كل شيء يسير من أجل المعركة الانتخابية، هكذا تبدو الصورة واضحة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ خطاب ترامب ليس عفويًا، استعراض القوة على جميع الدول وخاصة إيران المأزومة سياسيًا في المنطقة وخارجها، وإشكاليات علاقتها الوجودية مع “إسرائيل”، ما يجعل لترامب في حاجة للظهور كمخلص للأخيرة بمنطق الرجل الأخضر، من أجل ضمان الاستمرار في سدة الحكم لأربعة أعوام أخرى، بعد نهاية الفترة الحاليّة في 2020.
دونالد ترامب.. وحجم مؤيديه داخليًا
خدمة الصورة الذهنية عبادة عند ترامب
مع بداية الحملة الانتخابية لترامب عملها في الأسبوع الحاليّ، استغل مساعدو الرئيس، الأحداث الساخنة في بلدان الشرق الأوسط (الهجوم على ناقلتي النفط في الخليج)، لتوجيه مزيد من الضغط على إيران، فبومبيو يصرخ من ناحية، ومستشار الأمن القومي جون بولتون من ناحيه أخرى، ويقود هذا المثلث الخطير “سيد البيت الأبيض”.
يمكن القول إن طبول الحرب تدق من كلا المتشددين في الجانبين خدمة لأهداف انتخابية، فكما هو الحال في أمريكا، للجانب الإيراني أيضًا مصلحة يمكن رصدها في ضغط الحرس الثوري بشدة منذ نحو عام لحث القيادة السياسية لطهران على التخلي عن قيود الاتفاق النووي، وهو مخطط أوقفه المعتدلون في الإدارة الإيرانية الذين غيروا هذا التكتيك المتهور ووضعوا بدلاً منه سيناريو آخر يعتمد على تعميق الفجوة بين إدارة ترامب وأوروبا بشأن الاتفاق النووي.
صعد ترامب سريعًا لسدة السياسة، وأبقى على شعبيته رغم ما يفعله على الساحة الدولية من مخاصمة لقيم وتقاليد الولايات المتحدة
هو نوع من التفاعل السام في كلا الجانبين، بحسب تعبير جيريمي شابيرو مدير الأبحاث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية والمسؤول السابق في وزارة الخارجية، فما يحدث من وجهة نظره عبث لأسباب سياسية داخلية، ولأنهم يريدون توترات أكبر، تقوي يد الصقور في الإدارة، بما يعلي صوتهم على حجج الديمقراطيين الذين يسوقون الآن الآليات والوسائل السلمية التي اتخذها ترامب لتهدئة حدة اشتعال الأوضاع في العالم، وخاصة بمنطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط، وهي أيضًا حيل انتخابية للسيطرة على البيت الأبيض بطريقة أخرى.
كيف يتلاعب ترامب بمشاعر مؤيديه؟
صعد ترامب سريعًا لسدة السياسة، وأبقى على شعبيته رغم ما يفعله على الساحة الدولية من مخاصمة لقيم وتقاليد الولايات المتحدة، وقد يكون مفتاح حل اللغز في معرفة نوعية مؤيديه، وما سر هذا الإخلاص الشديد والإعجاب الذي لا يتزعزع برجل يشرعن الاستبداد ويحاول فرض طاعة صارمة للسلطة على حساب الحرية الشخصية.
في علم النفس هناك ما يسمى بمتلازمة الشخصية الاستبدادية، وهي حالة منتشرة عالميًا وتؤمن بالطاعة الكاملة لسلطة الفرد، وأتباع هذه الفكرة أنفسهم، غالبًا يطبقون شروط هذه المتلازمة على غيرهم الذين يخضعوهم لسلطتهم أيضًا، ويقاومون بعنف التجارب الجديدة، في سبيل الاحتفاظ برؤية هرمية جامدة للمجتمع.
يخطب ترامب ود مشاعر الهيمنة الاجتماعية عند غالبية أتباعه ومؤيديه، فهم إما من البيض أو من الذين يحتقرون المهاجرين والأقليات
يعرف ترامب هذا جيدًا، لذا تتلاعب خطاباته دائما بأتباعه، فيصر على تضمينها مصطلحات جذابة لمن يعانون من المتلازمة مثل الكوارث والتدمير، وغيرها من الكلمات التي جعلت الناخبين الجمهوريين في الولايات المتحدة يسجلون أرقامًا في التصويت أعلى من الديمقراطيين قبل ظهور ترامب على الساحة السياسية، ومنها استطلاع بوليتيكو لعام 2016، الذي أكد أن الاستبداديين يفضلون ترشيح ترامب بشكل كبير، مما أدى إلى التنبؤ الصحيح بأنه سيفوز في الانتخابات، رغم استطلاعات الرأي التي كانت تقول خلاف ذلك.
يخطب ترامب ود مشاعر الهيمنة الاجتماعية عند غالبية أتباعه ومؤيديه، فهم إما من البيض أو من الذين يحتقرون المهاجرين والأقليات، وهي نتاج في النهاية لسياسات الحزب الجمهوري التي كانت تعرف باسم الإستراتيجية الجنوبية لريتشارد نيكسون، التي جذبت المؤيدين للتعصب، فالمسلمون المهاجرين خطرون، والمهاجرون المكسيكيون مغتصبون وقتلة، وهكذا كان منهج الأسلاف، حتى وصول ترامب إلى شكل جديد يجمع به هؤلاء على التفرقة الشعورية بين أنصاره والأقليات، وإثارة نوازع العرقية لديهم، كمحفز أكبر للصراع مع إيران حماية لـ”إسرائيل” وتهييج صراع آخر مع الصين للانتقام منهم بسبب فقدان الوظائف الأمريكية.
