بعد أيام قليلة من وفاة الدكتور محمد مرسي مغشيًا عليه في قاعة المحكمة في أثناء حضوره إحدى الجلسات في قضية “التخابر مع حماس”، باتت هناك شكوك وشبهات أن الرئيس المصري الأسبق، قد تعرض إلى ما يمكن تسميته بـ”الإماتة البطيئة” على يد أجهزة الأمن المصرية بإيعاذٍ من السلطات السياسية الحاكمة.
فخلال ست سنوات من الاحتجاز، حُرم الرجل البالغ من العمر 69 عامًا من حقه الطبيعي في التواصل الخارجي الكامل مع العالم، فلم يلق أسرته طوال هذه المدة إلا ثلاث مرات بحضور رجال الأمن، وفقد تدريجيًا اتصاله مع فريقه الدفاعي والهيئات القضائية التي تنظر في التهم الموجهة إليه بعد قرار عزله في أقبية زجاجية ومعدنية تعيق تفاعله السمعي والبصري داخل قاعات المحاكم، إلى حين عودته للحبس الانفرادي في سجن العقرب شديد الحراسة.
وبالتزامن مع هذا الحرمان، رفضت الأجهزة الأمنية الاستجابة إلى الطلبات المتكررة من السجين وأسرته بإدخال الأطعمة المناسبة لمرضى السكر وارتفاع الضغط أو عرْضه على مستشفى خاص خارج السجن على نفقته، وهو ما أدى إلى التفاقم التدريجي في مضاعفات هذين المرضين – اللذين يحتاجان عناية خاصة – وظهور أمراض جديدة في النظر والأعصاب والعظام والأسنان.
لم تقتنع أصوات كثيرة ومتنوعة برواية الموت البطيء وأشارت، تلميحًا وتصريحًا، إلى إمكانية تعرض الرئيس الأسبق إلى التصفية داخل محبسه، مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تطورت روايته من التشكيك في رواية الإهمال إلى الجزم بحدوث التصفية
هذه الحقيقة وثقها الرئيس الراحل بنفسه عبر عدد كبير من الاستغاثات بالهيئات القضائية التي يعرض عليها بدءًا من الـ7 من أغسطس/آب 2015 حتى الـ7 من مايو/آيار 2018، وحذر من خطورتها عددٌ من الكيانات القانونية والحقوقية المستقلة، كما ورد في التقرير الذي أصدرته منظمة “هيومن رايتس ووتش” عام 2016، الذي وصفت فيه ظروف الاعتقال في سجن العقرب بأنها “حياة القبور”، وتقرير اللجنة البرلمانية البريطانية، مارس/آذار2017، المؤلف من 53 صفحة الذي أشار صراحة إلى أن استمرار مرسي في هذه الظروف “قد يعجل بوفاته”، واستنادًا إلى أصدائها طالب مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإجراء تحقيق مستقل بشأن أسباب وفاة مرسي.
ومع ذلك فإن أصواتًا كثيرة ومتنوعة لم تقنعها رواية الموت البطيء وأشارت، تلميحًا وتصريحًا، إلى إمكانية تعرض الرئيس الأسبق إلى التصفية داخل محبسه، مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تطورت روايته من التشكيك في رواية الإهمال إلى الجزم بحدوث التصفية، والقيادي في حزب الحرية والعدالة ووزير التخطيط والتعاون الدولي الأسبق عمرو دراج الذي طالب بعرض الجثة على لجنة طبية محايدة قبل الدفن، والكاتب الصحفي الأردني ياسر الزعاترة وغيرهم.. فعلام استندت هذه الأصوات في هذا الادعاء؟ وإلى أي مدى يمكن الاعتداد بها؟
شهادة الرئيس المصري
ما لا يعرفه كثير من الناس أن نداءات الرئيس المصري الأسبق لم تكن مجرد استغاثات لنيل حقوقه القانونية في رؤية أسرته والتواصل مع دفاعه القانوني والحصول على الرعاية الطبية الملائمة لحالته، وإنما كان يحذر أيضًا من محاولات أمنية لاغتياله داخل محبسه في سجن العقرب، ففي الـ8 من أغسطس/آب 2015 أعلن مرسي أمام الفريق القضائي المشرف على قضية “تهريب الوثائق إلى قطر” امتناعه عن تناول الطعام المقدم من إدارة السجن منذ يومي الـ21 و22 من يوليو/تموز نفس العام، لأن تناوله هذا الطعام “كان سيؤدي إلى جريمة كبرى” على حد تعبيره، ومشيرًا في الوقت نفسه إلى تعرضه “لخمسة أحداث في محبسه مثلت تهديدًا مباشرًا على حياته” .
