“لسنا سوى انعكاس للعالم. (…) إذا استطعنا تغيير أنفسنا، فستتغير النزعات في العالم أيضا”. مهاتما غاندي
المقدمة
تتطلب الأزمات الإنسانية تعاون أصحاب المصلحة على اختلافهم، الوطنيين والدوليين على حد سواء. ولطالما لعبت البنوك دور الوسيط في المعاملات الضرورية لتقديم المساعدات الإنسانية من خلال تسجيلها في قاعدة البيانات “المركزية” الخاصة بها. ومع الابتكار التكنولوجي الحاصل على مر السنين، عملت الخدمات المصرفية على تحسين عملياتها ومنتجاتها المالية، مع جعلها تتكيف تدريجيا حتى الآن مع التحول الرقمي ونماذج أعمال التكنولوجيا المالية.
مع ذلك، تظهر تكنولوجيا لا تقتصر على كونها رقمية وسريعة وآمنة فحسب، بل تمتلك أيضا قاعدة بيانات “موزعة” تسجل المعاملات المرئية التي يقوم بها جميع أصحاب المصلحة الذين يشاركون في شبكتها عبر الحدود الدولية. ويعني ذلك إمكانية توفير شفافية كاملة للمساعدة في عمليات التسليم، وربما لهذا السبب لن تكون هناك حاجة إلى البنوك.
على مدار مئات السنين، لعبت صناعة الخدمات المالية دورا رئيسيا في تلبية الاحتياجات الاجتماعية الأساسية، حيث عملت كوسيط موثوق به يربط بين عوامل الفائض والعجز
ظهرت تكنولوجيا البلوكتشين مصحوبة بفرصة إجراء التغييرات اللازمة على مستوى الثقة بين أصحاب المصلحة لتقديم المساعدة في المكان المناسب وبالطريقة الصحيحة وفي الوقت المناسب. من هذا المنطلق، يبدو أن بداية عصر جديد من انعدام الوساطة هو مستقبل نظام العمل الإنساني. ومع أخذ ذلك بعين الاعتبار، سنتعرف في الفقرات التالية على التأثيرات المحتملة للبلوكتشين على دور صناعة الخدمات المالية في الأزمات الإنسانية، خاصة بالنظر إلى التحديات التنظيمية التي تواجه خصائص البلوكتشين.
لهذا الغرض، ينظر الجزء الثاني في العلاقة بين الأزمات الإنسانية والخدمات المالية والبلوكتشين، في حين يوضح الجزء الثالث الخدمات المالية للأزمات ومشكلاتها، أما الجزء الرابع فيصف كيفية عمل البلوكتشين في تقديم المساعدات الإنسانية وآثارها في اللوائح الحالية. وأخيرا، يعرض الجزء الخامس الاستنتاج حول هذه المخاوف.
بدءًا من الأساس: ظهور البلوكتشين في الخدمات المالية والأزمات الإنسانية
على مدار مئات السنين، لعبت صناعة الخدمات المالية دورا رئيسيا في تلبية الاحتياجات الاجتماعية الأساسية، حيث عملت كوسيط موثوق به يربط بين عوامل الفائض والعجز. وحتى عندما حدثت أزمات مالية بسبب بعض نقاط الضعف في النظام المالي، ما أدى إلى فقدان ثقة الرأي العام ومناقشة معقدة حول البنية التحتية والتنظيمية الملائمة للصناعة، لم تقترح أبدا تفادي البنوك التقليدية. وعلى العكس من ذلك، اعتُبرت بعض المؤسسات المالية “أكبر من أن تفشل” وأنقذتها الحكومات لتفادي العواقب النظامية الكارثية على الاقتصادات.
كجزء من هذه الظاهرة، قد يكون البلوكتشين – وهو نوع من دفتر الأستاذ الموزع الذي أُنشئ لتسيير العملة الرقمية الأولى في العالم – أكثر الابتكارات ثورية
إلى غاية سياق الأزمة المالية لسنة 2008 وعصر المعلومات، لم يكن من الممكن أن تتكشف حركة ستُثير من خلال الابتكار التكنولوجي نقاشا جديدا لا يدور حول كيفية تحسين المصرفية ولوائحها، بل حول ما إذا كانت هذه الشركات ضرورية بالفعل لتوفير الخدمات المالية، التي تنطوي على ما يعرف اليوم باسم فاينْتك (التكنولوجيا المالية).
