كالنار في الهشيم، انتشرت الجملة التي قالها القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، بخصوص الرئاسة في لبنان. جملة ذكر فيها أنه “لا مخطط لدى القيادة الجديدة في سوريا بخصوص التدخل في لبنان”، مضيفًا: “إذا توافق اللبنانيون على قائد الجيش جوزف عون رئيسًا للجمهورية، فستدعمه القيادة السورية”.
أثارت هذه التصريحات موجة من التحليلات والتساؤلات حول ما إذا كانت تشير إلى دعم لقائد الجيش أو دعم للتوافق الداخلي اللبناني، وكيف ستؤثر هذه الإشارة على الاستحقاق الرئاسي ومستقبل المشهد السياسي في لبنان، بالإضافة إلى أسئلة أخرى عن النوايا الحقيقية للقيادة السورية الجديدة.
عمليًا، لا تظهر القيادة السورية الجديدة أي رغبة في التأثير على أي ملف خارجي، ناهيك بالابتعاد عن التدخلات الإقليمية المباشرة. لكن، كما يقول المراقبون “سوريا تبقى سوريا”، فقواعد الجيوسياسة تفرض نفسها، وسوريا مهما حاولت تحجيم دورها أو الحد من نفوذها الخارجي، ستبقى العمق الأهم للبنان، لذلك فإن أي حركة داخلية في سوريا، سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، ستثير بطبيعة الحال تساؤلات بشأن انعكاساتها المحتملة على لبنان.
التقاط هذه التحولات الجيوسياسية ليس جديدًا على الساحة اللبنانية. كالعادة كان وليد جنبلاط من أوائل الذين استجابوا لهذه الإشارات، فسارع إلى الالتقاء بالشرع على رأس وفد درزي كبير، ومن ثم توجه إلى تركيا، معلنًا بهذه التحركات رؤيته للمرحلة الجديدة التي تنطلق من قيادة الشرع وتستظل بالمظلة التركية.
إلى جانب جنبلاط، سارعت الأحزاب المعارضة لـ”حزب الله” إلى الاحتفاء بسقوط النظام، وبلغ الحماس ذروته مع تصريح رئيس جهاز الإعلام والتواصل في القوات اللبنانية، شارل جبور، الذي وصف الشرع بـ”الرفيق”، وهو وصف لم يكن يتوقع سماعه من مسؤول يميني مسيحي.
ورغم أن التحولات السورية ستؤثر بلا شك على مختلف الساحات اللبنانية، فإن الأنظار تبقى مركزة بشكل خاص على الساحة السنية، وذلك لعدة اعتبارات:
أولًا، الإحباط السني الذي تعيشه الطائفة في لبنان والمنطقة بعد انحسار ثورات الربيع العربي جعل السنة طواقين لأي تغيير، فكيف إذا كان من سوريا؟ في وقت لم يكن هذا حال باقي الطوائف.
ثانيًا، يشكّل التغيير السوري الحالي، لأول مرة منذ أكثر من نصف عقد، تحولًا نحو قيادة سنية تمثل الشارع، ما يخلق امتدادًا عاطفيًا لسنة لبنان وشعورًا بوجود قيادة يمكن التشبّه بها والحوار معها.
ثالثًا، على عكس مختلف الساحات، يعيش سنة لبنان فراغًا قياديًا منذ اغتيال رفيق الحريري، إذ لم يستطع نجله سعد ملء هذا الفراغ لأسباب داخلية وخارجية، ومع غيابه وتعليق عمله السياسي، لم تبرز قيادة أخرى تلبي تطلعات الجمهور. هذا الفراغ يجعل التغيير في سوريا بمثابة بارقة أمل لإعادة إنتاج قيادة جديدة.
رابعًا، وصول قيادة ذات خلفية إسلامية في سوريا، حتى وإن أُعيد إنتاجها ضمن ضوابط دولية، يرمز إلى تغير في المقاربة الدولية للمنطقة، ما يفتح احتمالية انسحاب هذا التوجه على لبنان.