الكاتب الصحفي المقرب من جماعة الإخوان حمزة زوبع، في لقاء تليفزيوني لبحث هذه التصريحات، استبعد أن يكون الرئيس المصري قد اختلق هذه الوقائع خلافًا للحقيقة
ويبدو أن الرغبة في الخلاص من مرسي لم تفشلها محاولاته لفضحها، ففي تسريب صوتي من قاعة المحكمة نوفمبر/تشرين 2017 سعى مرسي إلى استجداء المحكمة لسماع أقواله في جلسة خاصة بخصوص تعرضه للتهديد المباشر من أفراد الأمن الموكل إليهم حمايته داخل محبسه، إلا أن المحكمة تجاهلت طلبه كالمعتاد.
الكاتب الصحفي المقرب من جماعة الإخوان حمزة زوبع، في لقاء تلفزيوني لبحث هذه التصريحات، استبعد أن يكون الرئيس المصري اختلق هذه الوقائع خلافًا للحقيقة، لأن مرسي حرص منذ مهلة الـ48 ساعة التي أعلنها وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي قبيل تنفيذ انقلابه، على تقديم نفسه بطلًا صامدًا في وجه الأجهزة المتآمرة عليه، وقد ظهر في أولى جلسات محاكمته على الإطلاق مرتديًا بدلته المدنية، رافعًا رأسه، كما لو كان هو من يحاكمهم وليس العكس، وهو في ذلك على النقيض تمامًا من الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي كانت محاكمته تمثل السردية المقابلة لمحاكمة مرسي، حيث كان ظهوره الدائم في المحاكمات مقترنًا بالسرير المتحرك فلا يتحرك إلا بمساعدة خارجية، مع حصوله على خدمة فندقية في فترة سجنه التي قضى جزءًا طويلاً منها في “المركز الطبي العالمي” التابع للقوات المسلحة، متنقلًا عبر مروحيات “الهليكوبتر” التابعة للشرطة المصرية.
ومن جهة أخرى، فإن مرسي، كان يكفيه الإشارة إلى تدهور حالته الصحية إذا كان مراده هو الحصول على الرعاية الطبية، بدلًا من إدخال نفسه في حسابات قد تعرضه لخطر حقيقي فعليًا من أفراد الأمن الذين قد ينتقمون منه في السجن لاختلاقه هذه الحوادث المخالفة للحقيقة.
لماذا قد يحاول السيسي التخلص من مرسي؟
في الحقيقة، لم يكن وصول عبد الفتاح السيسي تحديدًا ودون غيره إلى رئاسة مصر بانقلاب عسكري على رئيس ما بعد الثورة محض مصادفة، فمن جهة، بات معروفًا أن تصعيد السيسي كأبرز الأسماء المرشحة لخلافة المشير طنطاوي كان بتفاهم ضمني بين قادة المجلس العسكري في الفترة الانتقالية، نظرًا لصغر سنه واحتفاظه بهيبته – وغموضه – بعد احتراق كثير من الأعضاء في الصدام مع الشارع، ونبذها من الجماهير كما حدث مع معظم قادة المجلس، ومن جهة أخرى، فإن أباه الروحي الذي يدين له بالفضل في إبرازه، المشير طنطاوي قائد المجلس العسكري آنذاك، كان يعلم رغبته تجاه مسألة حكم مصر ويتبنى هذه الرغبة، وقد ظهرت العلاقة القوية بين السيسي وطنطاوي بوضوح في أكثر من مناسبة بعد الانقلاب قام السيسي خلالها باستدعاء القائد المحال للتقاعد، كنوع من التكريم أو لإرسال رسائل سياسية، مثلما استدعاه بعد اعتقال الرجل الثاني في المجلس العسكري سامي عنان، حينما حاول مزاحمة السيسي على الحكم في انتخابات الرئاسة عام 2014، كما صرح السيسي برغباته المكبوتة في الاستئثار بحكم مصر وأحلامه بتأسيس ملك شخصي تاريخي، في لقائه الصحفي المبكر مع رئيس تحرير جريدة “الأخبار” المقرب منه ياسر رزق.