كجزء من هذه الظاهرة، قد يكون البلوكتشين – وهو نوع من دفتر الأستاذ الموزع الذي أُنشئ لتسيير العملة الرقمية الأولى في العالم – أكثر الابتكارات ثورية. ويعود السبب في ذلك، في جوهره، إلى تحدي هيكلة البلوكتشين لنماذج النظم الاقتصادية والقانونية المعمول بها، مع اقتراح تغيير في أساس التنظيم الاجتماعي لجعل التبادلات الاقتصادية بين طرفين (الند للند) دون الحاجة إلى “طرف ثالث موثوق به”، وتسجيل المعاملات بطريقة موزعة وشفافة وثابتة كما لم يحدث من قبل.
مع تفادي الوسطاء، يعِد البلوكتشين بتخفيض تكاليف المعاملات بشكل كبير، ما يمثل إمكانات هائلة لتعزيز الرفاه الاقتصادي والاجتماعي. لذلك، شهدنا في السنوات الأخيرة موجة كبيرة من الاهتمام في تطبيق هذه التكنولوجيا والإطار التنظيمي الذي ينبغي أن يرافقها. وتتمثل الجهات الفاعلة الرئيسية في الحكومات والهيئات التنظيمية والمؤسسات المالية وشركات التكنولوجيا ورجال الأعمال وأصحاب رأس المال الاستثماري والمستشارين والأكاديميين من جميع أنحاء العالم، الذين يتراوح تركيزهم من صناعة الخدمات المالية بأكملها (المدفوعات، والودائع، والإقراض، وأسواق رأس المال، والتأمين) إلى أي قطاع آخر ونشاط يتطلب على نحو تقليدي وسيطا للتحقق من معاملات هذه الصناعة (على غرار سلاسل التوريد والنقل والصحة والهوية والملكية والديمقراطية واقتصاد المشاركة).
لى الرغم من أن الأمر يعتبر مفاجأة بالنظر إلى أننا في القرن 21، إلا أننا نواجه أسوأ الأزمات الإنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع وجود فجوة جمع تبرعات مستمرة
من بين العديد من التطبيقات التي يمكن أن ترافق البلوكتشين في السعي لتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، يمكن أن يُحدث استخدامها في الأزمات الإنسانية تغييرا حقيقيا ويؤثر على سبل عيش الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم وقدرتهم على التكيف، وهم الذين يكونون في حاجة ماسة بسبب الصراعات والعنف والكوارث الطبيعية، وهي مهمة “أهم من أن تفشل” كما أشير إلى ذلك آنفا.
على الرغم من أن الأمر يعتبر مفاجأة بالنظر إلى أننا في القرن 21، إلا أننا نواجه أسوأ الأزمات الإنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع وجود فجوة جمع تبرعات مستمرة. نتيجة لذلك، تستمر الاحتياجات الإنسانية في الارتفاع لتبلغ ذروات جديدة كل سنة في الوقت الذي ما زالت فيه الموارد المتاحة للإمداد غير كافية وغير قادرة على تعزيز قدرة المحتاجين على التكيف أو تقدمهم على نحو فعال.
على الرغم من أن اقتصاد القدرة على التكيف يتطلب العمل على عدة جبهات، إلا أن تعاون خدمات الصناعة المالية كان ولا يزال أساسيا قبل الأزمات وخلالها وبعدها. وتبعا لطبيعتها، تقدم المؤسسات المالية خدمات مالية لتوجيه أموال المانحين إلى المحتاجين، والحد من التعرض للمخاطر وتحفيز الاقتصاد في مناطق الأزمات.
جنبا إلى جنب مع المؤسسات الإنسانية خلال السنوات القليلة الماضية، عملت المؤسسات المالية مع أنواع جديدة من آليات التمويل المبتكرة لتقديم الدعم المالي بكفاءة، وتحقيق استفادة متزايدة من التكنولوجيا. وفي هذا السياق، نحن بصدد رؤية أول مشاريع البلوكتشين لتحقيق التغيير العاجل في تقديم المساعدات الإنسانية للربط بين المانحين والمحتاجين، عن طريق آلية رخيصة وشفافة تعمل على أتمتة الثقة التي كانت توفرها تقليديا البنوك وغيرها من الوسطاء.
