ليسمح لي صديقنا “محمد القدوسي” باستعارة عنوان قصيدته في رثاء الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي “كان منكم”، والتي جاء فيها “خطيئته أنه كان منكم”، ذلك بأن من البيان لسحرًا.
مشكلته أنه كان منّا
لقد كانت مشكلة الرئيس الشهيد فعلاً، أنه كان منا؛ من مصر وطينها، ومن مائها وهوائها، لم يكن ابن اقطاعي، ولم يكن من “الباشوات” بالسلالة، أو “الباشوات بالوظيفة، وقد قضت حركة ضباط الجيش على “الباشوات”، وأنتجت “السوبر باشوات” بحسب المؤرخ المعروف “حسين مؤنس” في كتابه بالغ الأهمية: “باشوات وسوبر باشوات”!
الدكتور محمد مرسي، لم يكن ابن باشا، أو ينحدر من العائلات المصرية التاريخية، ولا فرق بينه وبين أحد من رؤساء مصر السابقين بهذا المقياس بدءاً من محمد نجيب، مروراً بعبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، فجميعهم أبناء لآباء بسطاء رقاق الحال، ولم يشذ عن ذلك عبد الفتاح السيسي، غير أننا لا نعتمده رئيساً، ولو اعتمده العالم أجمع!
قالوا إنه ضعيف والضعيف لا يقيل أكثر من 90 في المئة من قيادات المجلس العسكري!
بيد أن حركة ضباط الجيش في سنة 1952، صنعت طبقية بالوظيفة، ومن عجب أن الذين انتحلوا صفة “الباشوات” بالوظيفة، أغلقوا الطبقة على أنفسهم، واغتصبوا المركز الاجتماعي لمن كانوا باشوات بالسلالة، فالضابط، أو القاضي، أو من حكمهم، قطعوا علاقتهم بتاريخهم الاجتماعي، وأعلن رئيس نادي القضاة أنهم لن يسمحوا لابن الزبال بأن يكون قاضياً، لأنه ليس لائقاً اجتماعياً، ونسي بمقاييس “اللياقة الاجتماعية” فإنه وباعتباره ابن “الحلاق” ما كان له أن يصل إلى هذه المكانة، ليمنع ابن أخيه من أن يكون مثل ابنه، مع أنهم أبناء لحلاق، لمن يكون من الجائز له اجتماعياً، أن يستمر راكبا حماره إذا مر بوجهاء قريته!
صنائع الانقلاب
لقد صنع انقلاب يوليو طبقية مقيتة، انتقلت من النفوذ بالسلالة إلى الوظيفة، وليس من بينها وظيفة عالم، ولو تخرج في واحدة من الجامعات العريقة، وعمل في مكان رفيع المستوى، إلا إذا قدم هو نفسه على أنه من الطبقة الرفيعة، وأزمة الدكتور محمد مرسي، أنه لم ينسلخ من جلده، فبدا في هيئته وشخصيته “فلاح” ابن “فلاح”، فلم يتقبله الذين هو منهم، من الذين دأبوا على الانسحاق أمام البدلة الميري، ومن يتعاملون على أن رئاسة البلاد لا يصلح لها سوى ضابط، فأي ضابط من الضباط الرؤساء نجح، أو كان تعبيراً حقيقياً عن طبقة “أولاد الذوات”!
كان أول قرار بالزيادة في الرواتب، خاص بأساتذة الجامعات، وكان مقرراً ألا تكون هي الزيادة الأولى لهم، لأن الرجل الذي عمل أستاذاً جامعياً قبل وبعد عضويته في البرلمان، كان يدرك حجم الأوضاع البائسة لهم، ومن يمكنه أن يدرك هذا مثله!
عز عليهم ان يكون الرئيس واحداً منهم، يتواضع في خطابه حتى يقدم الشكر لسائقي “التوك توك”
لقد رد إليهم الاعتبار، لكن لأنهم يدركون أن التحاقهم بالسلك الجامعي بدأ بتقرير أمني متحكم، وله أهميته، ثم إنهم يعيشون تحت رقابة الحرس الجامعي، فقد عز عليهم أن يكون الرئيس واحدا منهم، ولا يكون “حضرة الضابط النابتشي”، ولبعد السواد الأعظم منهم عن دائرة الوعي السياسي، فقد كان مرشدهم المعلم بعد الثورة، عندما نالوا حريتهم هو “توفيق عكاشة”، ولا أعتقد أنني سأخرج على حدود الموضوعية إذا قلت إن أكثر معارضيه كانوا من هؤلاء الذين دأبوا على أن يعيشوا في حدود الهامش، سواء من أساتذة الجامعات أو من غيرهم!
