عندما أحرق محمد بوعزيزي أحد شباب جيل الثمانينات نفسه لإطلاق شرارة الربيع العربي من تونس أواخر عام 2010 كانت حكاية هذا الجيل قد انتصفت، فقد اتخمت بالأحداث قبلها بعقد ونصف، واتخمت مرة ثانية بعد هذا التاريخ بعقد ونصف آخر، لتشكل هوية معقدة وليست سهلة، نحاول أن نفكك جانبًا منها في هذا المقال.
هذا الجيل الذي ينتمي له بوعزيزي 1984 مفجر الربيع العربي، وينتمي له أيضًا ولي عهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان 1985م، وينتمي له خالد سعيد 1982م الذي قتل بالضرب على يد أفراد من مخبري الشرطة المصرية ليؤجج الاحتجاجات التي أسقطت حسني مبارك، وينتمي له كذلك أمير قطر تميم بن حمد 1980م، وينتمي له صاحب حكاية الساعة أحمد الشرع 1982.
كما يشكل اليوم هذا الجيل غالبية مفاصل القيادة الوسطى في بلادنا، ويتطلع ليكون في الصف الأول كما في الإزاحة الجيلية التي حدثت في سوريا الجديدة وقبلها في قطر والسعودية، فما حكاية هذا الجيل؟ وما أبرز صفاته؟ وكيف يمكن أن يكون الشرع نموذجًا لحكايات هذا الجيل؟
جيل الثمانينات: أبناء جيل الصحوة
خاضت المنطقة مجموعة حروب وتجارب حكم متعددة قومية ووطنية ويسارية أسفرت جميعها عن نتائج عكسية وكارثية بداية من حرب 1948 وما عرف لاحقًا بـ”النكبة” وليس ختامًا بحرب 1967م التي عرفت كذلك بـ”النكسة”، لتخلق جيلًا جديدًا رافضًا لكل ما سبق، متمسكًا بالدين كنموذج مخلص لمأساة خساراته المتكررة، فظهر تيار قوي وسط شباب جيل الخمسينات والستينات عرف لاحقًا بـ”جيل الصحوة” الذي قاد عملية تحول كبيرة في المشهد العام.
هذا الجيل ربى جيلًا جديدًا من الأبناء على مجموعة قيمية عالية لا تؤمن بالكثير من مسلمات الأجيال السابقة، فهي لا تؤمن بحدود “سايكس بيكو” ولا بالطروحات القطرية والقومية، وإنما تحمل في كينونتها فكرة “الأمة” الجامعة الممتدة من بحر قزوين وتخوم الصين وصولًا إلى تخوم الأندلس وصحاري موريتانيا.
هذا التكوين الفكري والعقدي جعل جيل الثمانينات مرتبطًا بقضايا الأمة ارتباطًا وثيقًا لا يكاد يخبو حتى تشعل جذوته الأحداث، تربى على أدبيات متصلة بكل الأحداث العالمية الخاصة بالمسلمين، فهذا الجيل منذ صغره تابع مذابح المسلمين في البوسنة 1995م وتأثر بها وذرف الدموع بحسرة على قصيدة عبد الرحمن العشماوي المنشدة التي يقول في مطلعها:
نناديكم وقد كثر النحيب.. نناديكم ولكن من يجيب؟
نناديكم وآهات الثكالى.. تحدثكم بما اقترف الصليب
سراييفو تقول لكم ثيابي.. ممزقة وجدراني ثقوب
محاريبي تئن وقد تهاوى.. على أركانها القصف الرهيب
وهو ذات الجيل الذي شهد تفكك الاتحاد السوفيتي وحرب الشيشان الأولى 1994-1996 بين الروس والشيشان المسلمين الراغبين في الاستقلال وفزعة المقاتلين العرب وبروز قيادة تمثلت في شخصية بارزة عرفت بـ”سيف الإسلام خطاب” الذي تابعه جيلنا عبر إصدارات أطلق عليها عنوان “جحيم الروس” توثق العمليات العسكرية التي كان يخوضها المقاتلون هناك ضد الجيش الروسي والانتصارات الميدانية المحفزة لجيلنا الذي بدأ يخط أول معالم تكوينه العقدي والفكري.
في ذات الفترة صعد نجم جديد تمثل في حركة طالبان الأفغانية التي حققت أول انتصارات جيل الصحوة بدخولها للعاصمة الأفغانية كابل وتأسيس إمارة إسلامية بعد صراع مرير مع الروس أيضًا الذي كان للمقاتلين العرب يد قوية فيه بشخصيات بارزة مثل عبد الله عزام ثم أسامة بن لادن.
كل ذلك كان بمباركة الأنظمة العربية ودعم وتسهيلات كبيرة تماشيًا مع الرغبة الأمريكية باستنزاف خصمها الروسي، ما جعل الأناشيد والخطب والفيديوهات الحماسية المصورة تتدفق في مساجد ومحلات الصوتيات والمرئيات في بلادنا دون أن تجد رادعًا لها أو مانعًا حقيقيًا تحت أنظمة شمولية لم تكن لتمرر شيئًا لا رغبة لها بتمريره.
