بدأ العمل على إنشاء حزب سياسي جديد لعائلة بوتفليقة مباشرة بعد تولي “الأخ الأكبر” عبد العزيز الحكم بمباركة العسكر سنة 1999، وواجهت الخطة معارضة شديدة داخل سرايا الحكم لأنها تخل بالتوازنات القائمة حينها بين الرئاسة والجيش والمخابرات، فأجهض مشروع الحزب في مهده، ولكنه عاد بقوة بعد تعديل الدستور وفتح عهدات الرئيس عام 2009، غير أن انفجار الربيع العربي سنة 2011، جمده مجددًا، وتداعى الأضداد للتحالف من أجل حماية النظام من خطر الانجراف في طوفان البوعزيزي.
فخاض النظام بأجنحته الثلاث معركة سياسية وأمنية واقتصادية مريرة، للحيلولة بين الجزائريين والشارع، مطلقًا وعودًا بالإصلاح الشامل، تحت غطاء هائل من الإنفاق الاجتماعي لإسكات أنين البطون الجائعة، فكلل ذلك المجهود بالنجاح إلى حين، إذ أعاد بوتفليقة وشركاؤه التحكم بزمام الشارع المنفلت وترويض الرأي العام المشحون، غير أن الاستقرار المحقق على صعيد الشارع الشعبي، أحيا الصراع المؤجل داخل أروقة سرايا الحكم.
تيقنتورين وبداية كسر العظام
مباشرة بعد حادث تيقنتورين الشهيرة عام 2013، الذي شهد هجومًا إرهابيًا على قاعدة بترولية في الصحراء الجزائرية، تحرك جناح الرئاسة بقيادة سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس، متحالفًا مع جناح قائد الأركان أحمد قايد صالح، لإزاحة الرجل القوي في نظام الحكم الجزائري، قائد المخابرات لأكثر من 24 سنة، الجنرال محمد مدين المدعو توفيق، فكانت ضربة هائلة، بسط بها الشقيق الطامح لخلافة أخيه نفوذه بشكل أكبر على أجهزة الدولة ومؤسساتها وأحزابها، وأطلق أكثر فأكثر أيدي رجال أعماله في تشديد قبضتهم على دواليب الاقتصاد الجزائري.
لعبت الجهوية دورًا محوريًا في رسم معالم الصراع وتحقيق لحظات التوازن في مشهد السلطة الجزائرية منذ الاستقلال
الطموح المتنامي لسعيد بوتفليقة، لإزاحة كل من وكل ما يعترض طريقه نحو ترسيم نفسه رئيسًا للجزائر، دفعه نحو التفكير في التخلص من حليفه في القضاء على جهاز المخابرات وتفكيكه، فعمل منذ العام 2015 على إزاحة القايد صالح من قيادة الجيش ومحاصرته قبل ذلك برجال ثقة من أبناء منطقة تلمسان – التي ينحدر منها بوتفليقة – والغرب الجزائري كالجنرال عبد الغني الهامل مدير عام الشرطة والجنرال مناد نوبة قائد سلاح الدرك الوطني.
الجهوية إبرة ميزان السلطة في الجزائر
لعبت الجهوية دورًا محوريًا في رسم معالم الصراع وتحقيق لحظات التوازن في مشهد السلطة الجزائري منذ الاستقلال، وقد كان مما يلمز نظام بوتفليقة، أنه ارتكز على تفضيل أبناء الغرب الجزائري، خاصة مسقط رأسه ولاية تلمسان، في المناصب والمسؤوليات الثقيلة والمفتاحية في الجيش والإدارة، مقابل إهمال أبناء منطقة الشرق وتهميشهم، بل إن سهام الانتقاد الصادرة من هذه الرؤية، اتهمت نظام بوتفليقة بتنمية الغرب ودعمه بالمصانع والاستثمارات على حساب ولايات الشرق.
أحاديث من هذا القبيل، لم يقتصر تداولها على الطبقات الشعبية من المواطنين، إنما تعاطتها مجالس النخب أيضًا، فكانت ورقة تأثير واستمالة مهمة في مرافعات سياسيين وضباط عسكريين، كانوا يبحثون عن نصيب ودور للشرق في حكم الجزائر، وهو ما دفع إلى ساحة الأحداث بجماعة سرية سمتها دوائر الإعلام في الجزائر “جماعة عنابة”، يقودها القايد صالح رئيس أركان الجيش.
عرفت الجزائر لحظة استقلالها صراعًا بين جماعتين: جماعة وجدة أو تلمسان بقيادة الهواري بومدين، وجماعة تيزي وزو بزعامة المعارض التاريخي حسين أيت أحمد، وانتهى الصراع حينها باستيلاء جماعة وجدة على السلطة بالقوة.