الخدمات المالية في وقت الأزمات: المعضلة
مثلما أُشير إلى ذلك، يعد دور الخدمات المالية أساسيا لسلسلة القيمة في تقديم المساعدات الإنسانية. وبالإضافة إلى خدمات الدفع، هناك مجموعة معقدة من المنتجات المالية التي يمكن استخدامها في حالات الأزمات، انطلاقا من أكثر المنتجات المالية تطورا للاستثمار، وصولا إلى الحد من المخاطر (لمعالجة مختلف جوانب ومراحل الأزمات على غرار تغير المناخ والكوارث وسياقات الصراع واللاجئين) مرورا بتلك التي تسمح بالإدماج المالي لقدرة الأشخاص المتأثرين بالأزمات على التكيف وتقدمهم.
في الواقع، لا تعد جميع هذه الأدوات والآليات المبتكرة الأخرى (مثل الصناديق الاستئمانية والمجمعة)، سوى جزء بسيط من إجمالي الموارد، على عكس المخصصات قصيرة الأجل والقائمة على المنح
فعلى سبيل المثال، تقدم المؤسسات المصرفية ومؤسسات الإقراض الدولية قروضا تساهلية أو ائتمانية للحكومات كأداة لتمويل المخاطر لضمان توفر الأموال الكافية مباشرة لتلبية الاحتياجات المالية في حالة حدوث كارثة، بشروط أكثر سخاء مقارنة بقروض السوق. من ناحية أخرى، يغير قطاع الخدمات المالية (بما في ذلك أسواق رأس المال ومؤسسات التأمين وإعادة التأمين) تكلفة المخاطر للمستثمرين الذين يقدمون تعويضا عند وقوع كارثة كأداة لنقل المخاطر مقابل الحصول على علاوة (على غرار سندات الكوارث)، فضلا عن نقل مخاطر تنفيذ البرامج الاجتماعية للمستثمرين (سندات الأثر الاجتماعي).
في الواقع، لا تعد جميع هذه الأدوات والآليات المبتكرة الأخرى (مثل الصناديق الاستئمانية والمجمعة)، سوى جزء بسيط من إجمالي الموارد، على عكس المخصصات قصيرة الأجل والقائمة على المنح. لهذا السبب، تتمثل إحدى مقاربات المجتمع الإنساني الدولي في “التحول من جمع التبرعات إلى التمويل“.
لمواجهة الفجوة المستمرة في جمع التبرعات المذكورة آنفا، من الضروري تفعيل إمكانات الخدمات المالية، والاستفادة بشكل أكبر من أدوات تمويل ونقل المخاطر للحصول على المزيد من الأموال المتاحة للمساعدة. في هذا الصدد، يكتسب جمع التبرعات الجماعي، وهو أداة اقتصاد المشاركة حيث يكون الوسطاء عبارة عن منصات الويب (الأسواق) التي تربط بين المانحين والمشاريع الإنسانية، أهمية متزايدة.
أما فيما يتعلق بالخدمات المالية المقدمة للأشخاص المتأثرين بالأزمات، فإن التحويلات والمدخرات والتأمين والائتمانات والتحويلات النقدية تمثل أدوات تدعم سبل العيش وتحفز النشاط الاقتصادي بعد الأزمات. وتواجه هذه الخدمات المالية عوائق ترتبط بالتسليم، نظرا لأن البيئات السياسية والتنظيمية ترسم حدودا بشكل خاص في مناطق الأزمات، حيث توجد مشكلات في الامتثال للوائح “اعرف عميلك”، بسبب غياب مستندات الهوية (الهوية الوطنية أو جوازات السفر التي ربما أُتلفت أو ضاعت بعد كارثة مفاجئة أو نزوح ناجم عن نزاع). هذا بالإضافة إلى المشكلات مع مكافحة غسل الأموال، التي قد تتطلب وثائق إضافية، على غرار إثبات العنوان (من قبيل فاتورة أحد المرافق)، للبدء في عملية مالية.
