يفرق الباحثون في تاريخ الدولة العثمانية بين إسلام الدولة والإسلام الشعبي؛ فإسلام الدولة هو مكانة الإسلام في أيديولوجية الدولة العثمانية وانعكاس ذلك على الطبقة الحاكمة والدور الذي لعبه الإسلام في توجيه شؤون السياسة داخليًا وخارجيًا، أما الإسلام الشعبي فهو الذي لم يُصبغ بصبغة سياسية ويقره أسلوب الإيمان وطريقة المعيشة التقليدية للمجتمع أكثر مما تقره الأسس والقواعد الفقهية.
ويقر أحمد يشار أوجاق أستاذ التاريخ العثماني في بحثه “الحياة الدينية في الدولة العثمانية” بأنه ليس من اليسير أبدًا، ومن نواح عدة، أن نطرح اليوم موضوع الدولة العثمانية والإسلام ووضع التحليلات المقنعة له، بكل جوانبه ومسائله، ولعل من أهم الأسباب وراء ذلك، أن البحث التاريخي العثماني لم يتجه بما فيه الكفاية لهذا المجال، أي أن العلاقة بين الدولة والإسلام لم يتم تناولها كمشكلة من كل الجوانب والجهات.
وبالتأكيد، لا تزعم هذه المقالة أنها تتناول مسألة العلاقة بين الدولة العثمانية والإسلام، لكنها تعرض فقط أسباب تأسيس منصب شيخ الإسلام ودوره ومكانته في الدولة ومدى تأثيره في المجتمع العثماني.
الحاجة إلى “المفتي الأكبر”
تختلف المصادر التاريخية بشأن تحديد السنة التي عُيّن فيها أول شيخ للإسلام في الدولة العثمانية، فبعض المصادر تذكر أن عثمان بك مؤسس الدولة العثمانية أوكل وظيفة الفتوى إلى الشيخ إدبالي عام 1325 وبعد وفاته تولى وظيفة الفتوى صهره الفقيه دورسون، إلا أن الباحث أكرم كيدو في دراسته “مؤسسة شيخ الإسلام في الدولة العثمانية”، يقول: “ولا يمكننا الجزم بأن إدبالي ودورسون كانا مفتيين، فهما عالمان ومن أقرباء عثمان بك، ولا يحتاجان أن يعينا بمركز الإفتاء حتى يصدرا الفتاوى”.
هناك من يرى أن نشوء طبقة العلماء وتنظيمها برئاسة شيخ الإسلام تأثر بطريقة تنظيم الإكليروس المسيحي
بينما ورد في مصادر عديدة أخرى أن أول شيخ للإسلام تم تعيينه في عهد السلطان مراد الثاني، هو شمس الدين فناري (1351- 1431) وهو أول رجل يحمل رسميًا لقب المفتي الأكبر، ولم يتم ذكر استخدام لقب شيخ الإسلام على المفتي إلا في القانون الذي أصدره السلطان محمد الفاتح عام 1480، وكان يطلق عليه المفتي الأكبر أو مفتي العاصمة.
وتتعدد الآراء أيضًا عن أسباب نشوء مؤسسة شيخ الإسلام، كما ذكر الباحث أحمد صدقي شقيرات في كتابه “تاريخ مؤسسة شيوخ الإسلام في العهد العثماني”، فيرى البعض أن السلاطين العثمانيين ربما أرادوا أن يقلدوا منصب الخليفة الموجود في القاهرة لدى سلاطين المماليك، لكن كثيرًا من المؤرخين ردوا على ذلك بأن السلطان مراد الثاني مؤسس منصب شيخ الإسلام، كان يتوجه في الأمور الفقهية والدينية إلى العلماء الكبار عند المماليك وليس إلى الخليفة.
وهناك من يرى أن نشوء طبقة العلماء وتنظيمها برئاسة شيخ الإسلام تأثر بطريقة تنظيم الإكليروس المسيحي، وقد رد المؤرخون على ذلك أيضًا بأن تنظيم الجانب الديني تحت سلطة قاضي القضاة كان موجودًا لدى الدولة العباسية والفاطمية، وعلى اختلاف الباحثين عن أسباب نشوء مؤسسة شيخ الإسلام إلا أنهم يجتمعون على أنها لم تتشكل بفرض قوة السلطان، وإنما تحت التأثير القديم للتيار الصوفي في الدولة الإسلامية.