وعلى الرغم من إنكار السيسي الدائم لهذه الرغبة وادعائه الزهد في السلطة منذ مشهد الإطاحة بمرسي وتنصيب رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسًا مؤقتًا للبلاد عندما أشار إلى استيعاب القوات المسلحة للفرق بين الاستدعاء لإنقاذ الوطن والاستدعاء للحكم والسياسة، فإن كل تحركاته الداخلية والخارجية، في السياسة والأمن والاجتماع والإعلام، لا يمكن تفسيرها أبدًا بمعزل عن هذه الرغبة التي لم يستطع عقله الباطن قمعها في بعض المناسبات التي شعر خلالها بالتهديد المباشر على حكمه، فأطلق تحذيراته من الاقتراب من السلطة على الملأ “إنتوا فاكرين إني هسيبها؟” و”اللي هيقرب منها هشيله من على وش الأرض”، التي قادته لاعتقال ثلاثة مرشحين سابقين للرئاسة: عبد المنعم أبو الفتوح وأحمد قنصوة وسامي عنان، واحتجاز المرشح المنافس لمرسي حينما حاول منازعته على الحكم عام 2014، أحمد شفيق.
هذه الشكوك المتناثرة تعاظمت بعد كشف برنارد باجوليه المدير العام السابق لجهاز المخابرات الفرنسي (DGSE)، تفاصيل مهمة متعلقة بالزيارة الإماراتية لمصر
وبحسب عمرو دراج وزير التخطيط والتعاون الدولي الأسبق، فإن حضور مرسي، في المشهد، ولو كان مسجونًا، يمثل تهديدًا رمزيًا دائمًا لهذه الرغبة الجامحة في الاستئثار بحكم مصر وقدحًا مستمرًا في كل محاولات تجميل النظام وإضفاء الصبغة الشرعية عليه، لما يمثله مرسي من حقيقة كونه أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا في تاريخ مصر، تمت الإطاحة به بانقلاب عسكري قام به وزيره سابق، خاصة أن الرئيس الأسبق ظل متمسكًا بشرعيته الانتخابية حتى يوم وفاته، مستنكرًا إجراءات الانقلاب العسكري، إذا شدد على أنه “من غير المعقول والمتصور إن رئيس الجمهورية يتقبض عليه وشخص يطلع يلغي الدستور”.
وتعد إزاحة مرسي النهائية عن المشهد خطوة متقدمة في سبيل تأكيد استحواذ السيسي، بعد إجراءاته الميدانية الأخيرة في إعادة تعريف القاهرة أمنيًا وسياسيًا بنقل كل مؤسسات الحكم إلى العاصمة الإدارية الجديدة محكمة التحصين، والتعديلات الدستورية التي تتيح له البقاء في الحكم حتى عام 2030 بسلطات مطلقة على القضاء والبرلمان.
أصابع أبو ظبي الخفية
في الـ16 من هذا الشهر، أي قبل وفاة مرسي بيوم واحد، التقى السيسي بوفد رسمي من الإمارات يرأسه وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد المعروف بدعمه المالي لحركة تمرد (واجهة المخابرات المصرية في قيادة التحركات الجماهيرية الميدانية التي استهدفت إسقاط حكم مرسي)، الذي يقول عنه الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، إنه أول من وقف في وجه دعمه لنظام مرسي بعد الانقلاب العسكري، حتى من قبل المسؤولين المصريين.
هذه الزيارة التي أثارت شكوكًا نابعة من معرفة حجم العداء الإماراتي للإسلام السياسي ودور أبو ظبي الممتد في دعم الثورة المضادة وإجهاض تجربة الربيع العربي، إلا أن هذه الشكوك من الزيارة، وحدها، ظلت نوعًا من السببية التزامنية القاصرة تفسيريًا بحيث لا يمكن التعويل عليها في إثبات تأثيرها على صناعة الأحداث.
