قل لي أين تعيش، أقل لك ما الذي ستحكيه، فللمكان أهمية خاصة في تحديد وتوجيه بنية السرد الروائي كونه شاهد عيان على الأحداث ولا يمكن تكذيبه بأي حال من الأحوال، وبصورة خاصة تحظى فكرة رصد وتحليل العلاقة بين الإنسان والمكان بأهمية كبرى في العديد من المجالات الإبداعية مثل السينما والتصوير الفوتوغرافي، إلا أن العمل الروائي بتركيباته المعقدة ومساحاته الرحبة يبقى متميزًا في هذا الرصد.
وفي الوقت الذي ينقل فيه التصوير الفوتوغرافي المكان بكل صدق وبشكل صادق يتسم بالحيادية، فإن الفن التشكيلي يضيف إلى المكان إحساس الفنان ورؤيته، إذ يتشارك مع المتلقي في تجربة بصرية ثرية متعددة التفسيرات والأبعاد، أما السينما فتبرز المكان بشكل كبير كخلفية للأحداث وذلك باعتباره مسرحًا لتحريك الشخصيات ونسيجًا تلتئم وتتكثف في إطاره مكونات الفيلم كافة، أما علاقة الرواية بالأمكنة فهي علاقة تواصل مختلط وتبادل وجود، فالمكان يحمل ويحتوي الزمان والأفراد والعلاقات المتشابكة والمعقدة بين أفرادها.
طوال تاريخها اهتمت الرواية العربية بالأماكن واعتبرتها عنصرًا مهمًا في البناء الروائي، إذ استطاع الروائيون العرب توظيف أنماط الأماكن وأثرها الثقافي والاجتماعي على الأفراد
وقد وثقت الرواية العربية الحس المكاني وعلاقته بالتجارب الإنسانية، كما رصدت تغير الأمكنة واندثارها وتدهورها وتحولها من حال إلى آخر. ومن أبرز الأمكنة التي تغيرت ورصدتها الرواية العربية هي منطقة الخليج.. فكيف رسمت الرواية ملامح تغير منطقة الخليج العربي؟
الرواية إذ تجسد الخليج العربي
طوال تاريخها اهتمت الرواية العربية بالأماكن واعتبرتها عنصرًا مهمًا في البناء الروائي، إذ استطاع الروائيون العرب توظيف أنماط الأماكن وأثرها الثقافي والاجتماعي على الأفراد وميزت الأوصاف السردية بين ثقافة كل مكان والأثر الذي يتركه، فحارات نجيب محفوظ ومشربياته اختلفت كثيرًا عن أحواش عبده خال في الخليج وناطحات وأبراج هاني النقشبندي في دبي التي اختلفت بدورها أيضًا عن البيوت الطينية للطيب صالح.
ذكر الروائي السعودي محمد المزيني عضو الأمانة العامة لملتقى الإمارات للإبداع أن كل التحولات السياسية والاقتصادية والعمرانية والثقافية التي مر بها الخليج العربي متشابهة
وبالنسبة لمنطقة الخليج فقد تجسدت في الأدب بوصفها مادة خام إنسانية وثرية عكست بشكل كبير التطور الذي لحق بها وتحولها من ثقافة الصحراء بعد اكتشاف النفط إلى المدنية، وفي الإنتاج الأدبي الخليجي كان هناك حنين واضح إلى بيئة البدو ونقاء الصحراء، كما تناولت بعض الروايات العربية صراع الهوية في الخليج ما بين البداوة والاستهلاك المفرط، وهناك أعمال أدبية أخرى شغلت نفسها بتناول قضية التحضر ومعاناة الإنسان الخليجي الجديد الذي عصفت به المدينة.
أشهر الروايات التي تناولت منطقة الخليج العربي
ذكر الروائي السعودي محمد المزيني عضو الأمانة العامة لملتقى الإمارات للإبداع أن كل التحولات السياسية والاقتصادية والعمرانية والثقافية التي مر بها الخليج العربي متشابهة بداية من التحول الحداثي في فترة الثمانينيات من القرن الفائت ومرورًا بتحدي الهوية عبر قرن من الزمان وصولًا إلى قضية التحضر التي تجسدت في المرور عبر برزح الحداثة من مجتمعات بدوية وزراعية إلى مجتمعات تعيش إشكالية التحديث في القرن الواحد والعشرين.
خماسية “مدن الملح”.. ثيمة النفط ودوره في تحول الخليج إلى الحداثة
صدرت الرواية الرئيسية “مدن الملح” للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف في خمسة أجزاء وهي: “التيه” و”الأخدود” و”تقاسيم الليل والنهار” و”المنبت” و”بادية الظلمات” وتحتوي هذه الرواية مجتمعة على 2500 صفحة وتعد عملًا أدبيًا ملحميًا يغطي السياسة العربية طوال سبعة عقود.
تحكي الرواية في جزأها الأول عن آثار اكتشاف النفط على المجتمع الخليجي، حيث يظهر فجأة مجموعة من الأمريكان للتنقيب عن النفط وتدور أحداث الجزء الأول في مدينة حران حيث ينتفض الشعب ضد الشركة الأمريكية وتعجز الشرطة عن قمع تلك الانتفاضة، وفي عودة ملحمية إلى الماضي يستعرض منيف تفاصيل الحياة البسيطة قبل مد أنابيب آبار البترول التي حفرها المستكشفون، أما الجزء الثاني من الرواية فيصف من خلاله الكاتب التحولات التي طرأت على الصحراء التي وصفها الكاتب بأنها قاسية وسريعة.
