لا يبدو أن مسلسل المداهمات والاعتقالات في مصر شارف على الانتهاء، فقد دشَّنت السلطات المصرية عبر أذرعها الأمنية حملة دهم واعتقالات واسعة، رسمت من خلالها فصلاً جديدًا من المنهج القمعي الذي لم يستهدف هذه المرة المعارضين فحسب، بل شمل أيضّا بعض المؤيدين الذين هتفوا باسم النظام الحالي ورفعوا لافتاته يومًا ما، وهو ما كشفته أسماء وتوجهات الشخصيات التي أُلقي القبض عليها، فجر أمس الثلاثاء، واختلقت لها الأجهزة الأمنية رابطًا يتناقض مع الحد الأدنى من المنطقية لتبرير وتقنين حملة الاعتقالات الجديدة.
حملة اعتقالات ومداهمات
في التفاصيل، تحدثت السلطات المصرية عن اعتقال شبكة من الأشخاص وصفتهم بأنهم على علاقة بأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين، وتربطهم بهم علاقات وتنسيق لـ”إثارة الزخم الثوري”، ونشرت وزارة الداخلية المصرية بعض من الصور لما قالت إنها “ضربة أمنية ضد مخطط عدائي كان يستهدف استقرار مصر”.
لم يقف الأمر عند حد الاعتقالات، بل وصل حد استهداف كيانات اقتصادية، حيث داهمت الأجهزة الأمنية المصرية أكثر من 19 مؤسسة تديرها “العناصر الإثارية بطرق سرية” بحسب توصيف الأجهزة الأمنية
وبحسب بيان هُرعت وزارة الداخلية المصرية لنشره، وأشارت فيه إلى تولي نيابة أمن الدولة التحقيقات في القضية، فإن حملتها الأمنية التي شملت اعتقال 8 ناشطين بارزين على الأقل – وصفتهم وسائل إعلام مصرية بـ”الكوادر الإرهابية” – “أجهضت مخططًا يجمع القوى المدنية وجماعة الإخوان المسلمين، ويستهدف إسقاط الدولة ومؤسساتها”، بالتزامن مع ذكرى 30 يونيو/حزيران.
لم يقف الأمر عند حد الاعتقالات، بل وصل حد استهداف كيانات اقتصادية، حيث داهمت الأجهزة الأمنية المصرية أكثر من 19 مؤسسة تديرها “العناصر الإثارية بطرق سرية” بحسب توصيف الأجهزة الأمنية، واُتهم القائمون عليها بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين وتوفير الدعم لهذا المخطط، وقدَّرت حجم الاستثمارات لهذه الكيانات بأكثر من 15 مليون دولار (ربع مليار جنيه).
وبحسب فيديو بثته الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية على فيسبوك، ضمت قائمة الشركات والكيانات الاقتصادية شركة ثمار العقارية والشركة المصرية الألمانية للصناعات الهندسية وشركة الإنتاج الذهبي بالإسماعيلية وشركة آفاق للتنمية العمرانية وشركة ركاز للاستثمار العقاري وعيادات المدنية وغيرهم.
لا فرق بين يساري وإسلامي
اللافت في الاعتقالات هذه المرة أنها لم تقتصر على طيف سياسي بعينه، بل تنوعت انتماءات المعتقلين ما بين إسلاميين ويساريين وليبراليين معروف عنهم العداء المعلن لجماعة الإخوان المسلمين التي ارتبطت بها الاتهامات الموجهة إليهم.
وجاء على رأس أبرز الأسماء، المحامي والنائب البرلماني السابق زياد العليمي، وهو محسوب على التيار اليساري، وسبق أن شارك في تأسيس ائتلاف شباب الثورة والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي عام 2011، كما شارك في احتجاجات 30 يونيو/حزيران عام 2013، وكان من أوائل المتحدثين عن ضرورة إسقاط مرسي، ولم يسبق له أن اتّحد سياسيًا مع الإخوان بأي صورة، ويؤكد ذلك المصادمات الدائمة بينه وبين رئيس مجلس الشعب المنحل سعد الكتاتني والأغلبية الإسلامية في البرلمان.