ولكن هذه الشكوك المتناثرة قد تعاظمت بعد كشف برنارد باجوليه المدير العام السابق لجهاز المخابرات الفرنسي (DGSE)، تفاصيل مهمة متعلقة بالزيارة الإماراتية لمصر، فقد أشار باجولت صراحةً إلى احتمالية تورط شخصية أمنية إماراتية رفيعة المستوى – لم يعلن حضورها ضمن الوفد الإماراتي الرسمي – في عملية التخطيط لاغتيال مرسي داخل محبسه، على أن تتم الوفاة داخل قاعة المحكمة، حتى يبدو أن الوفاة تمت بصورة طبيعية دون أي تدخل خارجي، وهو مستشار الأمن الوطني ومدير عام الأمن الخارجي في الإمارات طحنون بن زايد.
ويذكر باجولت أن هذه الخطوة الإماراتية جرى منحها الضوء الأخضر من خلال الزيارة الخاطفة التي قام بها الحاكم الفعلي لدولة الإمارات، والشقيق الأكبر لـ”طحنون”، محمد بن زايد، إلى القاهرة منذ أسبوعين تقريبًا.
وعلى الرغم من الإنكار الإماراتي الشديد لهذه التهمة على لسان جمال السويدي، مدير مركز “الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية” المدعوم والمقرب من السلطات الإماراتية، إلا أن قيام أجهزة الأمن الإماراتية بعملية تصفية مشابهة لعملية تصفية مرسي بحق علياء عبد النور، الناشطة السياسية التي تم احتجازها في سجون أبو ظبي منذ عام 2015 على الرغم من معانتها الشديدة مع مرض السرطان، إلى أن قضت في المستشفى مايو/آيار الماضي، يرجح بشكل كبير – مع القرائن التي ساقها المسؤول الأمني الفرنسي البارز -، تورط أبو ظبي في التنسيق والتخطيط لجريمة اغتيال مرسي، خاصة أن المسؤول الأمني الفرنسي اسم مستقل معروف في عالم الأمن والمعلومات، وهو غير معني بحال بالعداء مع الإمارات في ظل علاقات إستراتيجية بين أبو ظبي وباريس، فضلًا عن دور الإمارات المثبت عالميًا في تقديم الدعم المالي واللوجيستي لكثير من العمليات الخاصة ذات الأهداف السياسية.
التعامل الطبي مع مرسي
“إن السلطات المصرية لديها فرصة رائعة لإثبات براءتها من دم مرسي وإحراج الرأي العام المضاد، عبر السماح للجنة دولية مستقلة بفحص الجثة، وإثبات أن الوفاة تمت بصورة طبيعية”.. ريس ديفيز خبير بريطاني في القانون الدولي.
الطبيب المصري يحيى غنيم، أكد استحالة الوفاة الآلية بالطريقة التي أشاعها النظام المصري من ناحية طبية لأن غيبوبة السكري، أكثر الأسباب المتوقعة للموت المفاجئ في حالة مرسي، تستغرق وقتًا طويلًا لا يقل عن أربع ساعات قبل أن تتسبب في وفاة المريض
أثارت الرواية الرسمية الصادرة عن مكتب النائب العام المصري بتاريخ الـ17 من مارس/آذار بخصوص الوفاة المفاجئة للرئيس الأسبق شكوكًا عن مدى مطابقتها للحقائق الطبية المعروفة عن أعراض الوفاة المفاجئة بالنظر إلى تاريخ مرسي المرضي، حيث ذهب بيان النائب العام إلى حدوث توقف فوري في العمليات الحيوية الضرورية للبقاء على قيد الحياة بمجرد سقوط مرسي مغشيًا عليه: “بتوقيع الكشف الطبي الظاهري، وجد أنه لا ضغط ولا نبض ولا حركات تنفسية وحدقتا العين متسعتان غير مستجيبتين للضوء والمؤثرات الخارجية”.
