على مدار السنوات الماضية نجحت السلطات المصرية في إحكام قبضتها على كافة المنافذ الإعلامية، إما بالحجب أو الدمج أو الاعتقال، في محاولة لتحقيق حلم الرئيس عبد الفتاح السيسي في العودة إلى إعلام الستينيات مرة أخرى، حيث الصوت الواحد ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
ولم يتبقى من تلك الحملة سوى منصات السوشيال ميديا التي باتت المتنفس الوحيد للمواطنين بعدما أغلقت أمامهم كافة مصادر التعبير عن الرأي، الأمر الذي استبعد البعض الاقتراب منه خشية الوصول إلى مرحلة الانفجار، هذا بجانب الضغوط الممارسة على القاهرة على المستوى الحقوقي، وهو ما ساهم في تراجع ترتيبها في مؤشرات الحرية.
لكن يبدو أنه لا خطوط حمراء في منهجية النظام المصري الخاصة بتضييق الحريات الممارسة إلى ما دون الصفر، وهو ما تكشفه الحلقة الأخيرة من هذه الخطة التي تستهدف “فيسبوك” و “تويتر”، حيث تفعيل المادة رقم 19 من قانون تنظيم الإعلام المقر مؤخرًا والذي يعطي المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام “رسمي” سلطة غلق الصفحات الشخصية وحجب المواقع.
التصدي للأخبار المضللة
يأتي تحرك الأعلى للإعلام في إطار ما تزعمه الحكومة المصرية بأنه تصدٍ للأخبار المضللة والشائعات وما يحض على الكراهية والعنصرية، استنادًا إلى الدراسة التي كشفت عن وقوع قرابة 86% من مستخدمي الإنترنت ضحية أخبار مضللة على شبكة الإنترنت.
المؤسسة الرسمية المخول لها مراقبة منظومة الإعلام في مصر والمشكلة منذ عامين تقريبًا لهذا الغرض، استندت في هذه الخطوة إلى المادة رقم 19 من قانون تنظيم الإعلام التي” تحظر نشر أو بث أخبار كاذبة أو ما يدعو أو يحرض على مخالفة القانون أو إلى العنف أو الكراهية، أو ينطوى على تمييز بين المواطنين، أو يدعو للعنصرية، أو التعصب أو يتضمن طعنا فى أعراض الأفراد أو سبا أو قذفا لهم أو امتهانا للأديان السماوية أو للعقائد الدينية”.
وفق هذا التحرك يحق للمجلس اتخاذ الاجراءات القانونية ضد أي مخالفة على جميع مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك، تويتر، انستجرام” وخاصة الصفحات التي يتعدى متابعيها 5 ألاف متابع، بحسب ما أشار جمال شوقي، رئيس لجنة الشكاوى بالمجلس الذي أضاف أن من صلاحياته كذلك إحالة المخالفة للنائب العام أو التحقيق فيها أو الاكتفاء بالجزاءات الواردة فى لائحة الجزاءات.
القانون في أحد بنوده يضع حسابات فيسبوك، وتويتر، ومنابر التواصل الاجتماعي الأخرى – تحت إشراف المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، كما منحه سلطة إغلاق المواقع على الإنترنت
شوقي في تصريحات له أوضح أن هذا الأمر متبع فى جميع دول العالم حيث تتولى هيئات البث الفضائي والاتصالات والإعلان الموجودة في الدول الأوروبية مراقبة المحتوى ومحاسبة من يخرج عن القانون فى هذا الشأن، وتابع :”هناك جرائم معينة اذا ارتكبت يحق لأي دولة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة أن تتخذ الاجراءات لمنعها من بينها الحض الكراهية أو التمييز أو العنصرية أو ما يتعلق بالأمن القومي والأخبار الكاذبة وهذه الجرائم صدرت فى وثائق الأمم المتحدة وهي ملزمة لجميع وسائل التواصل الاجتماعي الخاضعة للقانون المصري وهذه المحظورات محددة فى العهد الدولي بإعتبار أنها اذا ارتكبت في أي محتوى فلا يعتبر هذا المحتوى مندرجًا تحت بند حرية الرأي و التعبير”.