معظم مَنْ اُعتقلوا في هذه الحملة أو خلال الأيام الماضية محسوبون على التيار اليساري، ومعروفون إعلاميًا بمواقفهم المناوئة حد القطيعة لجماعة الإخوان المسلمين الآن، ومن بينهم قادة لمظاهرات 30 يونيو/حزيران
صحفيون أيضًا كانوا ضمن قائمة المعتقلين، من بينهم مراسل وكالة “سبوتنيك” الروسية الصحفي هشام فؤاد، المعروف بانتمائه اليساري وهجومه على الإسلاميين دائمًا، وهو أحد المدافعين عن الصحفيين والحريات وحقوق الفلاحين والعمال، وعضو بحركة الاشتراكيين الثوريين، وكان قد صدر قرار بالتحفظ على أمواله في يناير/كانون الثاني 2015، من لجنة التحفظ على أموال الإخوان المسلمين.
كما شملت حملة الاعتقالات، عضو بقابة الصحفيين المصريين حسام مؤنس، وهو المتحدث السابق التيار الشعبي وحملة حمدين صباحي لانتخابات الرئاسة في 2014، وأحد قيادات حزب الكرامة الناصري، وكان من أشهر الوجوه الإعلامية المناهضة بلا هوادة لحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، ومن أبرز المنظمين لتظاهرات 30 يونيو/حزيران الممهدة لانقلاب 3 يوليو/ تموز، كما لم يبتعد عن مساندة نظام السيسي، إلا عند معارضته للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير.
كذلك شملت الحملة شخصيات لم يُعرف عنها الارتباط السياسي بأي تيار، مثل رجل الأعمال والخبير الاقتصادي البارز عمر الشنيطي المدير التنفيذي لشركة “مالتيبلز” للاستثمار، والذي لا يرتبط بالإخوان تنظيميًا ولا سياسيًا، ورغم ذلك سبق أن أصدرت لجنة التحفظ على أموال الإخوان المسلمين، في أغسطس/آب 2017، قرارًا بالتحفظ على شركة العربية الدولية للتوكيلات التجارية المالكة لسلسلة مكتبات “ألف”، والمملوكة له.
كما تحدثت وسائل إعلام تابعة للنظام المصري عن اعتقال مدير مكتب النائب البرلماني أحمد طنطاوي، والذي اُشتهر بمعارضة النظام المصري في تخليه عن جزيرتي تيران وصنافير، وأيضًا كان من أبرز رافضي التعديلات الدستورية التي مددت الفترات الرئاسية للسيسي، الأمر الذي يستدعي الربط بين القبض على مدير مكتب طنطاوي ومواقف الأخير المعارِضة للنظام.
وبعد ساعات من القبض على مدير مكتبه، تداولت صحف ومواقع إخبارية مصرية خبرًا عن أول تحرك لرفع الحصانة عن النائب البرلماني، حيث تقدم المحامي أيمن محفوظ ببلاغ النائب العام المستشار نبيل صادق، يتهمه في طنطاوي بالتورط في الجرائم المنسوب صدورها لمدير مكتبه وآخرين من العاملين معه، مطالبًا باتخاذ اللازم قانونًا تجاه ما صدر عنه من تصريحات اعتبرها “مسيئة لمصر” كان قد أطلقها النائب أمام البرلمان.
تهمة الانتماء للإخوان باتت جاهزة لكل من يسعى لتفعيل الحراك السياسي في بلد يضيق الخنق فيه على الحقوق والحريات
وبحسب بيان الداخلية، أُلقي القبض على أشخاص آخرين هم: مصطفى عبد المعز، قريب وزير الإسكان الأسبق أحمد المغربي، ونجل الراحل عبد المعز عبد الستار، أحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، وأحد الشركاء في “مجموعة المعز” القابضة، والتي طالها قرار التحفظ من قبل لجنة حصر أموال الإخوان في منتصف سبتمبر/أيلول العام الماضي.
هذا بالإضافة أشخاص جاء القبض عليهم كمحاولة للتشتيت عن تحركات سياسية، ومنهم حسن بربري، وهو شخص لا ينتمي لأي تيار سياسي ومعروف في الأوساط الحقوقية كمحاسب بارز وذي خبرة لإنهاء أعمال المنظمات مع الدولة والجهات المانحة، والقيادي بحزب الاستقلال أسامة العقباوي، الذي قُبض عليه باتباع أسلوب الرهينة القديم، إذ تمّ القبض على ابنته مودة (18 عامًا)، لحين حضوره وتسليم نفسه لأقرب مقر للأمن الوطني، بحسب ما قال مصدر أمني لموقع “العربي الجديد”.