التواضع شيمته
عز عليهم ان يكون الرئيس واحداً منهم، يتواضع في خطابه حتى يقدم الشكر لسائقي “التوك توك”، ومن عجب أن مرشحي الرئاسة ولم يكن من بينهم من هو في قيمته العلمية أو الوظيفية، من نظروا إليه بتعال فكيف لهذا الفلاح أن يتمكن من الإعادة مع “الفريق”، ولا تكون الإعادة من نصيب أحدهم، لاحظ أن “الدونية” لا تجعلهم لا ينظرون إلى تأهل الفريق أحمد شفيق لجولة الإعادة على أنه أمر غريب، فالغريب هو أن يكون من ينافسه فيها هو محمد مرسي!
ومن منهم كان مثله؟.. ومن منهم كانت له مواقفه الشجاعة والمبهرة في مواجهة سدنة النظام البائد لكي تكون نظرتهم متعالية عليه بهذا الشكل؟!، عزاؤنا أن الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى احتجوا على اختيار طالوت ملكا وقالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه” وأسسوا موقفهم منه بأنه “ولم يؤت سعة من المال”!
قالوا إنه أخون الدولة، فأين الأخونة ومجمل من دخل بهم القصر الرئاسي هم مجموعة من الأفراد، فهل علموا بأعداد من يدخلون البيت الأبيض مع أي رئيس منتخب؟!
لقد كان الدكتور محمد مرسي عضواً في برلمان سنة 2000، الذي كان فيه حمدين صباحي مثلاً عضواً فيه، ولا يكاد أداء حمدين فيه يُذكر بجانب هذا الأداء المبهر، والموقف الذي يُذكر ويُشكر للنائب الدكتور محمد مرسي، وبيننا وبينكم المضابط!
وإذا كان التفضيل بقواعد المشاركة في ثورة يناير، فقد اعتقل الدكتور محمد مرسي ليلة جمعة الغضب ضمن ستة من أعضاء مكتب الإرشاد و500 من أعضاء الجماعة لأنهم قادوا القرار في اتجاه مشاركة التنظيم في الثورة، ولم يكن قد جرى اعتقاله / اختطافه أدق، لأنه تلقى تمويلا من جهة أجنبية، أو أن اسمه ورد في قوائم النفط مقابل الغذاء، ونشرته جريدة “المدى” العراقية، بعد احتلال العراق!
فأين تفوقهم السياسي والوظيفي والعلمي حتى يعتبرون أنفسهم أنهم الأحق منه، غاية ما في الأمر أنه عالم لا يزال يعيش في جلباب الفلاح، وهم فلاحون ظنوا أنهم مؤهلون للالتحاق بسلالة الإقطاعيين، إن لم يكن بالوظيفة فبالتمني؟!
دخل القصر الجمهوري محسودا
ومن هنا فقد دخل القصر الجمهوري وهو في موضع حسد، وكان حسابه باليوم، ويتحدثون عن فشله، ولا يدركون أنه لم يحكم سوى سنة، في ظل تحديات كبيرة، كانوا جزءاً منها فلم يكونوا عونا له، بل كانوا عوناً للثورة المضادة عليه، وبدأ حسابه باليوم، ولو كان طبيبا يدير مستشفى، أو صحفيا يتولى إدارة صحيفة، أو بقالاً يتولى أمر متجر، لما تمكن من أن ينهض به ويجابه التحديات في مجرد سنة واحدة!
قالوا إنه أخون الدولة، فأين الأخونة ومجمل من دخل بهم القصر الرئاسي هم مجموعة من الأفراد، فهل علموا بأعداد من يدخلون البيت الأبيض مع أي رئيس منتخب؟!
ومع هذا، فإن كان الفشل في الجانب الأمني، فإنه حقق إنجازات مهمة في مجالات أخرى، تكفي المقارنة بينه وبين من جاء بعده للوقوف عليها، فضلاً أنه كان صاحب خطاب استقلال وطني يجعله ممثلا للثورة ومعبرا عنها، لكن ماذا نقول في من انحازوا لنائب عام مبارك، عندما عزله مرسي، مع أن عزله كان مطلباً ثورياً؟!
قالوا إنه فاشل وهم يكذبون ويدركون أنهم يكذبون!
وقالوا إنه ضعيف والضعيف لا يقيل أكثر من 90 في المئة من قيادات المجلس العسكري!
وقالوا إنه أخون الدولة، فأين الأخونة ومجمل من دخل بهم القصر الرئاسي هم مجموعة من الأفراد، فهل علموا بأعداد من يدخلون البيت الأبيض مع أي رئيس منتخب؟!
خطيئته أنه كان منكم، وكنتم تبحثون عن أبو دبورة ونسر وكاب، فلما جاء السيسي كان الهتاف: هذا ربي.. هذا أكبر!
فلا حساب بالساعة.. ولا حديث عن عسكرة الدولة.. ولا كلام عن الفشل.. وكأن هذا كله جائز ومقبول من واحد ليس منكم!
يقول القدوسي:
خطيئته أنه كان منكم/ فلا قال إني منعت المناصب عنكم
ولا قال من أين أتي بمال اليكم/ ولا عير الفقراء فقد كان منهم
رحم الله الرئيس الشهيد.
المصدر: عربي21