أما عن العقوبات المتوقع توقيعها على من يثبت في حقه بث مثل هذه الأخبار الواردة في نص المادة، أشار رئيس لجنة الشكاوى بالمجلس أن هناك حزمة من العقوبات منها تتباين من حجب الصفحة أو توقيع غرامات ماليه على أصحابها قد تصل إلى نصف مليون جنيه، هذا بخلاف احتمالية الحبس.
مكرم محمد أحمد رئيس المجلس الأعلى للإعلام
الرقابة على الإنترنت
في أغسطس 2018 صادق الرئيس المصري على قانون يقضي بتشديد الرقابة على الإنترنت في البلاد، ويمنح جهات التحقيق المختصة حق حجب المواقع الإلكترونية إذا ما نشرت مواد تعد تهديدًا “لأمن البلاد أو اقتصادها”، وهو القانون الذي أثار حينها موجة من الرفض لم تسفر عن شيء.
القانون الذي أقرّه البرلمان الأحد بأغلبية ثلثي الأعضاء، يحظر “نشر معلومات عن تحركات الجيش أو الشرطة، أو الترويج لأفكار التنظيمات الإرهابية، كما يكلف رؤساء المحاكم الجنائية بالبحث والتفتيش وضبط البيانات لإثبات ارتكاب جريمة تستلزم العقوبة، وأمر مقدمي الخدمة بتسليم ما لديهم من معلومات تتعلق بنظام معلوماتي أو جهاز تقني، موجودة تحت سيطرتهم أو مخزنة لديهم”.
علاوة على ذلك فإنه يحذر الشركات مقدمة الخدمة، أومستخدمي الإنترنت الذين يزورون هذه المواقع، عن قصد أو “عن طريق الخطأ دون سبب وجيه”، من إمكانية مواجهة عقوبات تصل للسجن وغرامة مالية تقدر بثلاثمائة ألف دولار، الأمر الذي تسبب في حالة من الذعر وأثارت استياء العديد من المؤسسات المعنية بحرية التعبير التي رفضت القانون معربة أنه يتضمن “اتهامات واسعة يمكن توجيهها لأي مستخدم للإنترنت، قام بأي فعل على الإنترنت بالمشاركة أو الكتابة أو التعليق”
القانون في أحد بنوده يضع حسابات فيسبوك، وتويتر، ومنابر التواصل الاجتماعي الأخرى – تحت إشراف المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، كما منحه سلطة إغلاق المواقع على الإنترنت، ورفع شكاوى جنائية على المنابر والأشخاص الذين يتهمون بجرائم من قبيل “تحريض الناس على انتهاك القوانين”، و “التشهير بالأشخاص والأديان”، وهو السند القانوني الذي يتحرك من خلاله في الوقت الراهن.
موجة استنكارية حقوقية أثارها القانون لما قد يترتب عليه من تهديد صارخ لما تبقى من منظومة الحريات في مصر، حيث حذرت نجية بونعيم، التي تعمل في منظمة العفو الدولية (آمنستي)، من أن التشريع الجديد “يقنن المصادرة الجماعية، ويصعد الهجوم على حق حرية التعبير في مصر، التي تعد الآن واحدة من أكثر البيئات قمعا لوسائل الإعلام والصحافة”، فيما انتقدت منظمة هيومن رايتش ووتش الأحد استخدام الحكومة لتشريع مكافحة الإرهاب لقمع النشطاء والصحفيين.
مزيد من التضييق
في يوليو الماضي أصدرت مؤسسة “حرية الفكر والتعبير“- مستقلة معنية بالحريات- دراسة تحليلية لها تحت عنوان “حالة الرقابة على الإنترنت في مصر” رصدت من خلالها جهود النظام المصري لإحكام قبضته على الانترنت خلال الفترة من يناير 2017 إلى مايو 2018.