وفق ما ذكر المؤرخ والإداري العثماني هزارفن حسين أفندي عن إدارة الدولة العثمانية في القرن الـ16، فإن شيخ الإسلام هو أعلى رجل في الدولة بعد السلطان
إلا أن بعض المؤرخين كمحمد يوكسال، يرون أنه بعد هزيمة السلطان بيازيد الأول في معركة أنقرة أمام تيمور لانك، ودخول العثمانيين فيما عُرف بـ”عهد الفترة” الذي استمر منذ عام 1402 حتى 1413، وشهد صراع الأمراء على العرش وانتهى بانتصار السلطان محمد الأول، قد برزت في هذه الفترة العديد من التيارات الباطنية التي قامت بالعديد من التمردات، وأن مراد الثاني بن محمد الأول أدرك أن الدولة بحاجة إلى سلطة دينية لها هيبة لإخماد هذه الاحتجاجات السياسية والدينية داخل الدولة.
دور ومكانة شيخ الإسلام
وفق ما ذكر المؤرخ والإداري العثماني هزارفن حسين أفندي عن إدارة الدولة العثمانية في القرن الـ16، فإن شيخ الإسلام هو أعلى رجل في الدولة بعد السلطان، حيث كان الصدر الأعظم وشيخ الإسلام يقفان في صف واحد أمام السلطان، وفي بعض الحالات كان شيخ الإسلام يتقدم قليلاً، فشيخ الإسلام هو الرئيس الديني للدولة أما الصدر الأعظم فهو رئيس للدولة، والسلطان رئيس الاثنين معًا.
إلا أن الباحثين يستنتجون من عدة شواهد أخرى أن شيخ الإسلام كان يأتي في مرتبة بعد الصدر الأعظم، فعندما يريد شيخ الإسلام أن يعين أعضاء طبقة العلماء كان يحتاج إلى موافقة الصدر الأعظم الذي يرفعها بدوره إلى السلطان.
وكان دور شيخ الإسلام في المرحلة الأولى التي تأسس فيها المنصب مقتصرًا على الواجبات الدينية وإعطاء الأحكام الفقهية فقط، ولكن منذ عهد السلطان القانوني تمتع شيخ الإسلام بقدر أكبر من السلطة.
أصبحت القرارات المصيرية لا يتخذها السلطان دون الرجوع إلى شيخ الإسلام، حتى عندما قرر السلطان سليمان القانوني قتل ابنه الأمير مصطفى، أخذ فتوى من شيخ الإسلام، وحدث نفس الشي عند حصار قبرص عام 1530
وبحسب الموسوعة الإسلامية التركية فإنه منذ أن زار الصدر الأعظم أوزدمير أوغلو عثمان شيخ الإسلام جيفي زاده محمد عام 1584، أصبح تقليدًا متبعًا من أجل رفع مكانة شيخ الإسلام بأن يزوره الصدر الأعظم مرتين في العام، وصار شيخ الإسلام يحصل على أكبر معاش شهري، فقد رفع السلطان القانوني معاش أبو سعود أفندي من 200 أقجة عثمانية إلى 600، ومن بعد القرن الـ16 أصبح السلاطين يهدون إلى شيوخ الإسلام أراضي إلى جانب معاشهم.
وتذكر المصادر التاريخية العديد من المواقف للشيوخ الإسلام الذين عارضوا قرارات السلطان، فبحسب ما ذكره المؤرخ تاش كوبرولو زاده أحمد، فإن ياووز سلطان سليم كان قد قرر قتل 150 من العاملين في خزانة الدولة، وطلب فتوى من زمبلي علي أفندي شيخ الإسلام الذي لم يجد قرار السلطان مناسبًا وصرح بذلك في اجتماع كبار رجال الدولة، وبالفعل تراجع السلطان عن ذلك.
وفي هذه المرحلة ازدادت أهمية منصب شيخ الإسلام وأوكلت إليه وظائف أخرى، فالسلطان بيازيد الثاني أنشأ مدرسة في إسطنبول وُضعت تحت تصرف شيخ الإسلام، كما أوكل السلطان القانوني مهمة تعيين طبقة العلماء إلى شيخ الإسلام أبو السعود وقد كانت تابعة قبل ذلك لقاضي العسكر.
وأصبحت القرارات المصيرية لا يتخذها السلطان دون الرجوع إلى شيخ الإسلام، حتى عندما قرر السلطان سليمان القانوني قتل ابنه الأمير مصطفى، أخذ فتوى من شيخ الإسلام، وحدث نفس الشي عند حصار قبرص عام 1530.