إن هذا التضارب بين الالتزام بقوانين “اعرف عميلك”، ومكافحة غسيل الأموال، وقانون حماية البيانات من جهة أخرى، سببه هو أن القانونين الأولين لا يأخذان بعين الاعتبار السياقات الخاصة مثل أوقات الأزمات
من أجل حل مشاكل تحديد الهوية، كانت هناك حالات قامت فيها الوكالات الإنسانية بجمع بيانات المستفيدين (على غرار بصمات الأصابع ومسح القزحية) وأصدرت بطاقات هوية يمكن أن تعترف بها الكيانات المالية. مع ذلك، قُوبلت هذه التكنولوجيات ببعض الرفض من قبل المستفيدين بسبب مخاطر الخصوصية والاستخدام غير المناسب وغياب الدقة. يعود السبب في ذلك إلى أنه في حالات الأزمات، تظهر حساسية خاصة تتعلق بخطر نفاذ المجرمين أو نوع من مجموعات الإنترنت إلى قواعد البيانات المركزية وإمكانية إلحاق الضرر بالمستفيدين المسجلين.
إن هذا التضارب بين الالتزام بقوانين “اعرف عميلك”، ومكافحة غسيل الأموال، وقانون حماية البيانات من جهة أخرى، سببه هو أن القانونين الأولين لا يأخذان بعين الاعتبار السياقات الخاصة مثل أوقات الأزمات. ولا تزال وكالات الإغاثة تبذل جهودا كبيرة للحفاظ على سرية هوية المستفيدين من المساعدات، وذلك عملا بمبدأ العمل الإنساني المتمثل في عدم وقوع ضرر على المستفيدين. ودون تجاهل أن الهدف هو منع استغلال النظام المالي لنقل أموال غير مشروعة، فإنه من الضروري التشجيع على تطبيق آليات لا تكون فيها بيانات المستفيدين مكشوفة.
بالإضافة إلى ذلك، هناك قصور آخر في الخدمات المالية يتمثل في أن المؤسسات المالية المحلية معرضة لتعطيل عملياتها، وتدمير بنيتها التحتية المادية والمالية في سيناريوهات الأزمات (مثل تدمير الطرقات، شبكات الاتصالات، مولدات الطاقة، فروع البنوك، وأجهزة الصراف الآلي، والعملاء).
مؤخرا، بات بإمكاننا ملاحظة عمليات تحويل الأموال الرقمية باستخدام عمليات التوزيع الآلي (استخدام الهاتف أو نقاط البيع التي تعتمد على أجهزة قراءة البطاقة، ومنصات الرسائل النصية، ومنصات إدارة البيانات بالتكنولوجيا السحابية). وإلى جانب برامج صرف المال بالاعتماد على بطاقات، حيث يمكن للمستفيدين الاعتماد على محافظ مالية إلكترونية أو حسابات بنكية، ورغم فوائد هذه الحلول على الاقتصاد وقدرتها على الوصول إلى المناطق التي لا تسمح فيها البنية التحتية بذلك، فإن هذه العمليات لا تزال تمثل جزء صغيرا جدا من الجهود الإنسانية. واستخدام عمليات تحويل الأموال الرقمية التي يجب أن يتسع نطاقه. ولكن من أجل التنفيذ المحكم لأهداف هذا الخيار، من المهم جدا الإشارة إلى أن عديد الدراسات الميدانية حول مثل هذه البرامج التي طبقت، حذّرت من أن هناك تحسينات ضرورية لكسب ثقة المستفيدين وإقناعهم بالاعتماد على الأموال الإلكترونية.
بعبارات بسيطة، إن تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع، على عكس الدفاتر التقليدية، ليست بيانات مخزنة لدى مدير موثوق
بالنظر لكل هذه الاعتبارات، يجدر الانتباه إلى أن هناك مهمة شاقة متمثلة في توسيع الخدمات المالية لمقدمي هذا النوع من الخدمات، التي لا تتعلق فقط بالبنوك، بل أيضا بشركات تكنولوجيا الأموال التي يمكنها خفض الرسوم وزيادة الفاعلية (مثلا من خلال التمويل الجماعي وإدارة الأموال عبر الهاتف).