إلا أن الطبيب المصري يحيى غنيم، أكد استحالة الوفاة الآلية بالطريقة التي أشاعها النظام المصري من ناحية طبية، لأن غيبوبة السكري، أكثر الأسباب المتوقعة للموت المفاجئ في حالة مرسي، تستغرق وقتًا طويلًا لا يقل عن أربع ساعات قبل أن تتسبب في وفاة المريض حال عدم تلقيه أي إسعافات أولية، بينما الذبحة الصدرية، وهي احتمال أقل رجوحًا في حالة مرسي، تجعل المريض يتلوى ويصرخ من فرط الألم على حد تعبيره، وتسبق السكتة الدماغية أعراضٌ جوهرية كتدلي نصف الوجه عن النصف الآخر بينما يفقد المريض قدرته على التعبير الطبيعي ويصحبها فقد القدرة على رفع الأشياء البسيطة لتخدر نصف الجسم، وفي كل الحالات ما يفترض أن يحدث مختلف تمامًا عن الرواية الرسمية عن وفاة مرسي.
صحيفة “الإندبندنت” البريطانية أثارت شكوكًا أخرى بشأن تواطؤ رجال الأمن المرافقين لمرسي والموجودين في قاعة المحكمة، والتلكؤ المتعمد في إسعاف مرسي فور سقوطه، حيث أكدت الصحيفة نقلًا عن مصادر داخل المحكمة، أن رجال الأمن لم يبدوا أي اهتمام أو انفعال لسقوط مرسي مغشيًا عليه، كما لو كانوا على علم بما سيحدث أو أن الأوامر بالتحرك لم تكن قد وصلت بعد، ولم يبدأ تحركهم تجاه مرسي الذي سقط في أثناء توقف المحكمة للمداولة – كما ورد في بيان النائب العام – إلا بعد عشرين دقيقة من سقوطه، وقد عزز هذه الشكوك عن تواطؤ رجال الأمن، رفضهم التام لقيام أي من المسجونين السياسيين من ذوي الخلفية الطبية بالتدخل بالإسعافات الأولية الأساسية حتى وصول سيارة الإسعاف الحكومية، التي لم تصل إلا بعد نصف ساعة بحسب ما أوردت الصحيفة.
بالنسبة لكثير من المصريين، فإن الإعلام كان سلاحًا نوعيًا في التحريض ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين خلال عامهم اليتيم في الحكم، والتمهيد للانقلاب العسكري لاحقًا
ومع أن تحقيقًا دوليًا مستقلًا يقول إن وفاة مرسي في المحكمة هي وفاة مفاجئة – لم تتدخل فيها أيادٍ خارجية – لرجل بلغ من العمر 69 عامًا ويعاني من أمراض كثيرة، سيمنح النظام المصري مكاسب لا حصر لها في حربه الإعلامية والأخلاقية الممتدة ضد جماعة الإخوان المسلمين منذ أحداث الثلاثين من يونيو، إلا أن الدولة المصرية أصرت على سياسة الأمر الواقع واحتكار الرواية، وأخذت كل المطالب التي قدمت بإجراء تحقيق دولي في الوفاة إلى حيز السياسة، بما في ذلك الطلب الذي أعلنه المتحدث الرسمي باسم مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي اعتبرته الخارجية المصرية “تسييسًا متعمدًا لوفاة طبيعية” واتهمت تركيا بالوقوف وراء هذا الطلب الأممي، وهو ما جعل كثيرًا من المراقبين يتساءلون: بشكل مجرد، إذا كنتم لا تخفون شيئًا لم لا تحرجون المتربصين وتطمئنون أسرة الرئيس الأسبق بالسماح بتحقيق مستقل؟
التعامل الأمني مع الإعلام بعد الحادث
بالنسبة لكثير من المصريين، فإن الإعلام كان سلاحًا نوعيًا في التحريض ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين خلال عامهم اليتيم في الحكم، والتمهيد للانقلاب العسكري لاحقًا، وهو أداة مثالية تستخدمها السلطة الحاكمة لبث رسائلها لخصومها السياسيين منذ ظهور مصطلح “الأذرع الإعلامية” الذي دشنه اللواء عبد الفتاح السيسي إبان توليه حقيبة الدفاع، ومرورًا بتسريبات “الضابط أشرف” الذي كان يتواصل مع الإعلاميين والفنانين ليطلعهم على توجهات الدولة المصرية في الملفات الخارجية الشائكة، ووصولًا إلى استحواذ جهاز المخابرات العامة على المنصات الإعلامية والصحفية المهمة عبر شركة “إعلام المصريين”.