جماعة عنابة أو جماعة الشرق عمومًا، استغلت أمثل استغلال فضيحة 7 قناطير من الكوكايين كانت ستدخل الجزائر عبر ميناء وهران شهر مايو من العام 2018، فأوقعت بأهم جنرالات بوتفليقة على رأسهم قائد جهاز الأمن الجنرال الهامل وقائد الدرك الوطني اللواء مناد نوبة
“جماعة عنابة” نسبة إلى المدينة العريقة على الساحل الشرقي للجزائر، ومقر سكن عائلة القايد صالح، تضم بين عناصرها حسب ما توافر من معلومات، وزراء سابقين كوزير النقل الأسبق بوجمعة طلعي والوزير محمد الغازي، والتحق بها أيضًا الأمين العام الأسبق للحزب الحاكم عمار سعيداني، ما استدعى يومها إبعاده فجأة عن أمانة الحزب سنة 2016، وللجماعة رجال أعمال كبهاء الدين طليبة ومحمد جميعي وآخرين، وتضم كذلك أهم قادة الأسلحة والنواحي في الجيش، خاصة اللواء سعيد شنقريحة قائد القوات البرية المنحدر من بسكرة وقائد قوات الدفاع الجوي اللواء عمراني المنحدر من خنشلة، بينما كان السعيد بوتفليقة يحتفظ بولاء قائد الدرك الوطني اللواء بلقصير وقائد الحرس الجمهوري اللواء بن علي بن علي المنحدرين من الغرب الجزائري.
جماعة عنابة أو جماعة الشرق عمومًا، استغلت أمثل استغلال فضيحة 7 قناطير من الكوكايين كانت ستدخل الجزائر عبر ميناء وهران شهر مايو من العام 2018، فأوقعت بأهم جنرالات بوتفليقة على رأسهم قائد جهاز الأمن الجنرال الهامل وقائد الدرك الوطني اللواء مناد نوبة وقائد الناحية العسكرية الأولى التي تتبعها العاصمة اللواء أحمد شنتوف وقائد الناحية العسكرية لوهران سعيد باي، تغييرات عززت كثيرًا من قوة وموقف جناح جماعة عنابة، في مقابل إضعاف جماعة تلمسان، في حلقة صراع جديدة لمسلسل قديم عنوانه الصراع الجهوي.
الـ22 من فبراير.. الضيف الثقيل
أخرج عبد المالك سلال الممقوت شعبيًا ولكنه رجل ثقة بوتفليقة من الظل الذي دخله سنة 2017، ليتولى سنة 2019 إدارة حملة الرئيس بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، ذات المهمة التي تولاها خلال العهدتين السابقتين، كان ذلك مؤشر ثقة طاغية صار عليها معسكر شقيق الرئيس على الأقل في الذهاب إلى فترة رئاسية جديدة، دون أي منغصات، وبنفس الطاقم الحزبي الموالي له، وذات الخليط الهجين من المنظمات والجمعيات ورجال المال ورجال الدين وأصحاب المصالح بمختلف مستوياتهم داخل وخارج السلطة.
لدى البعض نظرية تقول إن كل الذي يحدث في الجزائر، مخطط له سلفًا، وجناح قيادة الأركان حضر لخروج الشعب في مسيراته واحتضنها ولم يواجهها بأي شكل من أشكال القمع
تعاملت الحكومة في خطابها الرسمي وعلى أفواه أحزاب الموالاة بكثير من السخرية والتعالي، مع دعوات التظاهر ضد فترة رئاسية جديدة لبوتفليقة، ولكن بوادر الغضب المتنامي بدأت في الظهور، مع خرجات المرشح المثير للجدل رشيد نكاز الذي صار يتنقل عبر المدن الجزائرية ويجمع حوله مجموعات بأعداد متزايدة من الشباب، بشكل اعتبره البعض بروفات وتسخينات للخروج الأكبر الأول من حجمه للشعب الجزائري في 22 من فبراير 2019، حدث بقدر ما كان متوقعًا في توقيته ومطالبه، بقدر ما كان مباغتًا ومفاجئًا في حجمه وانتشاره، ثم مذهلاً، يكاد يكون معجزًا في سلميته وتحضره، فالأجنحة المتصارعة على السلطة وجدت نفسها أمام ضيف ثقيل غير متوقع، وصفه القايد صالح نائب وزير الدفاع، بمظاهرات “المغرر بهم”.
الشعب بين عصابتين
لدى البعض نظرية تقول إن كل الذي يحدث في الجزائر، مخطط له سلفًا، وجناح قيادة الأركان حضر لخروج الشعب في مسيراته، واحتضنها ولم يواجهها بأي شكل من أشكال القمع، وهذا من أجل إزاحة بوتفليقة وعصابته، في سياق عملية تطهير للدولة من بقايا الدولة العميلة العميقة التي كان يقودها رئيس المخابرات الجنرال توفيق لحساب فرنسا ومصالحها الاقتصادية والثقافية في الجزائرية، ويعضد هذا الطرح نفسه بأحاديث تطول عن الصراعات الإيديولوجية التي خاضتها وتعيشها الجزائر، بين التيار الفرونكوفوني الأمازيغي من جهة، والتيار الإسلامي العربي من الجهة المقابلة.