إذا أخذنا في الحسبان خفض الرسوم وتكاليف تمويل المساعدات الإنسانية، فإنه من الضروري أيضا الانتباه إلى أنه إلى جانب تكاليف الوسطاء الماليين الذين يقدمون خدمات مالية لهذه الوكالات والخدمات فإن تقديم الدعم الإنساني نفسه تترتب عنه مصاريف (مصاريف التنسيق وتبادل المعلومات، وحصول عمليات التحيل والفساد، وما يتبعها من عمليات تدقيق)، وهذا يعزى بالأساس في المقام الأول إلى تنوع الأطراف المتدخلة (كل أنواع الإدارات الحكومية، والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، والمنظمات متعددة الأطراف، الممولون، ومقدمو الخدمات المالية) وثانيا إلى نقص الآليات التي توفر الشفافية المطلوبة لتعقب وصول المساعدات لمستحقيها، وهو ما لا يسمح برؤية الصورة الكاملة لحجم المساعدات التي تصل للسكان المتعرضين للأزمة.
البلوكتشين: الإمكانيات
حتى الآن أشرت فقط إلى أن البلوكتشين هي دفتر أستاذ موزع يتميز بالشفافية وعدم القابلية للتغيير، والأمان، ناهيك عن أنه يقدم ميزة أساسية تتمثل في خفض كلفة التحويلات المالية، وذلك بفضل إتمامها بشكل آلي وموثوق. كيف من الممكن الاستفادة من هذه المميزات وتحقيق الثقة الآلية؟ بعبارات بسيطة، إن تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع، على عكس الدفاتر التقليدية، ليست بيانات مخزنة لدى مدير موثوق، بل هي مخزنة بشكل متزامن لدى كل المشاركين في شبكة متزامنة من المستخدمين، وهؤلاء مجتمعين يشكلون دفتر الأستاذ الموزع.
ليس هناك مدير موثوق يعرف محتوى المعلومات ويقوم بالمصادقة على التحويلات، بل يتم ذلك عبر آليات إجماع حسابية في مختلف عقد الشبكة، التي تستخدم تقنية إثبات الإنجاز أو إثبات السن
لطالما أن هناك نسخا من البيانات المخزنة مودعة بشكل متزامن في مختلف عقد الشبكة، فإنه من المفترض وجود مخاطر أقل لحصول عملية تلاعب. لذلك تقدم دفاتر الأستاذ الموزعة بطبيعتها أمانا أكثر من البنوك وباقي الوسطاء: وإذا تم تدمير عقدة من تلك الشبكة، فإن هذا لن يؤثر على قاعدة البيانات باعتبار أنها منسوخة في كل النقاط والعقد الأخرى من الشبكة.
ليس هناك مدير موثوق يعرف محتوى المعلومات ويقوم بالمصادقة على التحويلات، بل يتم ذلك عبر آليات إجماع حسابية في مختلف عقد الشبكة، التي تستخدم تقنية إثبات الإنجاز أو إثبات السند، وهكذا فإن الجميع يشاركون في التحقق من صحة التحويلات، بينما تبقى المعلومات مشفرة.
إن هذه الميزة بالذات هي التي يطلق عليها الثقة الآلية أو أتمتة الثقة. ومن أجل المصادقة على تحويل لن تكون هناك حاجة بعد الآن لبنك أو كاتب عدل يتمتع بثقة مختلف الأطراف. وعوضا عن ذلك، ستكون هناك شبكة كاملة من العقد المصممة بشكل صحيح لقول الحقيقة من أجل التثبت من التحويلات. هذه الخاصية أيضا تسمح بقدر أكبر من الأمان لأن اختراق النظام سوف يتطلب اختراق أكثر من نصف عقد الشبكة.
بالإضافة إلى ذلك، إن الميزة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها هي أن كل المعلومات الموجودة في الكتل مشفرة. وهكذا من خلال تقنية التشفير، فإن كل العقد يمكنها رؤية كل سلسلة، وفقط من يحملون مفتاحا خاصا يمكنهم الدخول إلى المعلومات، وبالتالي يمثل البلوكتشين حلا للحفاظ على خصوصية المستفيدين الذين يجب تسجيل بياناتهم.
