نفق جديد يدخله المشهد السوداني خلال الفترة المقبلة في ظل ما بات واضحًا من تشبث المجلس الانتقالي العسكري بالسلطة منفردًا قافزًا على كل التعهدات التي قطعها على نفسه منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، في الوقت الذي تواصل فيه قوى المعارضة تمسكها بمدنية الدولة مهما كلفها ذلك من ثمن.
العسكري منذ سيطرته على الحكم في 11 من أبريل/نيسان الماضي، يسعى لكسب مزيد من الوقت من أجل إحكام قبضته على السلطة، غير آبه للضغوط الخارجية والداخلية، ولا حتى الاستفادة من تجربة إسقاط عمر البشير رغم السطوة التي كان يتمتّع بها، وفي المقابل تتمسك قوى الحرية والتغيير بسياسة النفس الطويل في التعامل مع تلك المماطلة من تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في تسليم الحكم لسلطة مدنية.
وبين التعنت العسكري والإصرار الثوري يقبع الملايين من السودانيين في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القليلة خاصة في ظل لجوء كل طرف إلى أوراق الضغط التي يملكها لفرض رأيه على الطرف الآخر، وبينما كان يأمل البعض إسدال الستار قريبًا عقب استئناف جولات المفاوضات التي وصفت أجواؤها في كثير من مراحلها بـ”الإيجابية” إلا أن فصولاً جديدة يبدو أنه لم يتم عرضها حتى الآن.
العسكر يماطلون
عزف المجلس العسكري طيلة الشهرين والنصف الذي تولى فيها مقاليد الحكم على وتر المماطلة وكسب المزيد من الوقت، فبينما كان متجاوبًا ومرنًا بداية الأمر، ومؤكدًا على تسليم السلطة لمدنيين في أقصر فترة ممكنة، معلنًا تحيزه الكامل لمطالب الثوار، إذ به مع مرور الوقت يتحول رويدًا رويدًا.
استطاع المجلس يومًا تلو الآخر ترسيخ مكانته بعدما نجح في تسويق نفسه لدى محور الثورات المضادة في مقدمته السعودية والإمارات اللتين لم تبخلا عليه بالدعم المطلق الذي ساعد بشكل ملحوظ في استتباب أمره وتمكنه من إحكام السيطرة على الأوضاع بصورة ملحوظة.
وكلما كانت تسير المفاوضات في طريقها الصحيح نحو الوصول إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف بشأن التأكيد على مدنية الدولة كان المجلس كثيرًا ما يهرب في اللحظات الفارقة، مستخدمًا في ذلك العديد من الوسائل والأساليب التقليدية المعروفة لدى أنظمة الحكم العسكري في العالم العربي.
وبعيدًا عن الالتفاف على المسار التفاوضي عبر محاولات فض الاعتصام بالقوة، تلك التحركات التي أعادت الأمور إلى النقطة صفر مرة أخرى، وهو ما كان يريده العسكر الراغبين في تفتيت لحمة الثوار، اللاعبون على عنصر الوقت وسياسة النفس الطويل لإجهاض الحراك الثوري الذي يزداد بين الحين والآخر، فإن الموقف من الوساطة الإثيوبية كان العامل الأكبر لتجسيد تلك المماطلة بصورة فجة.
البداية كانت مع قدوم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، إلى الخرطوم في الـ7 من يونيو/حزيران الحاليّ لقيادة الوساطة بنفسه من أجل الخروج من المأزق والوصول إلى صيغ توافقية تنهي حالة الانقسام، حيث وجد بداية الأمر استقبالاً حافلاً من أعضاء المجلس العسكري الذين رحبوا بالمبادرة معلنين استعدادهم للجلوس إلى مائدة التفاوض لمناقشتها.
لاقى التحرك الإثيوبي دعمًا خارجيًا كبيرًا، لا سيما من الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الاتحاد الإفريقي ومنظمة “التنمية الحكومية” (إيغاد) التابعة له التي تمتلك خبرة في حلحلة النزاعات، فيما ترك آبي أحمد مبعوثه محمود دردير كمقيم في السودان لمتابعة الوساطة، عبر سلسلة من الاجتماعات مع المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير.
