سيسجل التاريخ أن إيران في عام 2024 تعرضت لمصائب بالغة بمشروعها ومكانتها أكثر من أي عام سابق. لقد كان عام 2024 متوترًا بشكل خاص بالنسبة لإيران التي تعرضت لسلسلة من الانتكاسات ستخلف آثارًا طويلة الأمد، ما بين مقتل رئيسها إبراهيم رئيسي وشخصيات بارزة في النظام وكبار القادة العسكريين في سوريا، وصولًا إلى إضعاف حليفها في لبنان وهزيمتها عسكريًا وطردها من سوريا، لتخسر إيران معادلة الردع التي تبناها قادتها على مدى عقود من الزمان.
كذلك واجهت الجمهورية في عامها المشؤوم 2024 تحديات وأزمات داخلية هائلة ما بين عدم الاستقرار والاستياء الشعبي والإحباط المتزايد بشأن الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والسيطرة الأمنية على الداخل خاصة على الأقليات، بجانب العقوبات الاقتصادية والتوترات مع الجيران، لذا فإن عام 2024 يشكل علامة فارقة تاريخية لإيران التي شهدت كل هذه النكبات معًا، والتي نستعرض أبرزها في هذا التقرير.
العزلة الإقليمية
تلقى النفوذ الإقليمي لإيران في عام 2024 ضربات غير مسبوقة، بدأت بتوجيه “إسرائيل” ضربات مدمرة لترسانة وقدرات “حزب الله” وقتل كبار قادته، وكان إضعاف الحزب بمثابة ضربة للمصالح الاستراتيجية لإيران.
لكن سقوط نظام الأسد على يد المعارضة السورية كان بمثابة الضربة الأقسى للنفوذ الإقليمي الذي رعته إيران على مدى العقود الماضية، لقد قلبت معركة ردع العدوان موازين إيران رأسًا على عقب، لم يكن نظام الأسد الحليف الأكثر أهمية لإيران فحسب، بل كان أيضًا قناة حيوية استخدمتها إيران كطريق إمداد لمساعدة وتمويل “حزب الله” في لبنان ونقطة تواصل للميليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن. كما أن خسارة إيران حليفها في سوريا، سيلحق بها ضررًا بالغًا في تنافسها مع تركيا.
في الواقع، أدى زوال نظام الأسد إلى تقليص عدد الدول التي تعتبرها إيران حليفة، وانتهى محور إيران إلى ميليشيات متفرقة. بجانب أن انهيار نظام الأسد قوض الاستثمارات التي قامت بها إيران في سوريا على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن وفكّك شبكة النفوذ المعقّدة التي حاكها قاسم سليماني.
لقد كلف الاستثمار الضخم الذي قامت به إيران لدعم نظام الأسد ما بين 30 – 50 مليار دولار، إضافة إلى خسارة حوالي 4000 عسكري إيراني. وبسبب سقوط حليفها نظام الأسد، فإن المعايير التي كانت تحكم طموحات إيران ستكون مقيدة بواقع جديد وصعب.
واعترف المرشد الأعلى خامنئي ضمنًا بانتكاسة “محور المقاومة” في سوريا في خطاب ألقاه بعد سقوط نظام بشار الأسد بثلاثة أيام، وألقى فيه اللوم على “إسرائيل” والولايات المتحدة، كما انتقد تركيا بحذر.
وحسب خبير الشؤون الإيرانية آراش عزيزي، فإن قادة الجمهورية الإسلامية في أشد الحاجة إلى تغيير سياساتهم والتوصل إلى اتفاق مع الدول الغربية من أجل التغلب على العزلة الإقليمية الجديدة.
فقدان الهيبة.. إيران المهانة في الخارج والداخل
خلال عام 2024، اضطرت قيادة إيران إلى تجاوز العديد من الخطوط الحمراء التي كانت بمثابة ركائز لنظام الدفاع عن البلاد لأكثر من أربعة عقود. في الواقع، فقدت إيران هيبتها بشكل كبير في عام 2024، وأصبح حلفاؤها الرئيسيون في المنطقة ضعفاء، ففي 20 يناير/كانون الثاني 2024، استهدفت غارة جوية إسرائيلية مبنى في دمشق بسوريا، ما أسفر عن مقتل 5 من أعضاء الحرس الثوري الإيراني، بمن فيهم الجنرال صادق أوميد زاده.