بعد نهاية الجمعة الخامسة من مظاهرات الشعب الجزائري، صعد القايد صالح ممثلاً للجيش من لهجته ضد بوتفليقة، مطالبًا بعزله بعد إثبات عجزه دستوريًا، هنا كان الرد المتوقع، هو الحسم مع القايد صالح بقرار عزله مباشرة
وتزعم النظرية هذه على ألسنة دعاتها، أن الجيش يخوض معركته هذه، نيابة عن الشعب ونصرة لتاريخه وذودًا عن هويته، في مواجهة محاولات المسخ والتغريب التي عملت فرنسا عليها عن طريق عملائها في المخابرات والرئاسة.
بغض النظر عن التماسك الفكري لنظرية التطهيرهذه، فإن ادعاءها التخطيط لخروج الشعب في مسيرات بضخامة مسيرات 22 فبراير، يصطدم مباشرة بحقيقة أن الأنظمة الشمولية من نوع النظام الجزائري لا تجازف مهما بلغت درجة الاحتقان داخلها، بالتطوع لهدم جدار الخوف الذي اجتهدت بكل السبل والوسائل لإعلائه وتمتين أركانه، كما أنها تواجه أيضًا مسلمة التاريخ التي تقول إنه ليس بالضرورة كل من يفجر ثورة هو من يستفيد منها في الأخير.
فهنا يظهر بالتالي تهافت هذه النظرية، وأن وظيفتها الحقيقية هي التغطية والتمويه على حقيقة الصراع الدائر حاليًّا بين جماعة عنابة وجماعة تلمسان، صراع أقل وأتفه همومه، هذه الدعاوى والفذلكات الإيديولوجية، وصلب المعركة هو السلطة ومكاسبها.
ذهب بوتفليقة.. فهل يذهب الشعب معه؟
بعد نهاية الجمعة الخامسة من مظاهرات الشعب الجزائري، صعد القايد صالح ممثلاً للجيش من لهجته ضد بوتفليقة، مطالبًا بعزله بعد إثبات عجزه دستوريًا، هنا كان الرد المتوقع، هو الحسم مع القايد صالح بقرار عزله مباشرة، غير أنه تم إعلان حكومة جديدة احتفظ فيها زعيم جماعة عنابة بموقعه نائبًا لوزير الدفاع، الذي هو نفسه رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، ثم تلا ذلك بيان رئاسي يعلن قرار بوتفليقة تقليص عهدته الرئاسية وعزمه إعلان قرارات مهمة قبل إعلان استقالته، تسربت المعلومات أن قرار عزل قائد الأركان صار موقعًا وسيتم إعلانه، فتحرك القايد صالح بإرسال قوة لمراقبة مبنى التليفزيون.
استطاعت جماعة عنابة في الساعات الأخيرة أن تحشد حولها المزيد من مراكز القوى والفاعلين المنحدرين من الشرق كقناتي الشروق والبلاد التليفزيونيتين، وأقلام صحفية وأحزاب وشخصيات سياسية بارزة كعلي بن فليس الذي طلب من المتظاهرين بعد استقالة بوتفليقة العودة إلى بيوتهم
وجند قناة الشروق الموالية له لإعلان أن الرئيس غائب عن الوعي والبيانات الصادرة عن الرئاسة مزورة ولا تمثل الرئيس، كما تم تسريب أخبار عن تحركات مريبة لقوات الدرك التي تتبع الجنرال بلقصير الموالي لجماعة تلمسان، ثم وفي آخر حلقة للساعات الأخيرة للحسم، اجتمعت قيادة الأركان، وكان بين الحاضرين فيها الجنرال بن علي قائد الحرس الجمهوري والجنرال بلقصير المواليان لبوتفليقة.
ليصدر بيان باسم وزارة الدفاع عن المضي في عزل بوتفليقة، وبعدها بلحظات أعلن هذا الأخير استقالته رسميًا، ليسدل الستار على آخر حلقات الصراع بين الجناحين المتنافسين على السلطة، باتفاق يكون قد عقد بتدخل وساطات خارجية، لضمان خروج آمن لآل بوتفليقة وجماعة تلمسان، وانتقال سلس للسلطة لجماعة عنابة.
استطاعت جماعة عنابة في الساعات الأخيرة أن تحشد حولها المزيد من مراكز القوى والفاعلين المنحدرين من الشرق كقناتي الشروق والبلاد التليفزيونيتين وأقلام صحفية وأحزاب وشخصيات سياسية بارزة كعلي بن فليس الذي طلب من المتظاهرين بعد استقالة بوتفليقة العودة إلى بيوتهم، لأن هناك من سينهي المهمة.
هكذا يبدو أن حسم الصراع لصالحها، يغري جماعة عنابة بركوب موجة الثورة الشعبية وتسلم السلطة بأسرع وقت ممكن، دون التفات لأي من مطالب المتظاهرين الذين خرجوا بالملايين من أجل تغيير النظام، كل النظام، حسب عبارتهم الشعبية المختصرة والمكثفة والمختزلة لغايات هذه الثورة: “يتنحاو ڨاع”.. فهل ستنجح الجماعة في ترحيل الشعب بعد ترحيلها لبوتفليقة ولجماعة تلمسان؟