“خطة الأمل” بين روايتين
كما جرت العادة في التعامل مع المقبوض عليهم، استخدمت السلطات المصرية في روايتها للأحداث طريقة قديمة وتتبعها كثيرًا، فضلاً عن اختراع روابط بين ما يحدث خارج مصر وداخلها، فقد ربط بيان وزارة الداخلية – الذي استيقظ عليه المصريون أمس لتبرير حملة الاعتقالات– بين المقبوض عليهم وعدد من الشخصيات خارج البلاد، وهم القياديين بجماعة الإخوان المسلمين محمود حسين وعلي بطيخ، والإعلاميين بقناة “مكملين” معتز مطر ومحمد ناصر، والسياسي أيمن نور.
حملة الاعتقالات تأتي قبل أيام قليلة من الذكرى السادسة لمظاهرات 30 يونيو وانقلاب 3 يوليو، لكنها أيضًا تستبق حزمة قرارات اقتصادية جديدة، أبرزها رفع الدعم عن الوقود
وفي محاولة لتصوير الأمر على أنه “مخطط شيطاني لاستهداف الدولة”، اتهم النظام المصري هؤلاء جميعًا بالتعاون المالي مع جماعة الإخوان المسلمين بهدف تمويل تحركات مناوئة للدولة تحت مسمى “خطة الأمل”، وهي في توصيف وزارة الداخلية ليست سوى مخطط “يرتكز على إنشاء مسارات للتدفقات النقدية الواردة من الخارج بطرق غير شرعية بالتعاون بين جماعة الإخوان والعناصر الإثارية الهاربة ببعض الدول المعادية، للعمل على تمويل التحركات المناهضة بالبلاد للقيام بأعمال عنف وشغب وتكثيف الدعوات التحريضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية التي تبث من الخارج”.
ومن متن الاتهامات الموجهة لهولاء، يفنِّد معارضو النظام المصري رواية وزارة الداخلية، وذلك لأن معظم مَنْ اُعتقلوا في هذه الحملة أو خلال الأيام الماضية محسوبون على التيار اليساري، ومعروفون إعلاميًا بمواقفهم المناوئة حد القطيعة لجماعة الإخوان المسلمين الآن، ومن بينهم قادة لمظاهرات 30 يونيو/حزيران، التي مهَّدت لانقلاب 3 يوليو/تموز وعزل الرئيس الراحل محمد مرسي.
عمر الشنيطي (يمين) يليه حسام مؤنس وزياد العليمي وهشام فؤاد
أمَّا “خطة الأمل” التي تقول الداخلية المصرية إنها كانت تهدف لضرب استقرار البلاد فما هي حسب القائمين عليها سوى اسم مؤقت لتكتل يضم نوابًا وبرلمانيين ورؤساء أحزاب وصحفيين، ويشمل قوى سياسية كالحركة المدنية الديمقراطية – التي تضم أحزاب منها الدستور، والتحالف الشعبي الاشتراكي، والمصري الديمقراطي الاجتماعي، والعيش والحرية (تحت التأسيس) – وتحالف 25/30 البرلماني وشخصيات ليبرالية ويسارية، وكان مقررًا الإعلان عن خلال أيام.
وكما أوضحت مصادر لموقع “مدى مصر“، يتطلع القائمون على هذا التحالف للمشاركة في الانتخابات البرلمانية عام 2020 كمعارضين للنظام في مصر، وقد عُقدت الاجتماعات بشكل دوري خلال الشهرين الماضيين في مقرات عدد من الأحزاب، على مسمع ومرأى من الجميع، لتوحيد القوى المدنية على مجموعة من القواعد أهمها عدم وجود مكان للفلول والإخوان.
يخشى النظام المصري أن تأتي موجة الغلاء بموجات غضب في الشارع المصري، وقد تزداد زخمًا بمشاركة وجوه شابة قادرة على حشد الشارع
وردًا على الاتهامات التي كالتها وزارة الداخلية في بيانها، خرج عبدالعزيز الحسيني، أحد قادة حزب الكرامة المعارض، ليقول إن هذه الاجتماعات مشروعة، وإن المتهمين أعضاء في أحزاب شرعية ولا علاقة لهم بجماعة الإخوان.
