شهدت العاصمة السورية دمشق منذ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 نشاطًا دبلوماسيًا مكثفًا، حيث توافدت وفود عربية ودولية للقاء القيادة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، هذه اللقاءات أشبه ما تكون بتحول دراماتيكي في المشهد السوري أمام المجتمع الدولي، الذي يسعى إلى فهم توجهات الإدارة الجديدة وبحث سبل التعاون معها.
في 22 ديسمبر/كانون الأول 2024، استقبلت دمشق وفدًا من الجمهورية التركية تناول موضوعات أمنية واستراتيجية عديدة، وفي اليوم التالي جاءت زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، لسوريا ولقائه بالقائد أحمد الشرع، مؤكدًا استعداد الأردن لدعم إعادة إعمار سوريا وتعزيز الاستقرار، وفي اليوم نفسه، وصل وفد قطري برئاسة وزير الدولة في وزارة الخارجية، محمد الخليفي، على متن أول رحلة للخطوط الجوية القطرية إلى دمشق منذ سنوات، حيث أعرب عن التزام قطر بدعم الشعب السوري واستعدادها لتقديم الدعم الفني والمادي في مختلف المجالات وإعادة الإعمار.
في هذا السياق تصاعد الحراك الدبلوماسي على الأرض ومن خلال الاتصالات الهاتفية مع وزراء خارجية عرب كوزير خارجية مصر وعُمان والبحرين والسعودية، أما على الصعيد الدولي، فشهدت دمشق زيارات من وفود أوروبية، بما في ذلك بعثات أمريكية وفرنسية، حيث هدفت إلى بحث المرحلة الانتقالية في سوريا والتأكيد على أهمية بناء دولة قانون تضمن حقوق جميع المواطنين، ثم جاءت أول زيارة خارجية للإدارة الجديدة إلى المملكة العربية السعودية والتي ضمت وفدًا رفيع المستوى شمل وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الدفاع مرهف أبو قصيرة، إضافة إلى مسؤول المخابرات العامة أنس خطاب.
هذا الحراك الدبلوماسي المكثف يعكس اهتمامًا إقليميًا ودوليًا بمستقبل سوريا ورغبة في دعم الاستقرار وإعادة الإعمار، مع التأكيد على ضرورة تحقيق انتقال سياسي يضمن وحدة البلاد وسلامة أراضيها.
يمكن القول إنه منذ تولي الإدارة الجديدة زمام الأمور في دمشق، تواجه تحديًا مزدوجًا يتمثل في إعادة تعريف علاقتها بالمجتمع الدولي من جهة، ومعالجة التعقيدات الداخلية التي خلفها أكثر من عقد من الصراع من جهة أخرى، وتعكس الخطوات الدبلوماسية التي اتخذتها هذه الحكومة رؤية استراتيجية لتحسين مكانة سوريا دوليًا، لكنها في الوقت ذاته تُبرز التحديات التي تواجهها على المستويين الإقليمي والمحلي.
استئناف العلاقات الدبلوماسية.. نقطة البداية لإعادة التوازن الإقليمي
تعدّ عملية إعادة فتح عددٍ من البعثات الدبلوماسية العربية والغربية في دمشق علامة فارقة في مسيرة الحكومة المؤقتة نحو استعادة الشرعية الدولية، فالعلاقات مع الدول العربية مثل السعودية وقطر، وأيضًا مع تركيا، ليست مجرد خطوات رمزية، بل تحمل أبعادًا استراتيجية تتمثل في تعزيز التعاون الإقليمي لمواجهة التحديات المشتركة مثل وحدة سوريا، ومواجهة التحديات الأمنية وإعادة الإعمار.
في هذا السياق، تعدّ استجابة الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دليلًا على تطور ملحوظ في التعاطي الدولي مع الملف السوري. هذا التحول قد يكون مدفوعًا بإدراك المجتمع الدولي أن تجاهل سوريا يفاقم الأزمات في المنطقة، لا سيما في ظل الأزمات الإنسانية والأمنية المتزايدة.
ومع ذلك، يمكن القول إن هذه العلاقات تقوم على مبدأ الخطوة مقابل خطوة، إذ إن الدول العربية والغربية تراقب عن كثب مدى قدرة الحكومة المؤقتة على تحقيق الاستقرار الداخلي وضمان انتقال سياسي شامل، وربما أي فشل في تحقيق هذا الهدف قد يؤدي إلى تراجع الدعم الدولي، وفرض عزلة سياسية جديدة على الإدارة.
