذه الرموز يكون أولًا بالاعتراف أنها رموز عامة ومتفق عليها، والضخ إعلاميًا في هذا السياق لخلق حالة الوعي بما تمثله هذه الأيقونات.
ويعتبر الكثير من النشطاء أن الثورة السورية ضمت الكثير من الرموز، إلا أن الإعلام هضم حقهم وأخفى بطولاتهم نتيجة لأجندات معينة، وبهذا الصدد تقول الكاتبة إيمان محمد: “الثورة لا تفتقر لرموز، إنما تفتقر لإعلام يروج لهذه الرموز ويعطيها حقها، ومن بعد ذلك فإن الناس تلقائيًا ستستجيب لأن لديها القدرة على التمييز بين المضحي حقيقةً والمدعي”.
ومن المعلوم أن من تحولوا إلى رموز في الثورة السورية، كان البعض يغالي بهم ليظهر فريقٌ آخر للتقليل من شأنهم نتيجة مواقف سياسية أو طائفية، ولأجل ذلك كانت هذه الخلافات تؤدي إلى إضفاء شيء من الشك تجاه الرمز رغم التضحيات التي قدمها ذلك الثائر، في هذا الصدد يقول يوسف موسى: “هذا الترميز يجب ألا يكون تحويل هذه الشخصيات أو المؤسسات من طبيعتها البشرية إلى الملائكية، فهو أول مطب يمكن أن يقع به أي شخص وكفيل بنسف الموضوع من جذوره”، ويتابع “أيضًا من خلال التأكيد على بساطة حياة هؤلاء بحيث يسهل أن يكونوا قدوةً يحتذى بها دون أن نضع الجمهور أمام شخصيات معقدة لا يمكن تمثلها، ويجب أيضًا أن ندعم هذه المؤسسات أو الشخصيات بكل الطرق الممكنة، ونحاول تصويب أخطائها وتقديم النصائح”.
رمزية المؤسسات الثورية
وعلى الرغم من الرمزية الكبيرة التي تمثلها بعض المؤسسات التي انبثقت عن الحراك الثوري، فإن النظام وروسيا يسخران كل إمكاناتهما لتشويه نقاوة الصورة التي يظهر بها رجال هذه المؤسسات، حتى إن صحيفة واشنطن بوست في أحد تقاريرها ذكرت أن هيئات ومؤسسات إعلامية تديرها الدولة الروسية تعمل على شن حملة “معلومات مضللة وحشية لا هوادة فيها” ضد منظمة الدفاع المدني “الخوذ البيضاء”، بما في ذلك اتهامات بأنها تستعد لهجمات كيماوية على الأراضي السورية!
إلا أن المؤسسة بذاتها تصدرت كأيقونة ثورية ولقيت قبولًا في المجتمع السوري نظرًا لطبيعة عملها كمؤسسة تعني بإنقاذ أرواح الضحايا، وهو ما جعل النظام يصب جام غضبه عليها، إذ سخّر كل أذرعه الإعلامية للصق تهمة الإرهاب بها، وأنتجت أذرعه الإعلامية مسلسلات تتحدث عن “كذبة” الخوذ البيضاء، ولم يفعل النظام ذلك إلا بعد أن أثبتت هذه المؤسسة التي نبعت من الثورة السورية حضورها ووجودها.
يقول يوسف موسى: “الحرب التي يشنها النظام وحلفاؤه على الرموز الثورية هي نوعين كلاهما يهدف إلى تشويه هذه الرموز، الأولى حرب إعلامية عالمية، تهدف إلى صبغ أي رمز ثوري بالسلفية والإرهاب باعتباره ذراعًا للقاعدة أو أحد أتباعها، والثانية حرب محلية من خلال شيطنة الرموز في أعين الناس وتحويلها من مناضلة في سبيل الحياة والحرية والكرامة إلى مجرمة”.
وتتطلب مواجهة أساليب النظام وحلفائه سرديتين منفصلتين: الأولى عالمية، ولا تكون رد فعل على حرب النظام بقدر ما تكون توصيفية للحقائق مدعمة بالبراهين، من خلال سرد حياة وطريقة عمل المؤسسات أو الأشخاص والتأكيد أنها نماذج ولدت من طبيعة المجتمع السوري وتسعى إلى أهداف نبيلة وسامية.
ويتابع الناشط السوري موسى “السردية المحلية تستحضر سردية الثورة الأصيلة، كما أنها كانت تسعى فعلًا لتحرير الشعب السوري بعمومه من طغيان الاستبداد إلى فضاء الحرية”، مضيفًا بأن هذه الرموز الشخصية والمؤسساتية إنما هي جزء كرّس نفسه لخدمة هذه الأهداف، وهذا سيتطلب بطبيعة الحال امتلاك جيوش إلكترونية محلية تعمل على السردية المضادة للنظام وحلفائه، وإعادة بناء التضامن الشعبي المحلي والدولي مع الثورة السورية من خلال رموزها.