وعلى الرغم من نفي القائمين على “خطة الأمل” أي علاقة لهم بجماعة الإخوان المسلمين، وتأكيدهم على أن أطراف النقاش “معادية للإخوان إلى أبعد الحدود”، ومطالبتهم بالإفراج عن الشباب المعتقلين، إلا أن تهمة الانتماء للإخوان باتت جاهزة لكل من يسعى لتفعيل الحراك السياسي في بلد يضيق الخنق فيه على الحقوق والحريات.
رسائل قمعية
بغضّ النظر عن تاريخهم السياسي والفكري، انضم المقبوض عليهم إلى “طابور المظاليم” بسبب العمل السياسي، على الرغم من أن بعضهم ليس لهم صلة بهذا النقاش، ما يعني – بحسب نشطاء يساريين وناصريين – أن اعتقالهم جاء كمحاولة لافتعال وجود صلات غير منطقية بين الشخصيات المساهمة في التحالف، كالعليمي ومؤنس والشنيطي، وبين شخصيات أخرى لخدمة الرواية الأمنية غير المنطقية.
ثمة من يعزو هذه الاعتقالات إلى هواجس لدى النظام المصري من تقارب بين قوى المعارضة خصوصًا بعد وفاة الرئيس محمد مرسي
وربما كانت رواية وزارة الداخلية قابلة للتصديق إذا كانت “الأذرع المحلية” لتنفيذ هذه “الخطة” من النشطاء الإسلاميين أو المتهمين بتمويل جماعة الإخوان، لكن لأن معظم هؤلاء يمكثون في سجون السيسي أو اختاروا الخروج من مصر منذ سنوات، كان لا بد من “أخونة” النشطاء اليساريين والليبراليين المقبوض عليهم.
في هذا الصدد، وصفت منظمة العفو الدولية “أمنستي” موجة الاعتقالات الأخيرة بـ” التعسفية والمروِّعة”، واعتبرت أنها تاتي تحت ستار “مكافحة الإرهاب” كجزء من اضطهاد السلطات المصرية الممنهج والقمع الوحشي لأي شخص يجرؤ على انتقادها، متهمةً النظام المصري بالسعي إلى “تحويل البلاد إلى سجن كبير، لا يُسمح فيه بأي معارضة أو صحافة مستقلة”.
وفي دوافعها الحقيقية، يتوقف كثيرون عند حملة الاعتقالات، فهي تأتي قبل أيام قليلة من الذكرى السادسة لمظاهرات 30 يونيو وانقلاب 3 يوليو، لكنها أيضًا تستبق حزمة قرارات اقتصادية جديدة، أبرزها رفع الدعم عن الوقود، وما يلي ذلك من موجة غلاء في السلع والخدمات.
ويصنف البنك الدولي 60% من المصريين، إمَّا فقراء أو أكثر احتياجًا، فالطبقة الوسطى في مصر تتلاشى بفعل سياسات التقشف وموجات رفع الدعم الحكومي والغلاء المتعاقبة وتحديدًا منذ عام 2016.
في هذا السياق، يخشى النظام المصري أن تأتي موجة الغلاء بموجات غضب في الشارع المصري، وقد تزداد زخمًا بمشاركة وجوه شابة قادرة على حشد الشارع، لذلك يسعى النظام لنشر رسائلة عبر القضاء على الكيانات والمنصات التي يمكن أن يستغلها المعارضون أو غير الموالين، خاصة بعد تدابير أخرى اتخذها خلال الأسابيع الماضية ضد الإعلام والمجال العام لإحكام السيطرة ومنع الأصوات المعارضة من التعبير عن أفكارها.
سياسيًا، ثمة من يعزو هذه الاعتقالات إلى هواجس لدى النظام المصري من تقارب بين قوى المعارضة خصوصًا بعد وفاة الرئيس محمد مرسي، وهو ما يثير تساؤلاً عن واقعية هذه المخاوف في وقت يعلم النظام حدة الاستقطاب والتشرذم الذي تُوصف به المعارضة سواء داخل مصر أو خارجها.