برًا وبحرًا.. “الزطلة” تُغرق تونس

تشهد تونس في السنوات الأخيرة وخاصة عقب ثورة 14 من يناير 2011 انتشارًا واسعًا للمخدرات بأنواعها من حيث الاستهلاك أو التجارة، مدفوعة بعوامل عدة من أهمها غياب التوعية والحملات التفتيشية في أوساط الشباب والمراهقين، وعجز أجهزة الدولة عن مراقبة كل الحدود الغربية والجنوبية للبلاد، إضافة إلى تفشي ظاهرة التهريب.
ككل بلدان العالم، ترزح تونس تحت وطأة تفشي المخدرات بأنواعها، وهي آفة عرفت انتشارها الواسع بعد احتلال البلاد سنة 1881، فمادة “التكروري” (الحشيش) لم تكن مجهولة عند أهالي تونس، ولكنها برزت بشكل لافت بمساهمة فعالة من المعمرين والتجار والمهربين من الجارة الغربية الجزائر، وكانت بالنسبة للسلطة الاستعمارية زراعة وتجارة مربحة، ليتم منعها نهائيًا في شهر أكتوبر 1955 بخروج فرنسا الغازية من تونس.
أرقام
آخر الأرقام المفزعة كشفتها دراسة حديثة أعدتها الجمعية التونسية لطب الإدمان، جاء فيها أن نصف التلاميذ في تونس جربوا التدخين والمخدرات، وأنه يوجد أكثر من 400 ألف مدمن على المخدرات، إضافة إلى 33 ألفًا يتعاطون المخدرات من خلال الحقن.
وقدرت إحصاءات غير رسمية أن المادة الأكثر استهلاكًا في صفوف التلاميذ الذين تقل أعمارهم عن 20 سنة، هي مادة “القنب الهندي” أو “الزطلة” بنسبة 92.70 % وقرابة 72% يستهلكون الحبوب، وبحسب إدارة الطب المدرسي والجامعي التابعة لوزارة الصحة التونسية، فإن التلاميذ الذين جربوا المواد المخدرة بالمؤسسات التربوية يتوزعون بين 61.1% في صفوف الذكور و40.9% في صنف الإناث.
كشف تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات (مستقلة) لعام 2018، أن 68% من مخدر الكوكايين يصل إلى أوروبا عبر دول منطقة شمال إفريقيا، وهو رقم يؤكد أن منطقة شمال إفريقيا (المغرب والجزائر وتونس) باتت مركزًا لتجارة المخدرات
ورغم أن تونس دولة غير منتجة للمخدرات والأفيون، فإن الكميات المصادرة من أجهزة الدولة توحي أن تجارتها انتعشت واستهلاكها في تصاعد مستمر، حيث أعلنت وزارة الدفاع في وقت سابق أنها حجزت في الفترة الممتدة من بداية يناير إلى آخر أبريل من العالم الحالي، قرابة طن من القنب الهندي، إضافة إلى طن في منطقة رمادة محافظة تطاوين (جنوب)، وذلك دون احتساب ما صادرته باقي الأسلاك الأمنية كالشرطة والحرس (درك) والديوانة (جمارك).
منطقة عبور
وفي ذات السياق، أكدت تقارير أممية ومنظمات دولية أن تونس تصنف على أساس منطقة “عبور”، ومسارات المخدرات في منطقة شمال إفريقيا تنطلق من المغرب بصفتها دولة منتجة، مرورًا بالجزائر ثم تونس ومنها إلى ليبيا، فيما أورد تقرير صدر حديثًا عن مؤسسة “نيو فرونتير داتا” أن المغرب يُعد ثالث أكبر سوق لترويج القنب الهندي ومخدر الحشيش المستخلص منه في القارة الإفريقية، حيث تفوق قيمة المتاجرة في هذا النوع من المخدرات 3.5 مليار دولار سنويًا، بينما يقدر عدد المدمنين على استهلاك الحشيش في المغرب بنحو 1.7 مليون فرد، فيما غابت الجزائر وتونس عن لائحة الدول العشرين الأوائل لمستهلكي القنب الهندي، إلا أن تقاريرًا كشفت ازدهار السوق المحلية التونسية، رغم غياب الإحصاءات الدقيقة.
كما كشف تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات (مستقلة) لعام 2018، أن 68% من مخدر الكوكايين يصل إلى أوروبا عبر دول منطقة شمال إفريقيا، وهو رقم يؤكد أن منطقة شمال إفريقيا (المغرب والجزائر وتونس) باتت مركزًا لتجارة المخدرات.
