أسفرت الانتخابات الرئاسية التي جرت في موريتانيا، أول أمس السبت، عن فوز مرشح الأغلبية الحاكمة محمد ولد الغزواني، من الجولة الأولى، حيث حصل على 52% من أصوات الناخبين، وفق ما أعلنه رئيس اللجنة المستقلة للانتخابات، محمد فال ولد بلال، في مؤتمر صحفي عقده مساء الأحد.
وحل خلف الغزواني في الانتخابات التي وصفها رئيس اللجنة بأنها “فتحت الباب أمام أول تناوب سلمي على السلطة في تاريخ البلد”، الناشط الحقوقي المناهض للعبودية بيرام ولد الداه أعبيد بحصوله 18.58% من الأصوات، وجاء في المركز الثالث رئيس الوزراء السابق سيدي محمد ولد بوبكر، المدعوم من الإسلاميين، بحصوله على 17.58% من الأصوات، فيما حل رابعًا الصحفي كان حميدو بابا بإجمالي 8.71%، بينما حصل أستاذ التاريخ محمد ولد مولود على 2.44% من الأصوات.
وبلغت نسبة المشاركة 62.66% من الناخبين، البالغ عددهم الإجمالي 1.5 مليون ناخب يحق لهم التصويت من بين 4 ملايين نسمة عدد سكان موريتانيا، مقارنة بنسبة مشاركة قدرها 56.4% في انتخابات 2014، تلك الانتخابات التي فاز فيها الرئيس المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز بنسبة 82%.
بهذه النتيجة يواصل العسكريون فرض هيمنتهم على كرسي الرئاسة في موريتانيا عبر بوابة الانقلابات، فمنذ استقلالها عام 1960 تقلد زمام الحكم فيها عشرة رؤساء، اثنان منهم فقط مدنيان، أما الثمانية الباقون فهم قادة سابقون في الجيش، قدموا إلى الحكم عقب انقلابات عسكرية.
استباق إعلان حملة الغزواني بالفوز في السباق الانتخابي قبل الانتهاء من عملية الفرز والإعلان رسميًا عن طريق اللجنة المنظمة أثار الشكوك لدى بقية المرشحين الذين رأوا في ذلك مخالفة جسيمة، تقوض مصداقية العملية الانتخابية وتضع نتائجها على المحك
فوز متوقع
لم تخرج النتائج المعلنة عما ذهبت إليه توقعات المحللين ومراكز استطلاعات الرأي، إذ كانت الأجواء جميعها تشير إلى فوز ولد الغزواني الذي يحظى بدعم كبير من معظم الأحزاب السياسية وصل عددها تقريبًا 20 حزبًا من الأحزاب الداعمة للنظام السابق وفق ما أشار إليه المحلل السياسي الهيبة ولد الشيخ سيداتي.
ولد سيداتي في حديثه لـ”الأناضول” لفت إلى أن قوة ولد الغزواني تكمن في كونه مدعومًا، من السلطة والمجتمع التقليدي الذي يتحكم في اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات وفي جميع مفاصل الإدارة والمال السياسي، منوهًا إلى أنه ولأول مرة في البلاد تشكل حملة من رجال الأعمال داعمة لأحد المرشحين بشكل علني.
وأضاف المحلل الموريتاني “لقد تم تشكيل حملة خاصة من رجال الأعمال بهدف الدعاية لمرشح السلطة ولد الغزواني، وكلف بتنسيق هذه الحملة رئيس الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين (غير حكومي) وبعضوية المكتب التنفيذي للاتحاد”، هذا بخلاف دعمه من جميع رؤساء المجالس الجهوية (مجالس الجهات) وغالبية المجالس المحلية وأكثرية أعضاء البرلمان، بالإضافة لكونه مدعومًا من جنرالات الجيش.
علاقة قوية تربط بين ولد الغزواني والرئيس المنتهية ولايته ولد عبد العزيز
طعن في النتائج
استباق إعلان حملة الغزواني بالفوز في السباق الانتخابي قبل الانتهاء من عملية الفرز والإعلان رسميًا عن طريق اللجنة المنظمة أثار الشكوك لدى بقية المرشحين الذين رأوا في ذلك مخالفة جسيمة، تقوض مصداقية العملية الانتخابية وتضع نتائجها على المحك، وهو ما أثار موجة من الاحتجاجات على خلفية استباق النتائج الرسمية.
المرشحون الأربع عن أحزاب المعارضة (الخاسرون)، أعلنوا في مؤتمر صحفي، أن “خروقات وتجاوزات” تخللت العملية الانتخابية التي لم يكتمل فرز نتائجها بشكل كامل، من اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، قائلون: “النظام يحاول الالتفاف على انتصار الشعب الموريتاني، وإن الانتخابات كانت تتجه نحو التغيير والقطيعة مع النظام الحاليّ”.