وفيما يرى البعض أن الخوذ البيضاء الأيقونة المؤسسية الوحيدة التي ولدتها الثورة السورية، يذكّر آخرون بمؤسسات وكيانات خدمت المسيرة الثورية بشكل كبير، ولولا التدخلات والضغوطات الدولية لما أزيحت من الواجهة، وفي حديثه لـ”نون بوست” يعتبر المعارض السوري جوج صبرا، أنه وبالإضافة إلى فرق الدفاع المدني فإن “الجيش السوري الحر والمجلس الوطني السوري من رموز الثورة التي قاومت وكافحت بشتى المجالات”، ويضيف صبرا “الجيش الحر تشكل لمواجهة الجيش الفئوي الذي يقوده بشار الأسد الذي أوغل بدماء السوريين، وكان هدف ضباطه البناء الوطني”.
وكشف صبرا أن الضغوطات الدولية هي التي أطاحت بالمجلس الوطني بعد تشكيله بسنة واحدة، وذلك لأن المجلس كان نتيجة إرادة السوريين الذين خصصوا له يومًا منفردًا باسم”جمعة المجلس الوطني”.
مضمون الفشل الأكبر كان في القطيعة التي وقعت بين مكونات المجتمع السوري، وعدم مقدرة الخطاب الثوري على تجاوز حدوده الجغرافية الأمر الذي أبقى أفعالنا تدور في فضائنا فقط ولا يتعدى تأثيره المؤمنين أصلًا بالثورة
حملات تشويه الرموز
لم يستطع الثوار السوريون في كثير من الأحيان الرد على الحملات الروسية الكبيرة التي تحاول تشويه رمزية الثورة بشكل عام ورموزها أو أيقوناتها بشكل خاص، واستطاع الجيش الإلكتروني للنظام السوري في الأيام القليلة الماضية التعامل مع قضية منشد الثورة الساروت على منصات التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال فإن فيسبوك كان يحذف كل منشور يضم صورة الساروت أو اسمه. ولا يعتقد الناشط يوسف موسى “أنهم نجحوا في الحرب المحلية، وخلال سياق الثورة بشكل كبير في الحفاظ على رموزنا الثورية، ولكنّ النظام بالمقابل لم ينجح في نسف هذه الرموز”.
ويقول موسى: “مضمون الفشل الأكبر كان في القطيعة التي وقعت بين مكونات المجتمع السوري وعدم مقدرة الخطاب الثوري على تجاوز حدوده الجغرافية الأمر الذي أبقى أفعالنا تدور في فضائنا فقط ولا يتعدى تأثيره المؤمنين أصلاً بالثورة”.
إلا أنه وعلى الصعيد العالمي، استطاع بعض النشطاء وجمهور الثورة من خلال الأفلام الوثائقية الوصول إلى محافل دولية كبيرة ساهمت بشكل كبير في تكريس صورة الثورة رغم حرب التشويه التي يقودها النظام وحلفاؤه، فيما يبقى الفشل السياسي مؤثرًا، فلم يستطع التمثيل الثوري السياسي في الاجتماعات الدولية المحافظة على مكانته وبقي خطاب النظام هو المسموع، وهو ما يؤثر بشكل كبير ضمن الحرب على الرموز الثورية.
نجحت هذه المؤسسات بإثبات وجودها بدم أعضائها وعرق جبين أفرادها، ويجب أن لا نهتم بمواجهة التشويش إنما نسوق دورها أمام الرأي العام السوري والعربي والدولي
وكما قام الفيسبوك بملاحقة قضية الساروت وحجب كل ما يخصها، حذف اليوتيوب قبل سنتين تقريبًا آلاف المقاطع التي تعود لتوثيقات ما حصل في سوريا، ويقول المعارض جورج صبرا: “يجب جمع كامل وثائق هذه المؤسسات ونكتب تاريخها وتسويقها أمام الاهتمام الدولي ونقل كل ما نعرفه من نشاطات بكل اللغات إلى العالم للتعريف عن ثوريتها ووطنيتها ومطالبها المحقة”.
وطالب صبرا بأن “لا تكون هذه المؤسسات الرمزية مؤقتة، إنما يجب الاعتماد عليها ببناء سوريا”، ودعا إلى تثمين تضحيات أعضائها والتركيز على الخوذ البيضاء لأنها غير سياسية وهي من إنجازات المجتمع السوري المدني وإبداعات السوريين، مضيفًا “لم نبذل ما يكفي من الجهود ليظهر فشلنا أو نجاحنا بمواجهة حرب تشويش النظام عليها، إنما نجحت هذه المؤسسات بإثبات وجودها بدم أعضائها وعرق جبين أفرادها، ويجب أن لا نهتم بمواجهة التشويش إنما نسوق دورها أمام الرأي العام السوري والعربي والدولي”.