نائب رئيس المجلس العسكري، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي بات صاحب الكلمة الأكثر تأثيرًا في الآونة الأخيرة، في آخر تصريحات له خلال خطاب شعبي، الإثنين الماضي، أعلن بشكل رسمي رفض المجلس لمقترحات الوساطة الإثيوبية
ورقة المقترحات التي قدمتها أديس أبابا حرصت على محاولة الوصول إلى اتفاق بشأن النقاط الخلافية السابقة على رأسها تشكيلة المجلس السيادي، حيث قدمت طرحًا يقضي بمناصفة عضوية المجلس بواقع 7 أعضاء من العسكريين و7 من المدنيين، مع اتفاق الطرفين على عضو آخر من المدنيين، ما يعطي الصفة المدنية للمجلس من خلال الأغلبية.
ورغم الموافقة المبدئية للمجلس على المقترحات الإثيوبية، ففي اللحظات المهمة من إخراج الاتفاق للنور، وكالعادة نكص العسكر اتفاقاتهم، مستخدمين في ذلك سياسة الهروب إلى الأمام برفضهم لتلك المقترحات وادعائهم وجود أخطاء إجرائية فيما يتعلق بالمبادرات الحاليّة، ومطالبتهم بمبادرة مشتركة بين الاتحاد الإفريقي وإثيوبيا.
نائب رئيس المجلس العسكري قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي بات صاحب الكلمة الأكثر تأثيرًا في الآونة الأخيرة، في آخر تصريحات له خلال خطاب شعبي، الإثنين الماضي، أعلن وبشكل رسمي رفض المجلس لمقترحات الوساطة الإثيوبية، مشيرًا إلى أن الأخير “يرفض الإملاءات”، وآبي أحمد، حينما اجتمع بأعضاء المجلس، لم يوضح أن لديه مقترحات، إنما تحدث عن مساع لإعادة التفاوض، لافتًا إلى أن أعضاء المجلس “لن يرضوا إلا بمناصفة في المجلس السيادي ومناصفة أخرى في المجلس التشريعي”.
زيادة نفوذ حميدتي داخل المجلس العسكري
انفراد بالسلطة
بات من المؤكد أن المماطلة وسياسة النفس الطويل التي يسلكها المجلس العسكري لكسب المزيد من الوقت تهدف في المقام الأول إلى الانفراد بالسلطة، وإجهاض المسار التفاوضي مع قوى الحرية والتغيير، صانعة الثورة، والذهاب بعيدًا لتشكيل حكومته، تلك الحكومة التي تشير بعض المصادر إلى أن أسماءها جاهزة وفي انتظار إعلانها خلال أيام.
الكاتب المتخصص في الشأن العربي السيد الربوة، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة “البيان” المصرية، أشار إلى أن العديد من المؤشرات التي طفت على السطح خلال الأيام الماضية تكشف بشكل واضح أطماع العسكر في التفرد بالحكم بعيدًا عن مطالب المعارضة.
الربوة في حديثه لـ”نون بوست” أوضح أن التحركات التي يقوم بها حميدتي تذهب ليس فقط في انفراد المجلس بالسلطة ولكن في تمهيد الطريق لنفسه لخلافة البرهان، لا سيما وهو الذي تراوده أطماع الحكم بعد الدعم الكبير الذي يتلقاه من أبو ظبي والرياض، لافتًا إلى مساعيه لخطب ود القبائل ورجال الطرق الصوفية.
هذا بخلاف ما أعلنه أول أمس بإطلاق سراح جميع أسرى الحركات المسلحة، في موقف اعتبره البعض “بادرة حسن نوايا لتحقيق السلام في السودان”، فيما اعتبره آخرون مغازلة واضحة لتلك الحركات من أجل كسب دعمها في الوقت المطلوب إذا تصاعدت الأوضاع مع الثوار.
الرفض المباشر المعلن لمقترحات الوساطة عسكريًا في مقابل تمسك المعارضة زاد من حالة التعاطف الشعبي مع الثوار رغم مساعي التشويه المتعمدة خلال الفترة الأخيرة، الأمر الذي يزيد من قوة الحرية والتغيير ميدانيًا
ضغوط خارجية
رغم الدعم الكبير الذي يتلقاه المجلس العسكري من المحور المناهض لثورات الربيع العربي بهدف الحيلولة دون نجاح الثورة السودانية وتسليم السلطة لمدنيين خوفًا من نقل العدوى لأنظمة أخرى تستميت من أجل وأد أي نوع من هذا الحراك الذي يهدد مستقبلها، في المقابل يواجه ضغوطًا أخرى ليست بالهينة.