كما رفضوا إعلان ولد الغزواني، فوزه في الانتخابات فجر الأحد، معتبرين أنه “إعلان كاذب ولا تزال 20% من النتائج قيد الفرز، وأنه لم يحصل على النسبة التي تخوله الحسم”، بينما علق المرشح المعارض ولد بوبكر بأن هناك “مخالفات عديدة أطاحت بمصداقية الانتخابات”، مضيفًا “نحن نرفض نتائج الانتخابات ونعتبر أنها لا تعبر بأي طريقة عن إرادة الشعب الموريتاني”، فيما شهدت العاصمة نواكشوط صدامات واحتجاجات تعبيرًا عن رفض النتائج التي أسفرت عن فوز الجنرال السابق بالرئاسة.
الصحيفة وصفت ما حدث بأنه “تناوب سلمي للسلطة” يأتي في إطار رغبة العسكر في الهيمنة على كرسي الحكم بصرف النظر عن هوية من يجلس عليه، فالأمر بات أقرب إلى الخلافة السلمية بين رجلين، وإن كانا مختلفين في الطبع، إلا أنهما لم ينفصلا منذ لقائهما في المدرسة العسكرية
العديد من التقارير أشارت إلى إحراق أنصار المرشح بيرام ولد الداه أعبيد عدد من الإطارات في بعض مقاطعات العاصمة، وتحدثت مصادر عن إضرام النار في السيارات وتخريب الممتلكات، في حين تدخلت القوات الأمنية للسيطرة على الوضع وتفريق المتظاهرين، وقطعت السلطات الإنترنت عن الهواتف المحمولة.
وعلى إثر هذا التصعيد استدعى وزير الداخلية أحمدو ولد عبد الله مرشحي المعارضة الأربع، وتحدثت مصادر عن أنه طلب منهم توجيه مناصريهم إلى ضرورة التهدئة، حيث أعرب بعضهم عن الاستجابة وطالب أنصاره بالهدوء فيما لم يحضر آخرون، هذا في الوقت الذي تتواصل فيه الاحتجاجات.
Officially Ghazuani new Mauritania president.#موريتانيا_تنتخب pic.twitter.com/z9SH9ESVX9
— Ahmed Alien (@AhmedAlien3) June 23, 2019
الجيش صانع الحكام
تحت عنوان “الخلافة بالتراضي في موريتانيا” أشارت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية في تقرير لها أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة تفتح فصلاً جديدًا من التاريخ الذي كتبه اثنان من كبار الضباط محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد الغزواني، فكلاهما كانا وراء الانقلاب الذي أوصل العقيد الراحل أعل ولد محمد فال إلى السلطة عام 2005 الذي ترأس فترة انتقالية تبعتها انتخابات رئاسية أدت بسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله كأول رئيس مدني منتخب عام 2007.
غير أن سرعان ما انقلب عليه الجنرال محمد ولد عبد العريز عام 2008، قبل أن يتم انتخابه رئيسًا للدولة عام 2009، ثم إعادة انتخابه عام 2014، وكان محمد ولد الغزواني الذي أصبح بدوره جنرالًا إلى جانبه دائمًا كقائد للأركان، ثم في الآونة الأخيرة وزير للدفاع، إلى أن اقتحم المعترك السياسي لهذه الانتخابات الرئاسية
الصحيفة وصفت ما حدث بأنه “تناوب سلمي للسلطة” يأتي في إطار رغبة العسكر في الهيمنة على كرسي الحكم بصرف النظر عن هوية من يجلس عليه، فالأمر بات أقرب إلى “الخلافة السلمية” بين رجلين، وإن كانا مختلفين في الطبع، إلا أنهما لم ينفصلا منذ لقائهما في المدرسة العسكرية.
منذ انقلاب ولد عبد العزيز في 2008 على الرئيس المدني الثاني الذي عرفه الموريتانيون بعد ولد داداه لم تهضم المعارضة استمرار الجنرال المنقلب في الحكم، وغالبًا ما استخدمت سلاح المقاطعة ورفضت على وجه الخصوص المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لعام 2014، لكن جميع أحزابها وشخصياتها الرئيسية عادت إلى اللعبة الديمقراطية في الانتخابات التشريعية الأخيرة في سبتمبر/أيلول 2018.
النظام العسكري في موريتانيا فطن إلى تململ المعارضة من سبة الانقلاب التي باتت تطارد الجنرال المنتهية ولايته فكان لا بد من تقديم وجه جديد، المهم أن يكون ولاؤه الأول للمؤسسة العسكرية، ومن ثم وقع الاختيار على الصديق المقرب من ولد عبد العزيز للقيام بهذا الدور في هذا التوقيت.