خامسًا، قد يساهم هذا التغير في تحقيق توازن سياسي داخلي، مما يعزز موقف القوى المعارضة لـ”حزب الله” ويمنح السنة أملًا باستعادة دورهم المحوري في المشهد السياسي.
لكن، حماس الشارع السني المبرر والمفهوم لانتعاشة سياسية في لبنان يقابله غياب قيادة قادرة على استثمار هذه الظروف. ففي سوريا، ورغم أهمية العوامل الدولية التي مهدت للتغيير، لم يكن ذلك ممكنًا دون الإعداد الدقيق والتفاعل المدروس مع الأحداث من قبل هيئة تحرير الشام والشرع. فالعوامل الدولية تمثل جناحًا أساسيًا للتغيير، لكن الجناح الداخلي يبقى حاسمًا أيضًا.
على الرغم من غياب سعد الحريري عن الساحة السياسية، لم يحضر من يملأ الفراغ، ما ساهم في حفاظه على شعبيته. وقد أثار تسرب أخبار عن لقاء جمعه بالشرع موجة من التوقعات حول عودته. إلا أن عودته تبقى مرهونة بضوء أخضر سعودي لم يتحقق بعد، رغم تسريبات تشير إلى أن زيارة شباط للبنان قد تكون أطول من سابقاتها. ومع ذلك، فإن عودة الحريري للحياة السياسية لن تكون إلا بدفعة خارجية، وفي حال تحقق ذلك، فمن المتوقع أن يكتسح الساحة السنية مستفيدًا من توافق الظروف الدولية والمحلية، لكن المؤشرات الحالية لا تدعم هذا الاحتمال.
باستثناء الحريري، تعيش القوى السنية حالة من التريث وإعادة الحسابات. فقد شهدت الفترة الماضية تقاربًا بين بعض هذه القوى و”حزب الله” بدوافع وطنية ومجابهة للتقدم الإسرائيلي وكذلك لمصالح سياسية داخلية نتيجة التوتر مع القوى المسيحية التي اعتبرتها بعض الأطراف السنية متشددة في مواقفها خلال الحرب. هذا التقارب يعكس حالة الحذر، حيث لا تزال القوى السنية تخشى الصدام مع “حزب الله” وتفكر في مصلحتها معه، وهو الذي باعتقادهم يبقى حتى الآن اللاعب المحلي الأبرز.
لذلك، انقسمت القوى السنية أو الشخصيات السنية بين من ذهب بعيدًا في مواقفه ضد “حزب الله” في أثناء الحرب وهو ما لم يكن مرغوبًا شعبيًا في ظل العدوان الاسرائيلي، ما انعكس سلبًا عليه في الشارع مثل النائب أشرف ريفي أو النائب وضاح صادق، وبين من تقارب مع “حزب الله” على خلفية موقفه في الحرب وسيطرته على الساحة السياسية، مثل كتلة الاعتدال الوطني والجماعة الإسلامية. هؤلاء قد يحتاجون وقتًا لإعادة ضبط تموضعهم، وقد تفوتهم اللحظة.
في المقابل، شخصيات وازنة مثل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يبدو أنها تعتمد نهجًا مختلفًا، إذ يدرك ميقاتي أن دوره كشخصية مستقلة لا تنغمس في الجماهيرية قد يكون أكثر ملاءمة للمرحلة المقبلة في لبنان، دون الحاجة إلى تحويل حزبه الصغير إلى تيار واسع الانتشار.
بناءً على ذلك، فإن القوى والشخصيات السياسية السنية البارزة لم تظهر حتى الآن حركة توحي بالاندفاع لالتقاط اللحظة الحالية، وهي ذاتها التي فشلت في تعبئة الفراغ بعد اعتكاف الحريري عن العمل السياسي. على الرغم من ذلك، فإن هذا يخلق مساحة لإعادة إنتاج قيادة جديدة على أثر التغيرات المستجدة وهو ما لم يظهر حتى الآن.