فبجانب المهلة التي أعطاها الاتحاد الإفريقي للمجلس لتسليم السلطة لمدنيين في مدة أقصاها 30 من يونيو الحاليّ، قالت مسؤولة كبيرة بوزارة الخارجية الأمريكية على صلة بملف السودان أمس إن واشنطن تدرس كل الخيارات بما في ذلك إمكانية فرض عقوبات إذا زاد العنف، وذلك في أعقاب الفض الدامي لاعتصام القيادة العامة في الخرطوم مطلع يونيو/حزيران الحاليّ.
ماكيلا جيمس نائبة مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق إفريقيا والسودان، خلال جلسة بمجلس النواب أكدت “ندرس كل الخيارات بما في ذلك العقوبات في أي وقت إذا تكرر مثل هذا العنف”، موضحة أن العقوبات ربما تشمل التأشيرات أو عقوبات اقتصادية، وقالت “نريد استخدام الأداة المناسبة ونريد استهداف الأشخاص المطلوب استهدافهم”.
وأضافت أن بلادها تعتقد أن أفضل نتيجة ممكنة لأحداث السودان هي التوصل لاتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة الممثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير، مشيدة بجهود الوساطة الإثيوبية، لافتة أن واشنطن أكدت “بعبارات قوية للغاية” أنه لن يتم قبول فرض حكومة عسكرية من جانب واحد.
رفض المجلس العسكري لمقترحات الوسيط الإثيوبي
موجة ثورية ثالثة
رغم امتلاك العسكر للسلطة بحكم موقعهم ودعم الجيش والشرطة، فإن قوى الحرية والتغيير نجحت في تحقيق العديد من الأهداف في مرمى المجلس الانتقالي عززت موقفها خارجيًا، لا سيما بعد موافقتها غير المشروطة على المقترحات الإثيوبية المدعومة دوليًا، الأمر الذي وضع رفاق حميدتي في موقف حرج.
الرفض المباشر المعلن لمقترحات الوساطة عسكريًا في مقابل تمسك المعارضة زاد من حالة التعاطف الشعبي مع الثوار رغم مساعي التشويه المتعمدة خلال الفترة الأخيرة، الأمر الذي يزيد من قوة الحرية والتغيير ميدانيًا في الوقت الذي يتوهم فيه المجلس العسكري بإنهاك قواهم عقب محاولات الفض المتتالية.
في مؤتمر صحفي له أول أمس الإثنين، قال القيادي بتجمع المهنيين السودانيين، إسماعيل تاج: “رفض المجلس العسكري للوساطة الإثيوبية يدفع للمضي إلى الأمام في التصعيد الثوري والإعداد لموكب مليوني حدد يوم 30 من يونيو/حزيران الحاليّ”، مبينًا أنّ “الثورة ستستمر بصورتها السلمية التي بدأت بها وانتصرت بها وسيسمع المجلس صوت الشعب السوداني في الشوارع”.
تاج حذر المجلس العسكري من مغبة الاستمرار في التعدي على وسائل التعبير السلمي وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، لافتًا إلى أن التعاطف الذي اكتسبه الثوار بعدما تكشفت حقيقة نوايا العسكر في الانفراد بالسلطة سيكون وقودًا لموجة ثورة ثالثة تسقط المجلس الحاليّ، لتكمل الموجتين السابقتين اللتين أسقطتا البشير ثم وزير دفاعه عوض بن عوف.
وميدًانيًا.. بدأت قوى المعارضة السودانية في الترويج لمليونية 30 يونيو، التي تعد الأولى من نوعها منذ سقوط البشير، وذلك عبر إطلاق العديد من الدعوات في ولايات البلاد كافة، الأمر الذي بلا شك سيمثل صداعًا في رأس حميدتي والبرهان ورجالهما، ما قد ينبئ بتصعيد محتمل يستخدم فيه العسكر كل أساليبهم لقمع الحراك عبر منع اجتماعات المعارضة وإغلاق الميادين الثورية وإقصاء القوى الحية والفاعلة، هذا بجانب استخدام الرصاص الحي والوسائل القمعية، وهو ما يجعل السيناريوهات كافة مفتوحة خلال المرحلة المقبلة.