وفي ضوء هذه المعطيات، فسر كثير من المحللين إذاعة الإعلامي المصري المقرب من السلطة والمشتغل بفضائية “MBC مصر” التابعة للسعودية، عمرو أديب، حلقةً بعنوان “الموت المفاجئ”، قبل وفاة الرئيس الأسبق بيوم واحد، في برنامجه المخصص للـ”توك شو” أصلاً، أفرد خلالها المجال لآراء الأطباء ورجال الدين عن الموت المفاجئ، على أنها تمهيد وتهيئة للرأي العام المحلي لتقبل رواية الدولة عن وفاة مرسي المفاجئة، خاصة أن أديب هو الإعلامي الأكثر مشاهدةً في مصر والأعلى أجرًا بين كل الإعلاميين المحليين، فكتب ياسر الزعاترة الصحفي الأردني المختص بالشأن السياسي، على “تويتر” تعليقًا على هذه الحلقة: “هذه ليست مصادفة، ما حدث كان اغتيالًا ولم تكن وفاة طبيعية، لقد توقعنا ذلك منذ سنوات، اتركوا قصص الإهمال الطبي، الإهمال الطبي ينتج موتًا بطيئًا على الأرجح”.
الخصومة الشخصية بين مرسي و”إسرائيل” أقدم من فترة رئاسته وإن كانت قد تضخمت وتبلورت بعد اعتلائه سدة الحكم في مصر
بعد وفاة مرسي، بدت المعالجة الإعلامية المحلية في كل وسائل الإعلام، المقروءة والمكتوبة والمسموعة، ملتزمة بخط تحريري معين، فعرضت المنصات الرسمية وغير الرسمية خبر الوفاة في مساحة صغيرة لا تليق بأهمية الخبر ومكانة الشخص موضوع الخبر، كما اتفقت هذه المنصات على تقديم الخبر بالإشارة إلى “محمد مرسي” دون أي لقب تعريفي يسبق الاسم، مع الالتزام الحرفي برواية الدولة عن تقديم الرعاية الطبية الكاملة لمرسي في أثناء احتجازه في السجن وملابسات الوفاة، وهو ما فتح مجالاً واسعًا لتساؤلات النشطاء والمدونين عن حجم التدخل الحكومي في السياسات التحريرية للإعلام وما إذا كانت الدولة شريكة فعلاً برواية مصنوعة أمنيًا عن وفاة 0321.مرسي وليس مجرد مبالغات من أنصاره، حتى أخطأت مذيعة في قناة “CBC EXTRA” المملوكة لأحد رجال الأعمال المعروفين بقربهم من النظام، وقرأت رواية الدولة عن الوفاة مذيلةً بعبارة “تم الإرسال من جهاز سامسونج” بما يعني أن الخبر لم يتم تحريره وصياغته داخل القناة، وإنما تم توزيعه من جهةٍ خارجية على طريقة “الضابط أشرف”.
إشراك “إسرائيل” في مشهد الوفاة
“ضجيج السيارات، إن تأثير وفاة مرسي في الشارع المصري لا يشبه ضجيج السيارات أبدًا وإنما يشبه سكون الماء”.. روعي كايس، صحفي “إسرائيلي” من القاهرة.
الخصومة الشخصية بين مرسي و”إسرائيل” أقدم من فترة رئاسته وإن كانت قد تضخمت وتبلورت بعد اعتلائه سدة الحكم في مصر، ففي يناير/كانون الثاني عام 2013، نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية تقريرًا مطولًا عن جذور هذه الخصومة وأشكالها، عرضت خلاله مواقف مرسي – وقت أن كان عضوًا في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين – الرافضة لمبدأ حل الدولتين باعتبار أن هذه الأرض من حق الفلسطينيين وحدهم، وتحريضه على المقاطعة السياسية والاقتصادية لدولة الاحتلال، واتهاماته السلطة الفلسطينية بالعمالة لأمريكا “وإسرائيل”.
