وصل وفد سوري برئاسة وزير الخارجية المعين في الحكومة الانتقالية، أسعد حسين الشيباني، إلى العاصمة السعودية الرياض، مساء أمس الأربعاء، في أول زيارة رسمية تجريها الإدارة السورية الجديدة للخارج، منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وضم الوفد السوري إلى جانب الشيباني، وزير الدفاع مرهف أبو قصرة ورئيس جهاز الاستخبارات العامة أنس خطاب، فيما كان في استقباله في مطار الملك خالد الدولي في العاصمة الرياض، نائب وزير خارجية المملكة وليد بن عبد الكريم الخريجي، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الرسمية السورية (سانا).
وتأتي تلك الزيارة استجابة للدعوة التي تلقاها وزير الخارجية السوري من نظيره السعودي لزيارة المملكة، خلال زيارة الوفد السعودي لدمشق قبل أيام، وعلى حسابه على منصة “إكس” قال الشيباني إنه يتطلع من خلال هذه الزيارة الأولى في تاريخ سوريا الحرة، فتح صفحة جديدة ومشرقة في العلاقات السورية السعودية تليق بالتاريخ العريق المشترك بين البلدين.
#الرياض | معالي نائب وزير الخارجية #وليد_الخريجي @W_Elkhereiji يستقبل وفداً سورياً رفيع المستوى يضم كلاً من وزير خارجية الإدارة السورية الجديدة السيد أسعد الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة ورئيس جهاز الاستخبارات أنس خطاب، وذلك لدى وصولهم مطار الملك خالد الدولي. pic.twitter.com/kp9izPlHbl
— وزارة الخارجية 🇸🇦 (@KSAMOFA) January 1, 2025
أجواء خاصة
الزيارة جاءت في أجواء استثنائية وخاصة للغاية، ربما لم تشهدها العلاقات بين البلدين والتي عانت لعقود طويلة من التأرجح بين الترقب والصدام والتصيد، وذلك في ضوء عدد من المؤشرات أبرزها:
– أنها الزيارة الأولى خارجيًا للحكومة الانتقالية السورية، واختيار الرياض كأولى المحطات ليس أمرًا اعتباطيًا.
– خص قناة “العربية” السعودية دون غيرها بأول لقاء لقائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، على القنوات العربية، رغم حملة الشيطنة التي قادتها بداية معركة ردع العدوان، بجانب التصريحات الإيجابية الصادرة عنه خلال تلك المقابلة بحق المملكة وقادتها وتجربتها التنموية، خطوة تحمل الكثير من الرسائل والدلالات وتفتح الباب أمام علاقات استثنائية.
– التناغم الكبير في الرؤى والمواقف بشأن دعم سوريا الجديدة خلال زيارة الوفد الحكومي السعودي لدمشق نهاية الشهر الماضي، ولقاءاته التي عقدها مع الشرع وعدد من أعضاء الحكومة الانتقالية.
– تسيير السعودية جسرًا جويًا من المساعدات الإنسانية إلى مطار دمشق، شمل إمدادات طبية وغذائية وإيوائية، وذلك لتخفيف الأوضاع الإنسانية والمعيشية الصعبة على السوريين التي تفاقمت إبان عهد النظام المخلوع، حيث أرسلت المملكة 3 طائرات حتى صباح اليوم، مع الحديث عن إرسال جسر بري آخر خلال الأيام القادمة، حسبما قال المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة، عبد الله الربيعة.
– لغة التطمين الواضحة في خطاب الشرع بشأن المملكة ودول الخليج وإزالة كل مخاوف تصدير الفكر الثوري، وتحويل سوريا إلى منصة تهديد لجيرانها، مع التأكيد على أن ما حدث في بلاده خلال الأيام الأخيرة يخدم الخليج في المقام الأول ويضمن له الاستقرار لـ5 عقود كاملة، وهي الرسالة التي لاقت ترحيبًا وارتياحًا كبيرًا لدى الشارع الخليجي.
– التغير الواضح في الخطاب الإعلامي والسياسي السعودي، من الهجوم على الثورة السورية وشيطنتها ورموزها، إلى دعم المرحلة الانتقالية السورية الجديدة، واحترام إرادة الشعب السوري، والتأكيد على تقديم كل أوجه الدعم لعودة سوريا إلى نهضتها وريادتها وثقلها الإقليمي مرة أخرى.
السعودية وسوريا.. أرضية مشتركة واحتياج متبادل
تمثل السعودية وسوريا نموذجين ُملحين لنظرية “الالتحام الشامل” على المسارات كافة، إذ إن كل منهما بمفرده قد يكون هدفًا للآخر، على مستوى الإمكانيات والفرص، وبمعنى أدق فإن كل دولة منهما بحاجة ماسة للأخرى، ولديهما من المقومات ما يحفّز الطرف الثاني، الأمر الذي يبني أرضية مشتركة من التفاهمات والتنسيق المتبادل.