الحرس الثوري الإيراني يعلن مقتل 4 من مستشاريه العسكريين في سوريا
وتبع هذه الضربة ضربةٌ أكثر أهمية في 1 أبريل/نيسان 2024، عندما استهدفت مقاتلات إسرائيلية من طراز “إف-35” السفارة الإيرانية في دمشق، ما أسفر عن مقتل 8 أعضاء من الحرس الثوري الإيراني، بمن فيهم العميد محمد رضا زاهدي، أحد كبار قادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
من هو رضا زاهدي الذي اغتيل في دمشق؟
كما أصيب السفير الإيراني في لبنان مجتبى أماني مع اثنين من موظفي السفارة في سلسلة من تفجيرات البيجر التي استهدفت كبار القادة العسكريين والسياسيين في “حزب الله” في جميع أنحاء لبنان. وأيضًا قُتل الجنرال في الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفوروشان في غارة جوية إسرائيلية على مقر “حزب الله” في بيروت، والتي أسفرت أيضًا عن مقتل الأمين العام للحزب حسن نصر الله.
وقامت “إسرائيل” بضرب الأراضي الإيرانية أكثر من مرة خلال عام 2024، مستهدفة منشآت إنتاج الصواريخ والدفاعات المضادة للطائرات، وعلى النقيض من ذلك، لم تتسبب هجمات الصواريخ الإيرانية في أضرار أو إصابات كبيرة في “إسرائيل”، ولم يتسبب أي منها في ثني “إسرائيل” عن شن هجمات مضادة، حتى إن طهران لم ترد على آخر هجوم شنته “إسرائيل” في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ما دفع بعض المحللين إلى التحدث عن إهانة إيران وفقدان هيبتها.
كذلك في يوم تنصيب رئيسها الحالي في 31 يوليو/تموز 2024، قُتل ضيف الدولة، الزعيم السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية برفقة حارسه الشخصي في دار ضيافة حكومية في أحد أكثر المجمعات تحصينًا في طهران، وإضافة إلى كونها كارثة أمنية كبرى لأجهزة الأمن الإيرانية، فإنها تعني بالدرجة الأولى أن “إسرائيل” تجاوزت كل الخطوط الحمراء.
الموساد في قلب طهران.. قناة إسرائيلية تنشر تفاصيل جديدة بشأن اغتيال إسماعيل هنية
لقد استقبلت إيران عام 2024 بتفجيرات كرمان التي قُتل فيها 94 شخصًا خلال إحياء ذكرى اغتيال قاسم سليماني. كما قتل الكثير من أفراد الحرس الثوري هذا العام، لم يقتلوا فحسب خارج إيران، بل قتلوا أيضًا داخل حدود بلدهم.
ففي شهر أبريل/نيسان وحده، قُتل 11 ضابطًا من الحرس الثوري الإيراني وأصيب 10 آخرين من قوات الأمن في هجمات شنها مسلحو جيش العدل في تشابهار وبلوشستان على مقرات الحرس الثوري في إيران، وقد تكررت هذه الهجمات ضد الحرس الثوري في شهري سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني.
الاقتصاد الإيراني في أسوأ حالاته
عانى اقتصاد إيران هذا العام من فرض عقوبات جديدة بسبب تزويد طهران لروسيا بصواريخ باليستية في حربها ضد أوكرانيا، ففي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مجموعة الخطوط البحرية الإيرانية لدورها في تصدير المعدات والتكنولوجيا العسكرية لروسيا.
عقوبات أوروبية تنهال على إيران لتزويدها روسيا بصواريخ باليستية
ويعاني الاقتصاد الإيراني بالفعل من تأثير العقوبات الأمريكية، كما أصبح الشعب الإيراني محبطًا بشكل متزايد إزاء عجز الحكومة عن توفير الخدمات الأساسية، لقد انخفضت قيمة العملة الإيرانية إلى أدنى مستوياتها في عام 2024 بنسبة 100%، وأصبحت رسميًا العملة الأقل قيمة في العالم.
ومن القضايا الأخرى التي برزت كقلق كبير في إيران منذ صيف عام 2024 هي نقص الطاقة وعدم قدرة البنية التحتية للكهرباء والغاز في البلاد على تلبية الطلب، لقد واجهت إيران نقصًا متكررًا في المياه هذا العام وانقطاعات متكررة للتيار الكهربائي.