ارتفاع حجم المشاركة في الانتخابات الحاليّة مقارنة بـ2014
وبحسب “لوفيغارو” فإن الغزواني يتسم باللباقة واللطف أكثر من ولد عبد العزيز، وهو ما أدى إلى توسيع إطار الأغلبية الرئاسية، حيث انضمت إليه شخصيات عديدة من مختلف أحزاب المعارضة خلال هذه الحملة، هذا بخلاف ذكائه الواضح في العزف على واحد من الموضوعات ذات الأهمية الكبرى لدى الموريتانيين ليكون رأس حربة حملته الانتخابية، وهو التعليم، حيث وعد بإعادة بناء “مدرسة عامة جمهورية” قادرة على تقليص الفجوة بين السكان “البيظان” (العرب والبربر) وتكتل الفقراء من “الحراطين” وهم العبيد السابقين، بالإضافة إلى الزنوج من (السونينكي والفُلان) خاصة.
ينظر إلى ولد الغزواني على أنه استمرار للحكم الحاليّ، فبجانب كونه رفيق درب الرئيس السابق، فإنه يعد “أفضل خيار لاستمرارية هذا المشروع الوطني الرائد، مشروع الأمن والديمقراطية والتنمية الذي أسسه وقاده فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد عبد العزيز” بحسب ما قاله المتحدث باسم الحكومة سيدي محمد ولد أمحم، الذي كان يتزعم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم في يناير الماضي.
رغم ما يتمتع به ولد الغزواني من ذكاء ومرونة مقارنة بسلفه، فإن توقع إحداث تغييرات مؤثرة في خريطة السياسات الموريتانية وتحالفاتها الخارجية أمر صعب التكهن به في الوقت الراهن وإن كانت خطوة مستبعدة نسبيًا
إلا أنه وفي المقابل يذهب المحلّل السياسي محمد المأمون ولد البار، إلى أن “العسكري يبقى عسكريًا وإن تخلّى عن بزته”، مشيرًا في تصريحاته لـ”بي بي سي” إلى أن الأمر “ليس سوى لعبة كراسي”، قائلاً: “ولد الغزواني شخصية غير معروفة، سياسيًا، وكتومة”، لكنه يعترف بنجاحه كقائد عسكري، ولا يخفي خشيته من “تأييد حكم قادة عسكريين للبلاد”.
فيما يرى أستاذ الفلسفة السياسية البكاي ولد عبد المالك، أن عوامل أخرى تجعل من “الجيش صانع قادة موريتانيا”، إذ يرى أن البلاد تفتقر للمقومات الاجتماعية التي تحصن النظام السياسي من تدخل جهات موازية للدولة في صنع القرار، موضحًا أن موريتانيا لا تزال في “مرحلة ما قبل الدولة”، بالنظر إلى ثقل “القبيلة والطرق الصوفية”، إلى جانب “غياب دولة مركزية صلبة بالنظر إلى اتساع رقعة البلاد وترامي التجمعات السكنية فيها”.
لا تغيير في السياسات
استمرارية سيطرة جنرالات الجيش فوق كرسي الحكم في موريتانيا لا يشي بأي تغيير ملحوظ في السياسات العامة والتوجهات الخارجية، خاصة أن المؤسسة العسكرية هناك تعتمد في المقام الأول على الدعم المقدم لها من كل من أمريكا وفرنسا خلال السنوات الأخيرة، هذا الدعم الذي ساهم بشكل كبير في تثبيت أركان السلطة الحاكمة.
أستاذ الفلسفة السياسية البكاي ولد عبد المالك، لا يرى في ضوء ما أفرزته نتائج الانتخابات الأخيرة أي تغيير جذري في المعادلة الموريتانية، بالنظر إلى ضرورة التوفيق بين نظام سياسي حديث في بيئة تقليدية، لافتًا إلى أن شركاء موريتانيا التقليديين يعون جيدًا تعقيدات التركيبة الأفقية للمجتمع الموريتاني، في إشارة إلى الفوارق بين مختلف فئات المجتمع الاقتصادية والعرقية واللغوية.
وأضاف أن هذا التعقيد الواضح في الخريطة السياسية والمجتمعية هو ما يجعل من المؤسسة العسكرية ضامنًا حقيقيًا للاستقرار في البلاد، مستدركًا أن الجيش في حد ذاته يخضع لتأثيرات التركيبة الاجتماعية، “وهو ما يجعلني كباحث لا أخاطر بالقول إن عهد الانقلابات قد ولّى وانتهى”.
وفي المجمل، ورغم ما يتمتع به ولد الغزواني من ذكاء ومرونة مقارنة بسلفه، فإن توقع إحداث تغييرات مؤثرة في خريطة السياسات الموريتانية وتحالفاتها الخارجية أمر صعب التكهن به في الوقت الراهن وإن كانت خطوة مستبعدة نسبيًا في ظل تطابق الفكر والرؤى بين ولد عبد العزيز ووزير دفاعه السابق، شريكه الأساسي في معركة الانقلابات الطويلة على مدار العقدين الأخيرين.