مسالك التهريب
بعد استجواب أكثر من مصدر معني بترويج وتعاطي مخدر القنب الهندي في تونس العاصمة وفي بعض المناطق الحدودية كـ(القصرين)، فإن مسار تهريب المخدرات التقليدي ينطلق من “باب براد” بإقليم شفشاون، والدرويش من منطقة الريف شمال المغرب، عن طريق مهربين كبار مغاربة إلى المدن والمحافظات الجزائرية ومنها: قرى بني ورسوس والبخايتية وإغميرين بمحافظة تلمسان، ثم مداشر وقرى بريزينة وبوعلام بالبيض، نحو الطرق الصحراوية بمحافظة بشار، أو إلى محافظات أخرى في الوسط والشرق كسطيف وقسنطينة وبرج بوعريريج، لتصل إلى عنابة وتبسة الحدوديتين مع تونس، لتدخل عبر المسالك الوعرة إلى محافظة “جندوبة” والقصرين، ومنهما إلى العاصمة تونس والمناطق الساحلية (سوسة المنستير).
وكانت مصادر أمنية قد أشارت إلى أن محافظات الكاف (الشمال الغربي)، وقفصة وتوزر (الجنوب الغربي)، شكلت بدورها في وقت سابق، بوابات حدودية لتدفق المخدرات إلى تونس.
وبعد تشديد الخناق على المعابر التقليدية (المناطق الحدودية) بين الجارتين تونس والجزائر، في إطار حملة شاملة لمقاومة الإرهاب من الجانبين، اتخذ “بارونات” التهريب مسالك أخرى، فالمهربون محترفون في ابتكار حيل متنوعة وطرق جديدة لنقل بضاعتهم.
البحر والبطن
بعد الدواب (الحمير والبغال)، والسيارات العادية وذات الدفع الرباعي، كشفت أجهزة مكافحة المخدرات في تونس والجمارك، لجوء المهربين إلى استعمال القوارب السريعة أوما يُعرف بـ(زودياك)، لنقل ممنوعاتهم والإفلات من الرصد والمراقبة، وتعتمد هذه الطريقة على إخفاء مخدر القنب الهندي داخل عجلات السيارات وإلقاؤها في البحر، ثم يتم الاتصال بالهدف (المستقبل) بواسطة الهاتف وتحديد موقع البضاعة بواسطة تقنية تحديد الموقع، ليأتي قارب آخر وينتشل المخدرات، وفي كثير من الأحيان يلفظ البحر عدة صفائح وأكياس مملوءة بالزطلة، أين عثرت عليها فرق حرس الحدود (درك).
اليخوت أيضًا من الوسائل التي يعتمد عليها المهربون في نقل المخدرات، فهي عادة لا تجلب أنظار الأمن لأن مستعمليها من الأثرياء وذوي السلطة.
يُذكر أن جهاز مكافحة المخدرات التونسي ضبط في 2015 أكثر من 3 أطنان من مخدر الزطلة محملة على يخت، وقبض على 3 أجانب يحملون الجنسية الإسبانية بميناء الحمامات السياحية.
“تجارة المخدرات في تونس عرفت انتشارًا في الآونة الأخيرة مقارنة بالسنوات الفارطة، رغم المجهودات الأمنية المكثفة في سبيل منع تدفقها على البلاد من الحدود البرية والبحرية أو عن طريق المطارات والموانئ”
من جهة أخرى كشفت نجاحات الأجهزة الأمنية في تونس طرقًا أخرى لنقل المخدرات مغايرة لما عهدته في السابق، وبيّنت أن المهرب يضع كمية المخدرات التي يُخطط لنقلها في ورق “ألومنيوم” ثم يُغلفها بالبلاستيك ويضعها في كبسولات تسمى (تمرة)، ويبتلعها أو يُخفيها في الدبر أو في الجهاز التناسلي للمرأة المرافقة له.
الأمن والمخدرات
في تصريح لـ”نون بوست” قال مصدر رفيع في وزارة الداخلية طلب عدم كشف هويته، إن تجارة المخدرات في تونس عرفت انتشارًا في الآونة الأخيرة مقارنة بالسنوات الفارطة، رغم المجهودات الأمنية المكثفة في سبيل منع تدفقها على البلاد من الحدود البرية والبحرية أو عن طريق المطارات والموانئ، مضيفًا أن المهربين يعمدون إلى تغيير طرق إدخال “السموم” بصفة دورية، وهي في كثير من الأحيان مبتكرة، وتعمل الفرق الأمنية المختصة (مكافحة المخدرات) على مواكبتها ومجاراتها من خلال أجهزة الاستعلامات “المخابرات” والعمليات الاستباقية.