ويعتقد الخبراء أن نقص الاستثمار في البنية التحتية بقطاع الطاقة في إيران، إلى جانب العقوبات وسوء الإدارة من المسؤولين الحكوميين في السنوات الأخيرة، هي من الأسباب الرئيسية لهذا الوضع المزري. ومن المرجح أن تصبح هذه المشكلة أكثر تعقيدًا في العام المقبل، مع عواقب اجتماعية وسياسية كبيرة.
وأعرب العديد من المواطنين الإيرانيين في عام 2024 عن إحباطهم إزاء الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة والبطالة والتضخم والفساد والافتقار إلى الحرية السياسية. إن الجمع ما بين الاقتصاد المنهار والسخط المتزايد وفرض عقوبات جديدة على إيران من شأنه أن يشكل تحديًا هائلًا على قادة إيران في العام المقبل، خاصة أنه لا يوجد أمل في تحسن هذا الوضع بالمستقبل القريب.
بيت داخلي قلق
ما زال النظام الإيراني يمارس قمعه ضد الأقليات الدينية التي تواجه أشد أنواع الاضطهاد، بمن فيهم المسلمون السُّنة، وبخاصة تقيّد الأنشطة الثقافية والسياسية للأقليات العرقية الأذرية، والكردية، والعربية، والبلوشية في البلاد.
وتواصل إيران اعتقال ومحاكمة العديد من أعضاء الأقليات الدينية بتهم غامضة تتعلق بالأمن القومي، كما ترفض بشكل منهجي السماح للبهائيين بالتسجيل في الجامعات الحكومية بسبب عقيدتهم. في الواقع، يُعتقل نشطاء الأقليات بانتظام ويحاكمون في محاكمات لا تفي إلى حد كبير بالمعايير.
وتوصل تحقيق أجرته بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة في 8 مارس/آذار 2024 بشأن إيران، إلى أن الأخيرة ارتكبت العديد من الانتهاكات التي ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية، وتحديدًا جرائم القتل والسجن والتعذيب والاغتصاب وأشكال أخرى من الاضطهاد والاختفاء القسري.
كذلك نشرت منظمة هنغاو لحقوق الإنسان تقريرًا شامًلا يوثق انتهاكات حقوق الإنسان في إيران طوال عام 2024، ويكشف التقرير عن زيادة حادة في عمليات الإعدام والاعتقالات التعسفية بسبب أنشطة سياسية أو دينية أو قومية وأشكال أخرى من الانتهاكات، ما يدل على أن إيران عاشت عامًا من القمع الشديد.
أما نسبة المشاركة في الانتخابات الإيرانية هذا العام والتي جرت على خلفية تحديات اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية، فقد كانت منخفضة للغاية، وتشير النتائج الرسمية إلى أن نسبة الإقبال بلغت 41%، وهو أدنى معدل إقبال في التاريخ السياسي للجمهورية الإيرانية.
ورأى المعارضون أن ذلك الإقبال المنخفض للغاية على التصويت يعكس حالة الإحباط الشعبي إزاء النظام السياسي الحالي في إيران وتنامي الشكوك في إمكانية حدوث تغيير سياسي عبر صناديق الاقتراع، في حين فسرها المعسكر المؤيد للنظام على أنها رسالة احتجاج من الشعب الإيراني للنظام.
وبسبب استمرار الضغط على الناس دون أي بوادر أو مؤشرات إلى تغيير سياسات القمع بجانب الهزائم الإقليمية للنظام الإيراني، يتوقع العديد من المحللين الإيرانيين، إمكانية سقوط النظام الإيراني في المستقبل القريب، خاصة أن سقوط بشار الأسد قد خلق موجة من الأمل بين الإيرانيين الغاضبين، كما بدأ العديد من المحللين والخبراء، سواء داخل إيران أو خارجها، يتحدثون عن هذا الموضوع بجدية، ويقومون بدراسة أبعاد هذا التحول.
علاقات متوترة من الجيران
لقد توترت علاقات إيران مع جيرانها هذا العام بشكل غير مسبوق، فبجانب اتساع التوتر المائي والحدودي بين أفغانستان وإيران، وقيام الأخيرة بإغلاق حدودها المشتركة مع أفغانستان، فقد قُتل 4 باكستانيين في 29 مايو/أيار 2024 وأصيب اثنان آخران بعد أن أطلق حرس الحدود الإيراني النار على سيارتهم بالقرب من بلوشستان الباكستانية.