العودة للبوصلة: القدس”
لم يسعف جيلنا الوقت مطلقًا، فقد كانت سنوات تكويننا الأولى متخمة بالأحداث، فما زالت قصص البوسنة والهرسك والشيشان وأفغانستان لم تنته حتى اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية عقب اقتحام شارون للمسجد الأقصى، هذه الانتفاضة حفرت عميقًا باستشهاد أحد أبرز وجوه جيل الثمانينات الشهيد محمد الدرة من مواليد 1988م الذي التقط مصور فرنسي لحظة استهدافه مع والده من قبل القوات الإسرائيلية ليتحول إلى أيقونة النضال الفلسطيني ضد غطرسة جيش الاحتلال.
لم تكتف الانتفاضة الفلسطينية بمنحنا صورة واحدة من هذا الجيل، بل منحتنا صورة المقاوم الشجاع الذي يقف أمام أطنان الغطرسة الحديدية بصدر عارٍ وحجار الأرض، إنه الوجه الثاني لجيل الثمانينات الشهيد فارس عودة 1985م الذي اشتهرت صورته شامخًا أمام الميركافا الاسرائيلية متقدمًا هو وهي تتراجع بمشهد مذل لم تمحه السنوات ولا رصاص القناص الإسرائيلي الذي اغتاله وهو ابن 15 ربيعًا.
على وقع الانتفاضة وأحداثها المتتالية لسنوات، غرست قضية فلسطين والقدس في جيلنا غرسًا يصعب انتزاعه، ومع ظهور وسائل الإعلام غير المحلية في أغلب بلادنا كقناة الجزيرة ووصول الإنترنت بشكله الأولي كالمنتديات ظهر لدينا قدرة أوسع بكثير على المتابعة والاطلاع على أحداث كان يصلنا منها القليل والقليل جدًا.
حرب العراق والشرع.. كيف صنعت الجيل الجهادي الجديد؟
كما ذكرت سابقًا فإن الأحداث المتسارعة لم تسعف جيلنا وقتًا للهضم والتفكر، وإنما كانت متصلة الشحنة العاطفية والتي بلغت ذروتها عندما دخل جيل الثمانينات بداية مرحلة شبابه وهو يشاهد القوات الأمريكية تقصف عاصمة محورية ومهمة وقريبة يرتبط بها هذا الجيل مناطقيًا ودينيًا وقوميًا.
إنها بغداد تقصف بالحمم الأمريكية من السماء تمهيدًا لاجتياح العراق تحت عدسات الكاميرات، ما ولد صدمة ضخمة لأبناء جيل الثمانينات الذي وضع لأول مرة أمام اختبار حقيقي لكل التحشيد والقيم التي غرست فيه منذ أكثر من عقد من الزمان.
كان الجولاني من أبناء هذا الجيل ووالده حسين الشرع من جيل القومية العربية المعجبة بالناصرية “غير المنجزة”، ولد حسين في الجولان السوري وغادر للأردن ثم درس في العراق وتخرج في جامعة بغداد، لتتشكل هويته العابرة للحدود وليكون سببًا إضافيًا في تكوين ولده أحمد لاحقًا الذي كغيره من أبناء جيل الثمانينات يغلي من مشهد قصف بغداد ويحاول أن يبحث عن دور يلعبه في هذا المشهد الجديد بالمنطقة، خاصة أن هذا الجيل كان يعيب على الأجيال السابقة عدم قدرتها على الإنجاز وتغيير المعادلة في حروب الأمة السابقة.
قبيل اجتياح القوات الأمريكية للعراق 2003م تلاقحت فكرة العديد من الشباب في المنطقة مع رغبة العديد من الأنظمة العربية والإقليمية، حيث كانت عدد من الدول العربية تسعى للتخلص من الشخصيات الجهادية القادمة مع أفغانستان بعد الاجتياح الأمريكي لها 2001م، وبدأت هذه الشخصيات العربية المشاركة في حرب أفغانستان بالعودة لبلادها وتشكيل المجموعات الناشطة داخل تلك البلدان، فيما كان النظام السوري يتابع بقلق ويتحرك بسرعة لمنع إسقاطه من قبل إدارة بوش التي كانت تروج لذلك، وأنها لن تكتفي بالعراق فقط، كل ذلك ساعد أحمد الشرع – الذي لم يصبح الجواني بعد – ورفاقه من هذا الجيل الراغبين بالتحرك وإحداث فعل في المشهد من الوصول للعراق قبيل الغزو الأمريكي له.
على عكس المتوقع انهار النظام العراقي عام 2003م دون ترتيبات للمقاومة بعد سقوطه، وبقي المتطوعون العرب يهيمون في شوارع العراق دون قيادة أو حتى توجيه ليعود أغلبهم إلى بلاده، ما دفع الأنظمة ومنهم النظام السوري لإعادة ترتيب الوضع من جديد وظهور عملية التجنيد والإرسال من جديد التي ظهرت عبر استقطاب الشباب بالخطب الجهادية وأقراص الفيديوهات لعمليات المقاومة التي أظهرت بشكل لا يقبل الشك أن أنظمة تلك الدول منخرطة بهذا العمل، وكانت شخصية محمود قول أغاسي الذي عرف بـ”أبو القعقاع” نموذجًا صارخًا عن دور مخابرات النظام السوري في تحشيد وإرسال الشباب للقتال في العراق، ولهذه الشخصية دور محوري في فهم كيفية تلاعب الأنظمة بجيل الثمانينات قبل أن تمنحه السنوات والتجارب وعيه الحالي.