من جانبه، أكد ضابط بجهاز الديوانة (جمارك)، أن الفرق المختصة التابعة للمؤسسة تعمل على تطوير قدراتها وترفيع جاهزيتها، من خلال المتابعة الدقيقة للطرق التقليدية والمبتكرة التي تعتمدها مافيات الأفيون، برًا وبحرًا وجوًا، مضيفًا أن تونس شهدت في الآونة الأخيرة تحسنًا في أداء مؤسستها الأمنية في تعاطيها مع ملف التهريب عامة والمخدرات خاصة، مشيرًا إلى أن الجمارك بمطار قرطاج الدولي، تمكنت تقريبًا من إحباط كل محاولات إدخال القنب الهندي ومخدر الكوكايين والهيروين.
أوردت مصادر إعلامية محلية في الـ9 من يناير الماضي إيقاف عسكريين في محافظة القيروان (وسط) قادمين من القصرين، بحوزتهما 25 كيلوغرامًا من مخدر القنب الهندي
سوق محلية
من جانبه، أكد يوسف (اسم مستعار لأسباب أمنية)، أحد تجار مادة القنب الهندي ينشط في “حي الضامن” المتاخم للعاصمة تونس والمعروف بانتشار بيع واستهلاك “زطلة”، أن تجارة المخدرات عرفت انتعاشة كبيرة خاصة بعد الثورة بفعل غياب الأمن واتساع دائرة الفوضى، إضافة إلى انشغال أجهزة الدولة في مكافحة الإرهاب الذي ضرب بكل قوته.
ويتابع يوسف قوله بأن الزطلة تصل إلى العاصمة التونسية لصغار المروجين عن طريق التهريب أو ما يُعرف بـ(الكونترا) بكميات متفاوتة، وتدخل تونس عبر المناطق الحدودية مع الجزائر، وتُباع بعدها قطعًا (صابونة) تُقسم إلى أحجام مختلفة حسب السعر (طرف 10 دنانير، أو جونتة 5 دنانير)، مضيفًا أن في كل حي أو منطقة صغيرة يوجد “لحام” (بائع) أو أكثر، وأغلبهم معلومين لدى الأمن.
بدوره، شدد “منذر حبس” وهي كنية التصقت به لكثرة تردده على السجن من أجل الاستهلاك والترويج، إضافة إلى السلب بالإكراه (براكاج) بـ”حي هلال”، أن “الكيف” في تونس أصبح أمرًا مألوفًا ومتداولًا يستعمله الفقير والغني، العاطل عن العمل والمحامي والأستاذ، ذكورًا وإناثًا، متابعًا القول: “من المستحيل أن تكون الكميات الرهيبة التي تُضخ في تونس تدخل دون علم أجهزة الدولة والقائمين عليها، متأكد من وجود تسهيلات أو متواطئين”، مشيرًا إلى أنه في كثير من الأحيان يُطلق سراحه وهو متلبس ببيع القنب الهندي من أعوان الأمن بعد أن “يفرح بيهم” (يُرشيهم) بمبالغ متفاوتة الأهمية، مضيفًا أن الشرطة في تونس تعرف المروج والمستهلك، ولكن حملاتها الأمنية لا تطال إلا المتعاطين وصغار المروجين، في حين تبقى “الرؤوس” بعيدة عن كل ملاحقة أو تتبع.
وأوردت مصادر إعلامية محلية في الـ9 من يناير الماضي إيقاف عسكريين في محافظة القيروان (وسط) قادمين من القصرين، بحوزتهما 25 كيلوغرامًا من مخدر القنب الهندي، وفي الـ15 من مايو أُلقي القبض أيضًا على عسكري وعون حرس (درك) لحيازتهما 14 صفيحة الزطلة، أي نحو 1.5 كيلوغرام معد للترويج.
المخدرات في تونس ما بعد الثورة، سوق لا تكسد وطلابها في ازدياد، عجزت المقاربة الأمنية عن معالجة أسباب ودوافع الإقبال عليها خاصة من الشباب بجنسيه، وعمقتها الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسب البطالة، ويرى مراقبون أن مشروع قانون تقنين إنتاج وترويج واستهلاك مادة “القنب الهندي”، سيزيد الأمر سوءًا ولن يكون حلًا لهذه الآفة.