كذلك شنت إيران هجومًا صاروخيًا هذا العام ضد إقليم بلوشستان الباكستاني، مستهدفة ما تصفه بالمواقع الإرهابية، في حين وصفت باكستان هذا العمل بأنه انتهاك لمجالها الجوي وقالت إنه أدى إلى مقتل طفلين وإصابة ثلاث فتيات، لذا ردت القوات الجوية الباكستانية بشن غارات جوية على أهداف داخل إيران. وجدير بالذكر أن التوتر العسكري بين إيران وباكستان تصاعد أكثر من مرة هذا العام.
أفغانستان تغلق معبر جسر الحرير الحدودي مع إيران بعد اشتباكات بين الطرفين
الاختيارات الصعبة.. هل يشكل عام 2025 أفول الهيمنة الإيرانية؟
مع دخول عام 2025، تجد إيران نفسها عند منعطف حرج سواء في الداخل أو الخارج، ما بين الحفاظ على القبضة الأمنية في الداخل وإدارة الاستقطاب السياسي، والضغوط الاقتصادية والسكان المحبطين، وتداعيات التطورات الجيوسياسية.
إن ما عاشته إيران في عام 2024 سينتقل صداه أيضًا إلى عام 2025. ويشير بعض الباحثين إلى وجود موضوعين سيكونان حاسمين بشكل خاص للسياسة الإيرانية لعام 2025، وهما المراجعة الاستراتيجية بشأن عقيدة الدفاع الأمامي خارج حدود إيران، ثم النقاشات حول البرنامج النووي.
فمع فشل استراتيجيتها الدفاعية القديمة، بدأ القادة الإيرانيين في إعادة تقييم عقيدتهم الدفاعية التي اعتمدت منذ فترة طويلة على الدفاعات الأمامية خارج الحدود لردع الضربات عن الأراضي الإيرانية.
لقد أعادت النكسات التي عانت منها إيران هذا العام إشعال نقاش في البلاد حول الردع العسكري، بما في ذلك دعوة من المسؤولين الإيرانيين إلى تطوير الأسلحة النووية. ففي أوائل ديسمبر/كانون الأول 2024، أعلن أحمد نادري عضو البرلمان في طهران، أن الوقت قد حان لإجراء تجربة للأسلحة النووية.
في الواقع إحدى القضايا الأكثر إلحاحًا بالنسبة للقادة الإيرانيين في عام 2025 هي التوتر المستمر المحيط ببرنامجهم النووي. وقال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للصحفيين في بكين إن “عام 2025 سيكون مهمًا فيما يتعلق بالقضية النووية الإيرانية”.
من المتوقع أن تصل الأزمة النووية الإيرانية التي كانت تتفاقم لسنوات إلى نقطة الغليان في عام 2025، خاصة مع تهديد “إسرائيل” بشن ضربة عسكرية على المواقع النووية الإيرانية، ورغم محاولات الغرب كبح جماح طموحات طهران النووية، فقد تقدم البرنامج النووي الإيراني بشكل كبير، ويخشى المراقبون من أن يؤدي سقوط بشار الأسد إلى دفع طهران لتسريع برنامجها النووي كوسيلة دفاع.
إضافة إلى احتمالية تزايد العقوبات الأمريكية في ظل عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، والتي سيكون لها عواقب وخيمة على الاقتصاد الإيراني، ومع تزايد خيبة أمل السكان الإيرانيين، والإدارة الأمريكية القادمة، فإن التحديات التي تنتظر إيران هائلة.
في الواقع، تواجه إيران عامًا آخر مضطربًا في المستقبل، ولا يبدو عام 2025 مشرقًا بالنسبة لإيران، وبقدر ما تبدو الأشهر المقبلة صعبة للقادة الإيرانيين، فإنها قد توفر أيضًا فرصة للتغير، فهل يؤدي ضعف إيران الحالي إلى التركيز على نفسها والتوقف عن إشعال فتيل المواجهة بعد الإطاحة بالأسد، أم ستسعى إلى إعادة التموضع والحفاظ على المليشيات المتبقية.
بحسب المحلل السياسي في قناة إيران إنترناشيونال، مراد ويسي، فإن إيران الآن منقسمة ما بين بعض المسؤولين الإيرانيين الذين يرون أن المرحلة المقبلة يجب أن تصبح أكثر مرونة لتخفيف خطر الهجمات العسكرية والضغط على الشعب داخليًا، بينما يرى آخرون ضرورة الاستمرار في نهج المقاومة والصمود، حتى إنهم يتحدثون عن إمكانية الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي وصنع قنبلة نووية، وتعكس هذه الاختلافات عمق الأزمة داخل النظام الإيراني.