وتشكل الطبقة العاملة من البيض، القاعدة الأكبر لترامب حاليًّا، وهؤلاء يرفعون نفس شعاراته، فالصحف لا تحترمهم والملايين من المهاجرين غير المسجلين، يجب أن يرحلوا، وهكذا لعب على التجارة على تدمير مفاهيم السوق الحر الذي ابتدعته أمريكا، مع ضرورة منع المسلمين من زيارة الولايات المتحدة وكأنهم فسيفساء من الكارهين الذين تحركهم العنصرية.
التبشير بالمكارثية في عرف ترامب
يعرف العالم من جوزيف مكارثي وقصته في صناعة الخوف، بزعم حماية بلاده من الشيوعيين في الخارج ومن أنصارهم في الداخل، وهكذا ترامب من حيث كم الهجوم الهائل على الحرية والإنصاف وسيادة القانون، وكأنه يعيد خطايا الولايات المتحدة التي تأسست أصلاً على استعباد السود والإبادة الجماعية للهنود الحمر.
لا يستفيد من تعطل الحوار بين أمريكا وإيران إلا المتشددون، فمنذ حديث ترامب عن تعطيل الصفقة مع إيران، والجناح المتشدد لا حديث له إلا عن ضرورة تلويث وتدمير العظمة الأمريكية
لا يترك ترامب مناسبة إلا ويدعو فيها بطريق مباشر وغير مباشر لتقليص الحقوق المدنية والإنسانية لغير البيض والمسلمين بالمقارنة مع المسيحيين، إذ وضعت إدارته الأطفال والرضع في معسكرات الاعتقال بهدف إلحاق الأذى بهم وبأسرهم من أجل ردع الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة.
كما أنه يضع أجندة تحدد الهوية البيضاء، كمهيمن على السياسة والاقتصاد في الولايات المتحدة، وهي ممارسات دعت مكتب التحقيقات الفيدرالي ومركز القانون الجنوبي للفقر وغيره من المنظمات، إلى العمل لرصد معدلات الزيادة الكبيرة في جرائم الكراهية وغيرها من أعمال العنف السياسي اليميني، بدءًا من حملة دونالد ترامب وحتى السنة الرابعة من رئاسته في عام 2019، وخاصة المقاطعات التي استضافت مسيرة حملة ترامب، مقارنة بغيرها من المدن الأخرى.
على الجانب الآخر، لا يستفيد من تعطل الحوار بين أمريكا وإيران إلا المتشددون، فمنذ حديث ترامب عن تعطيل الصفقة مع إيران، والجناح المتشدد لا حديث له إلا عن ضرورة تلويث وتدمير العظمة الأمريكية، عبر التوقف عن الالتزام بقيود الصفقة وخطة العمل المشتركة، بما قد يمكن المتطرفين من العودة لصدارة المشهد في إيران، إذا خارت قوى الرئيس حسن روحاني وحلفاؤه الإصلاحيون والمعتدلون للتخفيف من حدة التوترات الأجنبية من خلال النشاط الدبلوماسي المكثف.
ميزان القوى بين أمريكا وإيران
ويعني ازدياد نفوذ المتشددين الإيرانيين، استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة، وخرق بعض عناصر الاتفاقية النووية سواء من خلال توسيع تخصيب اليورانيوم أو وقف تنفيذ البروتوكول الإضافي لاتفاقية ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو تعطيل التجارة خارج الخليج الفارسي والبحر الأحمر، بجانب إعادة تدوير إسطوانات العداء الأمريكي لإيران، لعمل تعبئة تعرقل الجهود الدبلوماسية، والانتقادات المتزايدة لمحاولة البلاد في ظل هذه الظروف، تمرير مشاريع قوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومكونات الحرب مع إيران تتساقط.
ويستند الرافضون للإجراءات الإصلاحية، على تصعيد ترامب ضد النفط الإيراني لكسر كرامة البلاد، بجانب تعيين الحرس الثوري، وهو فرع من الجيش الذي تديره الدولة كمنظمة إرهابية أجنبية، دون رد فعل قوي من كبار صانعي القرار في طهران الذين لا يفعلون شيئًا إلا انتظار عفو إدارة ترامب، والقول الفصل منهم في الأزمة ومساراتها الأفضل، وهو أمر مخالف للأعراف الإيرانية التي لا تقبل بالتبعية مهما كانت التكلفة.
المتشددون الإيرانيون يلعبون بالنار.. ولكن على حساب من؟
يهدف ترامب ورجاله إلى إبقاء الولايات المتحدة في حالة تأهب لخوض حرب لا تنتهي، ولا يختلف الأمر كثيرًا عن المتشددين في إيران الذين يسعون بكل قوة إلى شرعنة الصراع مع أقوى وأكبر بلد في العالم، من أجل تفخيم الذات القومية بما يحقق مصالحهم السياسية ويؤهل العالم في المقابل إلى انتظار حرب كارثية لا تبقي ولا تذر، مهما كانت الاحترازات من الجانبين، ومحاولة كل منهما للبقاء في المنطقة الآمنة من الآخر!