فالسعودية بما تمتلكه من إمكانيات اقتصادية هائلة، عززت من نفوذها السياسي، وجعلتها لاعبًا مؤثرًا في خريطة الشرق الأوسط، قد تصبح هدفًا ثمينًا للإدارة السورية الجديدة الباحثة عن الاعتراف الدولي والاستقرار الاقتصادي والسياسي بعد عقود من الفوضى والتجريف والسرقة والنهب لموارد الدولة على أيدي عائلة الأسد من سبعينيات القرن الماضي.
وفي المقابل فإن سوريا بحضارتها وتاريخها وثقلها الإقليمي، وموقعها اللوجستي ذي الأهمية الاستراتيجية، وما تمثله من سوق كبير قادر على استيعاب الكثير من الفرص الاستثمارية الواعدة، فضلًا عن مواردها وإمكانياتها الثرواتية والمعدنية، من المؤكد أنها ستكون فرصة لا تعوض للسعودية لتوسيع حضورها الشرق أوسطي وتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي.
#سوريا#أحمد_الشرع رجل دولة وليس زعيم جماعة
في حواره مع قناة " العربية " رسخ أحمد الشرع السياسية الواقعية والمطمئنة للسوريين والعرب والعالم، التي سارت عليها الإدارة لانتقالية في سوريا منذ اليوم الاول لسقوط نظام الأسد. لم يدع الزعامة، ونسب تحرير سوريا من النظام العلوي للسوريين…
— داود الشريان (@alshiriandawood) December 30, 2024
البرغماتية السياسية.. تجنب تكرار النموذج اللبناني العراقي
بعيدًا عن القواسم المشتركة والمغريات والفرص المؤهلة لدفع كل طرف لتعميق علاقاته بالطرف الآخر، إلا أنه لا يخفى على أحد أن السعودية – كذا الإدارة السورية الجديدة – إنما تنطلق في مقارباتها تلك من برغماتية سياسية بحتة، أيًا كانت المواقف الأيديولوجية السابقة التي عكرت صفو الأجواء لسنوات طويلة، فكل فريق يحاول تقديم أوراق اعتماده لدى الفريق الآخر بحلة جديدة وعقلية مغايرة.
فالظرف الاستثنائي الحرج الذي تمر به المنطقة بصفة عامة، وحساسية المشهد السوري خصيصًا بكل تحدياته والمتربصين به وله، كذلك التطورات التي تشهدها خريطة التحالفات الإقليمية والدولية في ظل تبعات الصراع على الجبهة الأوكرانية وتولي إدارة دونالد ترامب اليمينية المتطرفة السلطة في الولايات المتحدة، والحديث عن شرق أوسط جديد بمعادلات وتوازنات مختلفة، وحالة الترقب التي تخيم على التوجه الإيراني بعد الضربات التي تلقتها طهران مؤخرًا وأفقدتها الكثير من توازنها، كل هذا يدفع الرياض وبمنطق برغماتي بحت لإعادة تقييم تموقعها في تلك الخريطة المشوهة، وفي العمق منها سوريا ذات الكيان والثقل الاستراتيجي إقليميًا.
وتحاول السعودية في تعاطيها مع المشهد السوري الجديد تعلم الدروس المستفادة من تجربتيها في لبنان والعراق على مدار عقود طويلة، حين ارتأت النأي بنفسها عن هاتين الساحتين بسبب تباين وجهات النظر والخلافات المحتدمة مع بعض القوى والكيانات هناك، ما منح “حزب الله” والفصائل الموالية لطهران الفرصة الكاملة للهيمنة على البلدين، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، فيما تقزم النفوذ السعودي هناك لصالح إيران التي عمقت حضورها وشكلت تهديدًا كبيرًا لأمن السعودية ودول الخليج بأكملها.
وعليه تتجنب الرياض تكرار النموذج اللبناني مرة أخرى داخل سوريا، وعدم ترك الساحة لأجندات وقوى أخرى ربما تحمل تهديدًا للأمن الخليجي مستقبلًا، خاصة بعدما منحها القدر الفرصة الملائمة لتصحيح الأوضاع الخاطئة وتحسين العلاقات بين البلدين وطي صفحات التوتر والخلافات الماضية، محاولة الانخراط المبكر والمعمق في المشهد السوري، ومع الإدارة الجديدة لتدشين مرحلة مختلفة من العلاقات البناءة القائمة على الاحترام والتعاون المتبادل، كما ذكر وزير الخارجية السوري.
وعلى الجانب السوري، يحاول الشرع ورفاقه تعلم دروس العشرية الأخيرة، لا سيما التي تعلمها من تجارب بعض دول الأقليم، حيث الهروب من فخاخ الاستقطاب، وتجنب الصدام المبكر مع أي من القوى الإقليمية، والعمل على فتح الباب – أو على الأقل إبقاءه مواربًا – أمام الجميع، فالبيض كله لا يمكن وضعه في سلة واحدة، ولعبة التوازنات لابد وأن تكون متقنة.