لم يكتف النظام السوري بذلك، بل أعاد ترتيب الأوراق عبر اعتقال الشباب لفترات قصيرة، يتم غالبًا تنظيمهم خلال السجون ليخرجوا جاهزين للعودة للقتال في العراق مع توفير خطوط إرسال لإرسالهم واستقبالهم، حتى دفع ذلك رئيس وزراء العراق المالكي آنذاك للتصريح عن دور النظام السوري في ذلك الوقت بإرسال المقاتلين من سوريا للعراق.
كان من ضمن هؤلاء الشباب أحمد الشرع الذي اعتقل لفترة قصيرة في سجن صيدنايا قبل إخراجه ليتوجه مباشرة للعراق قبيل عام 2005 ليلتحق بمجموعة تعرف بسرايا المجاهدين التي بايعت لاحقًا الزرقاوي الذي قتل على يد القوات الأمريكية ثم ليعتقل الشرع ويدخل في سلسلة السجون الأمريكية في العراق التي عرفت لاحقًا بأنها المنتج والمخرج الأساسي لما عرف لاحقًا بدولة العراق الإسلامية في العراق، حيث دخل وخرج منها كل قيادات الصف الأول مثل أبو عمر البغدادي وأبو علي الأنباري وأبو بكر البغدادي وصولًا لما عرف لاحقًا بأبو محمد الجولاني.
قاد الجولاني بعد اندلاع الثورة السورية عملية تأسيس فرع لتنظيم الدولة في سوريا قبل أن ينقلب على التبعية للبغدادي ويعود للارتباط بالقاعدة وإمارة الظواهري، ثم ليفك هذا الارتباط برحلة من التقلبات الفكرية التي سيفهمها جيل الجولاني الذي خاض عملية تجريب دامية لكل الأفكار التي حملها معه من النشأة بداية من “سلميتنا أقوى من الرصاص” وليس نهاية بحلم إقامة الخلافة!
لكن هذه التجارب رغم أننا نتحدث عنها في سطور كأنها رحلة فكرية بسيطة، فإنها في الحقيقة كان لها ثمن كبير من الدماء لا يمكن إعفاء ذمة الجولاني ورفاقه منها، وإن كان تراجعهم عن تلك المواقف يحسب لهم في ظل مشهد معقد تداخلت فيه الكثير من العوامل.
الربيع العربي والثورات المضادة ورحلة الوعي الدامية
منذ الساعات الأولى لمعركة “ردع العدوان” التي أطلقتها الشرع ظهرت بوادر وعي كبير في قيادة هذه المعركة وتوجيه الأحداث بداية من تطمين أهالي حلب والقدرة على مخاطبة المجتمع الدولي وتنسيق خطوط تواصل مع الأقليات، وصولًا إلى إدارة المشهد بعد سقوط الأسد وتشكيل الحكومة الجديدة واستقبال الوفود وبث الرسائل الإيجابية وفرض الأمن وتجنب الكثير من أخطاء التجارب السابقة وغيرها الكثير من التفاصيل التي أدهشت الجميع.
ها هو الجيل الجديد الجيل الذي شحن عاطفيًا وعقديًا طوال عقدين يسير بخطوات براغماتية واعية نحو تأسيس واقع جديد ليس في سوريا فقط ولكن في المنطقة.
بالعودة للحظة الربيع العربي وبلوغ جيل الثمانينات قمة المشهد العاطفي دخل بعدها بعام واحد نفق الثورات المضادة التي خلقت تجارب متعددة في بلادنا المنفصلة بـ”سايكس بيكو” المتصلة فكريًا وثقافيًا في عقول جيل الثمانينات لتحطم كل تابوهات الفكر القديم ويستفيق هذا الجيل على التجارب الحقيقية للحكم والسلطة وإدارة الواقع والمعادلات الدولية والإقليمية والداخلية والحراك المالي والاجتماعي والسياسي، ليمنح الشرع ورفاقه الصامدين في بقعة صغيرة من الأرض السورية فرصة النظر والتفكر وخوض التجربة خلال تواجدهم في إدلب طوال السنوات الماضية.
كل الذي سبق وغيره من التفاصيل الكثيرة المتناثرة على مدار ثلاثة عقود ونيف صنعت جيل الشرع ورفاقه العقديين في تكوينهم، المرتبطون بالقدس في وجدانهم، غير المؤمنين بالحدود في قرارة أنفسهم، البراغماتيون في تحركهم، الواعون بسبب كثرة تجاربهم لتداخلات مختلفة، القادرون على صناعة مستقبل أفضل لو أتيحت لهم الفرصة وقيض لهم الوقت؛ فقد نشاهد واقعًا لا يشبه الواقع الذي نعيشه اليوم.