حققت خماسية مدن الملح نجاحًا عالميًا كبيرًا غير أن كاتبها صُنف على أنه معارض للنظام السعودي ومُنعت رواياته من دخول المملكة، وقد توفي منيف في دمشق عام 2004
أما الجزء الثالث “تقاسيم الليل والنهار” فتناول قضية الصراع السياسي بين السكان البدو والشركات الأمريكية، حيث سخرت تلك الشركات العمال العرب من أجل العمل في حقول البترول وانقسم المجتمع الخليجي بين رجال الأعمال والمصالح والشعب الذي كان يعيش صدمة حضارية، وبالنسبة للجزء الرابع “المنبت” فتدور أحداثه في ألمانيا خارج البلاد حيث كان الأمير يقضي شهر العسل مع زوجته وتوفي هناك معزولًا عن الحكم، ويرصد الجزء الخامس “بادية الظلمات” قصة الدولة الجديدة التي ترسخت وظهور الفوارق الطبقية بين الفقراء والأغنياء وصراع المدينة الذي بدأ يعيشه المواطن الخليجي.
حققت خماسية مدن الملح نجاحًا عالميًا كبيرًا غير أن كاتبها صُنف على أنه معارض للنظام السعودي ومُنعت رواياته من دخول المملكة، وتوفي منيف في دمشق عام 2004 ودُفن في مقبرة الدحداح الشهيرة وبعد سنوات قليلة من وفاته تعرضت مقبرته لاعتداء كبير من مجهولين.
رواية “فئران أمي حصة”.. آفة الفتنة الطائفية في منطقة الخليج
حين تناول الأدب العربي منطقة الخليج تحدث عنها بشكل متعدد الأبعاد، ما بين تطورها السياسي والعمراني والثقافي، وفيما يخص البعد الثقافي فقد عانت تلك المنطقة كثيرًا من الصراعات المحتدمة بين السنة والشيعة وهو الأمر الذي أبدع الكاتب الكويتي سعود السنعوسي في التحدث عنه من خلال روايته “فئران أمي حصة”.
الرواية معبأة باستشراف مستقبل الطائفية في الخليج العربي، حيث ستصل الأمور إلى تحويل المنطقة إلى مسخ غير واضح الملامح يسوده الاحتراب والتباغض لينتهي بعد ذلك إلى اندلاع الحروب على خلفيات الاحتراب بين السنة والشيعة
تبدأ أحداث الرواية خلال عام 1990 الذي كان مفصليًا في تاريخ الكويت حيث تعرضت للغزو العراقي الذي مثل صدمة كبيرة للوعي الجمعي الكويتي، وتدور جميع أحداث الرواية في يوم واحد فقط لترصد لنا الواقع الحالك المشبع برائحة الكراهية بين السنة والشيعة، فأغلب شخصيات الرواية حتى الأبطال منهم يحملون انتماءً طائفيًا وهوية فرعية، إذ لم تستطع الهوية الوطنية العليا إذابة الفوارق الراسخة بين الطوائف.
الرواية معبأة باستشراف مستقبل الطائفية في الخليج العربي حيث ستصل الأمور إلى تحويل المنطقة إلى مسخ غير واضح الملامح يسوده الاحتراب والتباغض لينتهي بعد ذلك إلى اندلاع الحروب على خلفيات الاحتراب بين السنة والشيعة، حيث تنبأ السنعوسي في روايته باندلاع الحرب بين السعودية واليمن وهو الأمر الذي تحقق بالفعل على أرض الواقع.
يُذكر أن وزارة الإعلام الكويتية أصدرت قرارًا بمنع نشر رواية السنعوسي وذلك بتهمة خدش الحياء والآداب العامة، ولكن السنعوسي لجأ إلى القضاء لتحكم بعدها محكمة الاستئناف الإداري الكويتي في 2019 بإلغاء قرار وزارة الإعلام والسماح بنشرها وتداولها وذلك بعد أربعة أعوام من المنع.
“شقة الحرية”.. قصة تغير الخليج من وجهة نظر شبابه
تدور أحداث رواية “شقة الحرية” للكاتب غازي عبد الرحمن القصيبي في ستينيات القرن الماضي، إذ تبدأ أحداثها خلال عام 1956 وتنتهي خلال عام 1961 وتحكي قصة لقاء عدة شباب من البحرين في مصر من أجل الدراسة، وقد وضع هؤلاء الشباب قانونًا للشقة يقوم على الحرية التي حرموا منها في بلادهم.
تتطرق الرواية أيضًا إلى الوحدة العربية وحزب البعث الاشتراكي وعلاقة الشعوب بالحكام والخناق الذي يضيق كل يوم على شباب الخليج والأفكار المتناقضة التي تعصف بهم وصراعهم الأزلي بين العادات والتقاليد المجتمعية وتوقهم للحرية، الرواية تحمل مضمونها في عنوانها وشقة الحرية كانت مساحة حرة لأبطالها ومساحة فكرية لكاتبها تنقل من خلالها القصيبي بين الغزل والسياسة والمناخ الثقافي والفني الحر وذلك لأن بطل الرواية كان يطمح لأن يكون روائيًا لذلك كان يتنقل بين الصالونات الثقافية في مصر بداية من صالون العقاد ومرورًا بصالون أنيس منصور وجلسات نجيب محفوظ، وقد مُنعت رواية شقة الحرية من النشر والتداول في السعودية لوقت طويل.