فتاوى أثارت جدلاً في المجتمع العثماني
من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل خلال تاريخ المشيخة العثمانية، هو موقف بعض شيوخ الإسلام من القهوة والدخان، إذ تقول الباحثة نسيبة علاوي في دراستها “مشكلة القهوة والتدخين في الدولة العثمانية”: “من المعروف أن المتصوفة كانوا يأكلون حب البن نيّئًا أو يغلونه ويشربون ماءه ليساعدهم على تمارينهم الروحية. وقد انتشر هذا التقليد أولًا في المناطق الجنوبية الشرقية للدولة العثمانية، ووصل إلى إسطنبول في منتصف القرن الـ16، وأصبح موضوع خلاف عند العلماء حتى قام شيخ الإسلام أبو السعود بتحريم شرب القهوة، حتى أباح شربها شيخ الإسلام محمد بهائي أفندي في عهد السلطان محمد الرابع (1648- 1687)”.
وفق الموسوعة الإسلامية التركية، فإنه رغم أن السلاطين العثمانيين أعلوا من شأن شيخ الإسلام، كان من حق السلطان أن يعزله
وقد حدث نفس الأمر مع الدخان الذي دخل إلى أراضي الدولة العثمانية في أواخر القرن الـ16، وحرمه شيخ الإسلام والعلماء، إلا أن تحريم شرب القهوة والتدخين لم يمنع انتشار المقاهي في عاصمة العثمانيين، باستثناء فترة حكم السلطان مراد الرابع الذي كان يتابع بنفسه تنفيذ أوامره بخصوص إغلاق المقاهي ومنع التدخين.
ومن ضمن الموضوعات التي أثارت خلافات عديدة بين العلماء، الرقص على المزمار عند متصوفي فرق المولوية والخلوتية، فقد حرّمها شيخ الإسلام أبو السعود أيضًا، وشهدت هذه المرحلة اضطرابًا في العلاقة بين شيخ الإسلام والمتصوفة.
عقوبات وقعت على شيوخ الإسلام
وفق الموسوعة الإسلامية التركية، فإنه رغم أن السلاطين العثمانيين أعلوا من شأن شيخ الإسلام، كان من حق السلطان أن يعزله، وكان أول من تم عزله هو جيوي زاده محي الدين محمد أفندي في عصر السلطان سليمان، الذي عارض السلطان في أكثر من موقف، وقيل إنه كان ينتقد متصوفة مثل مولانا جلال الدين وابن عربي وغيرهم، مما أغضب السلطان فعزله.
هناك بعض الحالات التي قُتل فيها شيخ الإسلام، كما يذكر الباحث عثمان أوكوموش في دراسته حول شيوخ الإسلام، إذ يقول:
بدا واضحًا أن التغييرات التي شهدتها مؤسسات الدولة العثمانية في المرحلة التي عُرفت بـ”عصر التنظيمات” الذي بدأ عام 1839، وشهد محاولات الدولة العثمانية في تقليد الحداثة الأوروبية، أدت إلى انحسار مؤسسة شيخ الإسلام
“من المعروف أن كل موظفي الدولة كانوا معرضين للعقاب إذا ارتكبوا أي خطأ، وكان يُستثنى شيوخ الإسلام من ذلك، إلا أن هناك ثلاثة شيوخ قُتلوا وهم: آهي زاده محمد حسين أفندي في عهد السلطان مراد الرابع، وتتعدد الروايات عن سبب قتله، والثاني هو خوجا زاده مسعود أفندي في عهد السلطان أحمد الأول، وقد وصل إلى منصبه بإرادة الإنكشاريين، وأراد أن يخضع إدارة الدولة لنفوذه، فتم قتله، والثالث هو سيد محمد فيض الله في عهد السلطان سليمان الثاني، بعد أن عُرف عنه تعيينه لأقربائه في مناصب عدة، ووصيته بأن يصبح ابنه شيخًا للإسلام من بعده”.
انحسار
وأخيرًا، فقد بدا واضحًا أن التغييرات التي شهدتها مؤسسات الدولة العثمانية في المرحلة التي عُرفت بـ”عصر التنظيمات” الذي بدأ عام 1839، وشهد محاولات الدولة العثمانية في تقليد الحداثة الأوروبية، أدت إلى انحسار مؤسسة شيخ الإسلام ولم يعد لها نفس الدور الذي لعبته على مدار قرون.
ورغم أن القانون الإسلامي لم يُلغ في هذه المرحلة، فقد انحصر بشكل كبير، تقريبًا في قانون الأحوال الشخصية فقط، وأوجد رجال عصر التنظيمات قوانين مدنية جديدة لتحل محل نظام الشريعة الإسلامية.
وبعد سقوط الدولة العثمانية عام 1922، أُسقطت مشيخة محمد نوري أفندي، آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية، ونُقلت خدمات مشيخة الإسلام إلى وزارة الشريعة والأوقاف، وبعد مرور عام واحد على تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، تم إلغاء وزارة الشريعة والأوقاف وإنشاء رئاسة الشؤون الدينية التي استمرت حتى الآن.