الدراسة كشفت أن الرقابة على الإنترنت في مصر خلال العام الماضي، أصبحت أكثر ديناميكية وانتشارًا، لافتة إلى أن مزودي خدمة الإنترنت لا يقومون بحجب المواقع مباشرة، لكنهم يُعيقون الاتصال من خلال استخدام أجهزة الفحص العميق للحزم [Deep Packet Inspection (DPI)] ، هذا بخلاف تدخلهم في حركة مرور البيانات المُعماة التي تمر عبر بروتوكول طبقة المنافذ الآمنة (SSL) بين نقطة اتصال كلاودفير (Cloudlflare) في القاهرة وبين خوادم المواقع (الموجودة خارج مصر).
القرارات العقابية هدفت في المقام الأول إلى ضبط إيقاع المسار الإعلامي على نغمة النظام المحبوبة، دون نشاذ أو تشويش ، ومن ثم فهي محاولة واضحة لتقليم أظافر المغردين خارج السرب
المؤسسة في دراستها كشفت عن حجب أكثر من 100 رابط يخص مواقع ذات طابع إخباري، وهو الرقم الذي يمثل 5 أضعاف الرقم الذي زعمت السلطات المصرية عن المواقع التي تم حجبها، هذا بخلاف العثور على العديد من مواقع الويب الخاصة بحقوق الإنسان والمدونات التي تُقدّم النقد السياسي، قد تعرضت للحجب هي الأخرى.
يذكر أنه منذ مايو 2017 شهدت مصر سيلاً من حجب المواقع الإلكترونية تجاوز الـ513 موقعًا، ما بين إعلامي وحقوقي، في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين من أنصار الحريات الإعلامية، داخل مصر وخارجها، خاصة في ظل ضبابية المشهد وعدم وجود معلومات كافية عن أسباب الحجب.
خنق الحريات
المجلس الأعلى للإعلام الذي شكله السيسي بنفسه في 11 إبريل 2017 نجح بعد عامين فقط على إنشائه في إصدار 86 قرارًا عقابيًا ضد صحف وقنوات ومواقع إلكترونية وصحفيين وإعلاميين، وذلك وفق ما توصلت إليه ورقة بحثية أصدرها المرصد المصري لحرية الإعلام (منظمة مجتمع مدني مصرية).
القرارات العقابية هدفت في المقام الأول إلى ضبط إيقاع المسار الإعلامي على نغمة النظام المحبوبة، دون نشاز أو تشويش ، ومن ثم فهي محاولة واضحة لتقليم أظافر المغردين خارج السرب، وإظهار العين الحمراء لكل من تسول له نفسه أن ينأى بعيدًا عن المسار المحدد له سلفًا.
تلك القرارات تأتي استنادًا إلى لائحة الجزاءات التي أقرها المجلس قبل ثلاثة أشهر بحق العاملين في الحقل الإعلامي،تلك اللائحة التي تضمنت نصوصًا غير مسبوقة في تاريخ الصحافة المصرية، جزاءات وعقوبات مغلظة، أقل ما وصفت به من بعض الصحفيين بأنها ” ستقضي على ما تبقى من مهنة الصحافة” كما جاء على لسان عمرو بدر عضو مجلس نقابة الصحفيين.
بدر في منشور له على صفحته الرسمية على “فيسبوك” أضاف أن “اللائحة التي وصفتها بالمتعسفة مكتوبة بروح عدائية ضد الصحافة وحريتها، وتفرض غرامات تصل إلى 250 ألف جنيه، فضلًا عن إجازتها غلق المؤسسات الصحافية بشكل مؤقت أو دائم”.
وهكذا تواصل السلطات المصرية غلق كافة النوافذ أمام المواطنين للتعبير عن أرائهم بالحد الأدنى من الحريات المتاحة، مواصلة نهجها المستمر في وأد أي متنفس ووضع الجميع على وتر واحد لأجل تغريد لحن واحد، صنع داخل مطبخ النظام دون مراجعة أو تقييم.