حيث اعتبرت الصحيفة هذه التصريحات قناعات نظرية استند إليها مرسي في تحركاته العملية ضد العدوان الذي شنته “إسرائيل” على قطاع غزة نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، حينما حذر “إسرائيل” من خطورة الاستمرار في العدوان مستحضرًا سرديات تاريخية عن “صلاح الدين” وأعلن فتح المعابر بين مصر وغزة، وسحب السفير المصري من “تل أبيب”، وإرسال وفد حكومي يتقدمه رئيس الوزراء هشام قنديل لتقديم الدعم السياسي إلى غزة.
حمود حافظ، الباحث المغاربي في العلوم السياسية، اعتبر أن دخول الإعلام “الإسرائيلي” الرسمي إلى منطقة حرجة وحساسة رمزيًا كقبر مرسي، رغم التشديدات الأمنية المكثفة التي وصلت إلى منع أسرته من كل حقوقهم القانونية والأخلاقية تجاه والدهم المتوفى، هي قرينة دالة على الاغتيال
وقد ألقت هذه الخصومة بظلالها على أجواء ما بعد وفاة مرسي بشكل واضح، عندما حرصت القيادتان السابقة والحاليّة لحركة حماس، ممثلتين في خالد مشعل من الدوحة وإسماعيل هنية من غزة، على تأبين مرسي والإشادة بدعمه لمقاومة غزة خلال مدة حكمه التي أدت إلى “قلب موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط” بحسب ما ذكر خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حتى عام 2014.
ويصف عدنان أبو عامر الخبير في الشؤون “الإسرائيلية” أثر خبر وفاة مرسي على الفلسطينيين قائلًا: “اعتبر الفلسطينيون في غزة أنهم بوفاة مرسي، فقدوا رئيسًا مصريًا أحبهم وأحبوه، وشكّل وجوده في قصر الرئاسة عقبة أمام نجاح المخططات الإسرائيلية ضدهم، وما زالوا يذكرون نداءاته من داخل القفص الزجاجي في محاكمته ينادي “لبيك يا غزة.. لبيك يا غزة”.
ورغم أن السيسي، المنقلب على مرسي، خلال فترة حكمه الممتدة لأكثر من خمس سنوات كان يمثل الموقف المقابل لموقف مرسي تمامًا في هذه القضية، حيث كان أقرب ما يكون إلى “إسرائيل” قولًا وفعلًا وأبعد ما يكون عن المقاومة قولًا وفعلًا، وفي خلال رئاسته عام 2014 شنت “إسرائيل” أطول حروبها في تاريخ الصراع العربي “الإسرائيلي” على غزة، حرب الجرف الصامد التي استمرت 51 يومًا، لم يكن أحدٌ ليتصور أن تصل “إسرائيل” إلى قبر محمد مرسي عبر روعي كايس مراسل هيئة البث الرسمية (كان) في الوقت الذي منعت أسرة مرسي نفسها من دفنه في مسقط رأسه (حسب وصيته) وتشييعه في جنازة شعبية تليق به أو حتى إقامة عزاء في منزله، نظرًا للتشديد الأمني الذي وصل إلى تحليق المروحيات العسكرية فوق قبره في أثناء الدفن.
محمود حافظ الباحث المغاربي في العلوم السياسية، اعتبر أن دخول الإعلام “الإسرائيلي” الرسمي إلى منطقة حرجة وحساسة رمزيًا كقبر مرسي، المتهم في قضية “التخابر مع حماس”، في ظل ترتيبات إقليمية لتغيير الوضع التاريخي في فلسطين، رغم التشديدات الأمنية المكثفة التي وصلت إلى منع أسرته من كل حقوقهم القانونية والأخلاقية تجاه والدهم المتوفى، هي قرينة دالة على الاغتيال، تمامًا كما حدث مع الراحل ياسر عرفات الذي قيل إنه مات في المستشفى بالخارج ثم تبين لاحقًا اغتياله بمادة كيميائية لا تتم صناعتها إلا في “إسرائيل”، مرجحًا أن تكون موجة الاغتيالات السياسية التي ضربت العالم العربي في الفترة الأخيرة، كما حدث مع جمال خاشقجي وعلياء عبد النور، مقدمةً لموجات أخرى قادمة قد تطال أسماء معارضة بارزة كالشيخ سلمان العودة والعمري وغيرهم.