إذًا، الحركة في الجانب اللبناني ضعيفة، لكن ماذا عن الجانب السوري؟
أولى الملاحظات بخصوص سوريا الجديدة ولبنان هي وجود تاريخ سابق لهيئة تحرير الشام (بنُسخة جبهة النصرة) في لبنان، بما في ذلك علاقات مع مجموعات محلية يغلب عليها الطابع السلفي أو الجهادي أو المشيخي، إلى جانب وجود لبنانيين ضمن صفوف الهيئة نفسها. من الطبيعي أن يُتوقع أن تكون هذه الشبكات هي الأسرع لمعاودة النشاط، وأن يكون الجو السلفي في لبنان الأكثر استعدادًا لتلقّي الإشارات السورية. وهذا ما شهدناه في زيارة وفد من هيئة العلماء المسلمين بقيادة الشيخ سالم الرافعي للشرع.
من المنطقي أيضًا أن تفكر هذه المجموعات في الاستفادة من الوضع الراهن، خصوصًا في حال خروج الشيخ أحمد الأسير من السجن، حيث قد يشكّل قاعدة جماهيرية يمكن أن يستند إليها هذا التيار في لبنان وهو الذي يتمتع بجماهيرية وعلاقات داخل الهيئة نفسها. لكن مع ذلك، فإن التوجه نحو “إعادة البرمجة” (Rebranding) الذي ينتهجه، قد يقتل طموحاتهم. إذ يبدو أن الشرع غير متحمّس لهذا التوجه، خاصة أن دعمه العلني لقائد الجيش لرئاسة الجمهورية، وهو العدو الأول للنصرة في الماضي، يُظهر أولويات مختلفة.
أيضًا تدرك القيادة السورية اليوم أن عودة النصرة إلى لبنان بشكلها السابق، من شأنها إعادة تكوين “جبهة محاربة الإرهاب”، ما قد يدفع الأطراف المحلية والإقليمية إلى التحرك ضد هذا الخط، ما سيشكل قارب نجاة لـ”حزب الله”، وهو ما لا تتمناه القيادة السورية ولا راعيها الإقليمي، ما يعني أن هناك توافقًا على عدم السماح بعودة نفوذ النصرة في لبنان بشكله السابق إلا في حال إعادة استنساخ التجربة السورية، وتحويل “جولاني لبناني” إلى “شرع لبناني”.
ومع ذلك، فإن نظرة الشرع وخطابه لم تُترجم بالكامل إلى القاعدة الثانية من القادة في سوريا ناهيك بالقاعدة وهو ما تبين من تصريحات مسؤولين أقل مستوى، مثل المتحدث الرسمي باسم “الإدارة السياسية” أو محافظ دمشق، ما يعني أن هذا التحول يحتاج إلى وقت للتبلور والثبات، إذا كتب له ذلك. خلال هذه المرحلة، قد نشهد انتعاشًا مؤقتًا لخط النصرة قبل أن يتم ضبطه عبر تنسيق سوري-لبناني.
على الرغم من أن القيادة السورية قد لا تضع لبنان كأولوية للتأثير، فإن الواقع يفرض تأثيرًا غير مباشر، سواء من خلال الحماس الذي تبديه عناصر الهيئة أو من خلال انعكاسات التشكيلات التي ستستقر عليها القيادة السورية وقاعدتها. هذه التشكيلات ستحدد طبيعة القيادة السنية الجديدة القادرة على إثبات وجودها داخليًا في شارعها وخارجيًا، انطلاقًا من القيادة الجديدة في سوريا، ووصولًا إلى أنقرة، مع الحفاظ على عدم إزعاج الرياض، على أقل تقدير، وهي التي يبدو أنها بدأت بإعادة توجيه اهتمامها نحو لبنان بعد غياب طويل.