تتنوع حالات استخدام البلوكتشين في نظام العمل الإنساني بين عمليات مشاركة البيانات المحمية، وشبكات التزويد، وتمويل المتبرعين، وبرامج النقد، والتمويل الجماعي، وحتى استخدام العملات المشفرة
في النهاية، إن البلوكتشين تكنولوجيا مكونة من سلاسل الكتل، وكل كتلة تحتوي على أي نوع من المعلومات حول التحويلات (من سجل بيانات الهوية إلى الأصول والأموال والممتلكات، وحتى العقود الذكية، والتحويلات السابقة التي تمت ببيانات مسجلة في كتل أخرى)، وإذا حاول أي شخص تغيير البيانات الموجودة في الكتل، فإن شبكة العقد بأكملها سوف تعرف ذلك. وعلى هذا النحو فإن البلوكتشين تتميز بأنها غير قابلة للتغيير، وتوفر ميزة الشفافية، وهو ما يؤهلها لتكون أداة فعالة لتقديم الدعم الإنساني طالما أن ذلك ممكن، وتوفير الصورة الكاملة التي أشرنا إليها سابقا، مثل تعقب المعلومات من المتبرع إلى المستفيد، وخفض الخسائر الناجمة عن الفساد والتحيّل وعمليات التدقيق.
تتنوع حالات استخدام البلوكتشين في نظام العمل الإنساني بين عمليات مشاركة البيانات المحمية، وشبكات التزويد، وتمويل المتبرعين، وبرامج النقد، والتمويل الجماعي، وحتى استخدام العملات المشفرة. وفي كل هذه الحالات، وبفضل الخصائص المشار إليها سابقا، فإن استخدام البلوكتشين يسمح بتوسيع نطاق الخدمات المالية المتوفرة، ويجعل التحويلات أكثر سهولة وسرعة وأمانا، والأهم من كل ذلك أكثر شفافية، لتصل المعلومات إلى المانحين الذين يمكنهم بذلك الوثوق في نظام العمل الإنساني، إلى جانب الاستغناء عن العديد من الوسطاء التقليديين.
في الواقع، إن نطاق أدوات إدارة المخاطر المالية ونقل المخاطر من أجل الحصول على التمويلات للعمل الإنساني يمكن أن يشهد اتساعا إذا تم وضع هذه الآليات في البلوكتشين، بما أنها أدوات يمكن توزيعها لتصل إلى عدد أكبر من المستثمرين، وهو ما شاهدناه في الحالات الأولى للكوارث الإنسانية والتأثير الاجتماعي.
في علاقة بالالتزام بقانون “اعرف عميلك” وقانون مكافحة غسيل الأموال، فإن البلوكتشين يمكن أن يسمح للمؤسسات المالية بامتلاك كل بيانات العملاء في نفس الوقت، وبالتالي فإن الجهود للتثبت من المعلومات يمكن القيام بها كلها في مرة واحدة. وفي نفس الوقت، يمكن تطبيق هذا المنطق على وكالات الإغاثة الإنسانية، التي تحتاج باستمرار لمشاركة المعلومات فيما بينها ومع البنوك، مستفيدة من خفض الكلفة التي تقدمها البلوكتشين، مع حماية بيانات المستفيدين. ولكن، هاتين الخاصيتين على وجه التحديد (الشفافية وعدم القابلية للتغيير) أثارتا تساؤلات حول الالتزام بمعايير حماية البيانات.
حتى عندما يكون هناك تضارب واضح بين ميزة عدم القابلية للتغيير، ومبدأ الحق في النسيان، إضافة إلى الحساسية العالية للمعلومات المجمعة عن المستفيدين، فإنه يجب النظر إلى أنه من الممكن من هذه الناحية المصالحة بين التكنولوجيا والقانون
لكن يمكن لحل هذه المخاوف أن يتغير، إذا كانت البلوكتشين هي دفاتر حسابات يمكن للجميع الانضمام إليه والقيام بعمليات التثبت (permissionless DLT) (مثل عملة بيتكوين) أو دفتر حسابات لا يسمح فيه بالانضمام والتثبت إلا بعد إذن مالك الشبكة وقلة من الأعضاء permissioned DLT (مثل هايبر ليدجر).