الوقت والطريقة
“لقد كان هذا الوقت ملائمًا للغاية للتخلص من مرسي”.. خالد فريد سلام، معارض مصري.
تزامنت حالة الوفاة مع وجود السيسي، الذي ستتجه إليه الأنظار بطبيعة الحال، خارج البلاد في جولة دبلوماسية بأوروبا، لن يقطعها إلا من أجل “لقطة” جديدة يعيد عبرها تقديم نفسه للعالم
بالنسبة لشخص يريد إزاحة مرسي من المشهد المصري نهائيًا بشكل عمدي، فإن اغتياله في محبسه لم تعد فكرة ملائمة بعدما أعلن مرسي نفسه توجسه منها وإحباطها أكثر من مرة، خاصة أن الرصيد الأخلاقي السيء جدًا للنظام ربما لن يمنحه القدر الكافي من مقاومة الطلبات الدولية التي ستنهال عليه لإجراء تحقيق دولي مستقل، كما أن هذه الوفاة قد تورطه في أزمات دبلوماسية تعيد الحديث عن شرعيته وقطع إمدادات السلاح الدولية كما حدث في جريمة اغتيال “جمال خاشقجي”، ومن جهة أخرى، فإن إعدامه قد يؤدي إلى نتيجة مماثلة على المستوى الدولي، خاصة أن، مرسي الذي لم يحكم سوى عام، لم يتورط في عمليات قتل ممنهجة توجب الإعدام في حال إثباتها، وإنما كان يحاكم في قضايا سياسية مشكوك في منطقها، كقضية التخابر مع حماس والهروب من سجن وادي النطرون، فضلًا عن أن إعدامه سيعيد إنتاج سردية بطولة واستشهاد ملحمية عانى من آثارها النظام العسكري من قبل بعد إعدام سيد قطب في الحقبة الناصرية، فلم يكن هناك طريقة للتخلص من مرسي أفضل من وفاته خارج محبسه، داخل ساحة القضاء، وسط زملائه، كما يؤكد الباحث المصري أنس حسن.
وقد تزامنت حالة الوفاة مع وجود السيسي، الذي ستتجه إليه الأنظار بطبيعة الحال، خارج البلاد في جولة دبلوماسية بأوروبا، لن يقطعها إلا من أجل “لقطة” جديدة يعيد عبرها تقديم نفسه للعالم، عندما يلقي الكلمة الافتتاحية لبطولة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم التي تستضيفها مصر حاليًّا، حيث تتكثف رمزيًا كل مظاهر الاستقرار والنجاح والالتفاف الجماهيري حول القيادة، لتفقد وفاة مرسي زخمها وتمر مرور الكرام كأي حدث عابر تضخم (تريند) ثم استجاب لقانون منحنى الصدمة التي تبدأ بقوة ثم تخفت مع الوقت.
وقد زاد هذا التفسير قوة، سعي مصر بكل ما أوتيت من نفوذ سياسي إلى تنظيم هذه البطولة، رغم تنظيمها من قبل أكثر من مرة، ورغم ضيق الوقت الشديد الذي أدى إلى ارتباك المسابقة المحلية التي لم تنته إلى الآن، وقد أشار السيسي نفسه إلى هذا البعد الرمزي في تنظيم البطولة عندما التقى بلاعبي المنتخب قبل حفل الافتتاح: “أهم من اللعب عندي وعند كل المصريين، إزاي هنقدم نفسنا للناس اللي هتشوفنا من كل العالم”، لنصبح في حال استمرت الدولة في رفض إجراء تحقيق دولي مستقل عن أسباب الوفاة، يرجح عمرو دراج أن الدولة المصرية سترفض ذلك -، كما يبدو من هذه المعطيات، أمام فصل جديد من فصول 3 يوليو الرامية لتأبيد السيسي في الحكم وإنهاء جماعة الإخوان، بدعم إماراتي وإشراف إسرائيلي وتنفيذ مصري!