العلاقات السعودية السورية.. محطات من التأرجح
على قدر الخطوات المتسارعة التي تبذلها حكومتا السعودية وسوريا لتعميق العلاقات المشتركة بين البلدين، كانت منحنيات التوتر والخلاف التي شوهت تلك العلاقة لعقود طويلة مضت، جعلتها واحدة من أسوأ العلاقات العربية العربية في تاريخ المنطقة، حيث الصدام لغة الحوار الأكثر انتشارًا منذ افتتاح سوريا بعثتها في المملكة رسميًا عام 1941.
في خمسينات القرن الماضي، أي بعد قرابة عقدين من استقلال المملكة عام 1932م، دخلت العلاقات بين السعودية وسوريا أول منحنيات التوتر بسبب التجربة الناصرية والموقف من المعسكر السوفيتي الشرقي، حيث دافع السوريون عن سياسات الرئيس المصري جمال عبد الناصر والتحالف مع الاتحاد السوفيتي، فيما كان السعوديون في الجبهة الأخرى، مناوءة أفكار ناصر والتحالف مع الأمريكان.
الأجواء توترت أكثر مع تولي حزب البعث السلطة في سوريا عام 1963 لا سيما بعد هيمنة البعث الجديد على الحكومة بعد ثلاث سنوات، حيث التصريحات العدائية المتبادلة بين البلدين، واستمرت تلك الأجواء الرمادية حتى تولي حافظ الأسد الحكم في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 1970، حينها تفاءل البعض بشأن تحسن نسبي في العلاقات السعودية السورية بعد الإطاحة بالبعثيين الجدد ووفاة عبد الناصر في تلك الأثناء.
بالفعل شهدت العلاقات بعضًا من التحسن الواضح، خاصة بعد التعاون المصري السوري السعودي في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، غير أنه سرعان ما عاد التوتر مرة أخرى بعد تحالف دمشق مع طهران في الحرب الإيرانية العراقية بداية الثمانينيات، ليعود التحسن مجددًا أوائل التسعينيات في أعقاب الغزو العراقي للكويت في أغسطس/آب 1990، حين شاركت سوريا في الائتلاف الدولي الذي تقود أمريكا للدفاع عن السعودية وتحرير الكويت من أيدي القوات العراقية.
ومع تولي بشار الأسد حكم سوريا خلفًا لوالده في 17 يوليو/تموز 2000 استبشر البعض خيرًا بمزيد من التحسن في العلاقات مع الرياض، لا سيما بعد زيارته للرياض بعد 3 أشهر فقط من توليه السلطة، حيث التقى بالملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، وكانت المملكة هي المحطة الثانية له بعد مصر، في إشارة إلى مكانة المملكة لدى الإدارة السورية الجديدة.
لكن العديد من الأحداث التي شهدتها المنطقة تباعا كانت كفيلة بتعكير الأجواء بين البلدين بصورة غير مسبوقة، أبرزها اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الحليف السعودي المقرب، في العاصمة بيروت في 14 فبراير/شباط 2005، حيث وجهت أصابع الاتهام لنظام الأسد بالوقوف خلف تلك العملية.
وظلت العلاقات متأرجحة بين البلدين حتى أحداث الربيع العربي في 2011، حين دعمت الرياض الاحتجاجات الشعبية السورية ضد نظام الأسد، وكان العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز، أول حاكم عربي يدين حكومة الأسد بسبب تعاملها العنيف مع المحتجين، وذلك في أغسطس/آب 2011، كما سحبت المملكة وفدها من بعثة حفظ السلام التابعة للجامعة العربية في سوريا في 22 يناير/كانون الثاني 2012، وأغلقت سفارتها في دمشق في الشهر التالي مباشرة.
ومنذ 2017 ونتيجة مقاربات عدة، تراجعت السعودية عن موقفها الداعم للمعارضة السورية، وبدأت في فتح صفحة جديدة في العلاقات مع نظام الأسد، حيث استقبلت الرياض وزير خارجية النظام وقتها، فيصل المقداد، في 13 أبريل/نيسان 2023، وبعدها بأقل من شهر تقريبًا قرر البلدان إعادة فتح السفارات بينهما، وصولًا إلى دعوة بشار الأسد لحضور القمة العربية التي احتضنتها جدة في مايو/أيار 2023.
وعلى مدار أكثر من 60 عامًا من العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وسوريا كان التباين والتوتر السمة الغالبة التي تخيم على الأجواء الثنائية، وفي المقابل كان التوغل الإيراني يتعاظم عامًا تلو الآخر، حيث نجحت طهران في بناء إمبراطورية لها في الداخل السوري كفيلة بأن تكون خنجرًا في ظهر الأمن العربي الإقليمي إذا حاول الإيرانيون استخدام هذا السلاح.
اليوم ومع ميلاد سوريا الجديدة، فإن الأجواء مختلفة، والأرض مهيأة تمامًا لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية على أسس الاحترام المتبادل والتعاون المشترك، في ظل امتلاك كل طرف للإمكانيات والقدرات التي تؤهله لذلك، فهل تستغل السعودية تلك الفرصة، التي قد لا تتكرر، لتصحيح مسارها الإقليمي، وتستفيد من تجربتيها السابقتين في لبنان والعراق أم سيكون لها رأي آخر؟