في الحالة الأولى، هناك أنواع عديدة من المخاوف القانونية وذلك بسبب وجود نوع غير مسبوق من الحوكمة، يمكن فيه لأي شخص أن يدخل للشبكة وأن يصبح عقدة من ضمنها. وفي الحالة الثانية، فإن الأمر مرتبط بأولئك المسؤولين عن تطوير التكنولوجيا، ومدى التزامهم بالسياسات والمعايير المطلوبة؛ وهي التعامل المناسب مع البيانات وفرض سياسات صارمة على مستوى تطوير معايير الأمان وتشفير المعلومات (المفتاح العام، المفتاح الخاص، والمعلومات المحجوبة).
حتى عندما يكون هناك تضارب واضح بين ميزة عدم القابلية للتغيير، ومبدأ الحق في النسيان، إضافة إلى الحساسية العالية للمعلومات المجمعة عن المستفيدين، فإنه يجب النظر إلى أنه من الممكن من هذه الناحية المصالحة بين التكنولوجيا والقانون. فعلى سبيل المثال، يمكن تطوير آليات لتجنب حذف المعلومات والاكتفاء بتقييد الوصول لها. وعندما تتزايد المخاوف بشأن تجاوز قانون معين، فإنه من الضروري الذهاب لما هو أبعد من التفسير الحرفي للنص القانوني، والتفكير في المبادئ والمصالح التي يرجى حمايتها في كنف التعايش الاجتماعي السلمي.
تقسيم العمل لن يؤدي إلى رحيل البنوك بشكل كامل، إذ أن خبرة هذه المؤسسات في إدارة المخاطر مهمة جدا كما رأينا
مع كل هذه الخصائص تبدو البلوكتشين مثالية لتشارك المعلومات وتحويل الأصول الرقمية بطريقة سريعة وآمنة ويمكن تعقبها، وهذه التكنولوجيا لديها القدرة على تقديم فوائد هامة لقطاع العمل الإنساني. ومن المؤكد أنه إذا ظهرت بدائل أخرى أكثر فاعلية من التي تقدمها البنوك، فإنه يجب أخذها بعين الاعتبار. ولكن من الواضح أن البلوكتشين ليست هي الحل السحري، إذ أنه وراء هذه التكنولوجيا يوجد أناس يتفاعلون فيما بينهم بطرق مختلفة ولديهم مصالح متنوعة. ولا يوجد أي نظام يتمتع بالثقة والأمان بنسبة 100 بالمئة؛ إذ أن الأخطاء وعمليات التلاعب يمكن أن تأتي من خارج البلوكتشين وتؤثر على ثقة المشاركين. وهنا يبرز الدور المعقد للقانون، لتجنب تثبيط التكنولوجيا، وفي نفس الوقت الحرص على حماية الحقوق والمبادئ.
الخلاصة
كما أشرنا، فإن البلوكتشين تبدو قيّمة بشكل خاص عندما تستخدم لتعقب ملكية أشياء معقدة عبر الزمان، وتكون هناك مجموعات أو أطراف متعددة متدخلة في عملية الملكية، ولا توجد أي سلطة مركزية منصبة للقيام بهذا الدور، وتكون المجموعات أو الأطراف المتدخلة في حاجة للعمل التشاركي، وهناك رغبة في حفظ سجل أو إثبات حدوث التحويلات. وباعتبار كل المعطيات المذكورة، لا يمكننا التفكير في قطاع آخر سوف يستفيد من البلوكتشين أكثر من العمل الإنساني.
إن منظومة العمل الإنساني تعتمد على الثقة. ومن الواضح أن البلوكتشين ستلعب دورا مهما في تحسين هذا القطاع. ولكن تقسيم العمل لن يؤدي إلى رحيل البنوك بشكل كامل، إذ أن خبرة هذه المؤسسات في إدارة المخاطر مهمة جدا كما رأينا. ولكن قد يأتي الوقت الذي تتوسع فيه البلوكتشين لدرجة أن يصبح فيها دور المؤسسات المالية والرسوم التي تفرضها محدودا جدا.