استقبال الوفود الدولية.. بناء الجسور بين الداخل والخارج
يعكس استقبال مسؤولين رفيعي المستوى مثل وزير الخارجية التركي والقطري والكويتي أو الدبلوماسيين الأمريكيين اهتمامًا دوليًا بسوريا، ليس فقط باعتبارها منطقة نزاع، لكن بوصفها جزءًا محوريًا في الاستقرار والأمن الإقليمي.
تركيا، على سبيل المثال، لديها مصالح مباشرة في تحقيق الاستقرار بسوريا، سواء من خلال إدارة ملف اللاجئين أو احتواء التهديدات الأمنية على حدودها. أما الولايات المتحدة، فقد ركزت على قضايا عديدة مثل إنهاء وجود إيران في سوريا، ومنع عودة تنظيم الدولة، إلى جانب قضايا أخرى مثل قضية الصحفي المفقود أوستن تايس، ما يُظهر اهتمامًا بمزج الأجندات المختلفة مع الاستراتيجية الأمنية.
هذه الزيارات تمثل اختبارًا لمدى قدرة الإدارة الجديدة على تقديم نفسها كشريك موثوق، خاصة في ظل انعدام الثقة الدولية بالوضع السوري نتيجة سنوات طويلة من الحرب وتعنت النظام، علمًا بأن الشراكة مع هذه الدول قد تفتح أبوابًا لدعم أكبر، لكنها تتطلب أيضًا تنازلات سياسية وحوكمة شفافة لضمان استمرار التعاون.
أبواب السعودية الدبلوماسية.. هل فُتِحت أمام الإدارة الجديدة؟
يعكس استقبال السعودية لوفد سوري رفيع المستوى يضم وزير الخارجية ورئيس الاستخبارات ووزير الدفاع، أهمية خاصة تتجاوز مجرد إعادة الانخراط الدبلوماسي أو تقييم الموقف السياسي من الإدارة الجديدة، حيث تأتي هذه الزيارة في سياق تعزيز العلاقات بين دمشق والرياض، فللسعودية دور محوريٌّ في النظام الإقليمي، ودعمها للإدارة الجديدة ضروري لتحقيق الاستقرار في سوريا، ما يرجح أن هذه الخطوة تأتي ضمن استراتيجيتها الأوسع لضمان الأمن الإقليمي، خصوصًا في ظل التوترات المستمرة بالشرق الأوسط.
تحمل الزيارة رسائل سياسية متعددة، أهمها تأكيد سوريا على استعدادها للتواصل مع الدول العربية المؤثرة واستعدادها لإعادة دمج نفسها ضمن المنظومة الإقليمية. من جهة أخرى، تعكس هذه الزيارة رغبة السعودية في لعب دور الوسيط الفاعل، خصوصًا فيما يتعلق بالقضايا الأمنية، مثل مكافحة الإرهاب وضبط النفوذ الإيراني في المنطقة ومعالجة تداعيات الحرب السورية على الدول المجاورة، بما في ذلك أزمة اللاجئين.
إضافة إلى ذلك، تمثل هذه الزيارة فرصة لاستكشاف سبل التعاون الاقتصادي، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار، حيث يمكن للسعودية أن تسهم بمواردها وخبراتها في دعم هذا الملف الحيوي. في الوقت ذاته، يرسل هذا اللقاء إشارات إيجابية للمجتمع الدولي حول إمكانية تحقيق توافق عربي حول مستقبل سوريا.
من الناحية الاستراتيجية، هذه الزيارة تُعتبر أيضًا فرصة للإدارة الجديدة لتقديم ذاتها طرفًا يمكن الوثوق به إقليميًا، وهو ما قد يساعد في فتح المجال أمامها دبلوماسيا وسياسيًا لتطوير حضورها في الإقليم والمجتمع الدولي.
ورغم ذلك، فإن نجاح هذه المبادرة يتوقف على تقديم دمشق خطوات ملموسة نحو الإصلاح السياسي، والالتزام بتعهداتها تجاه شركائها الإقليميين، خاصة مع ازدياد الحاجة إلى نهج أكثر شفافية ومرونة لضمان استمرار التعاون والدعم.
التعاون مع الاتحاد الأوروبي
الاتحاد الأوروبي الذي ظل لسنوات يدعو إلى حل سياسي في سوريا، يظهر الآن استعدادًا لدعم الحكومة المؤقتة. هذه الشراكة يمكن أن تكون حجر الأساس في إعادة الإعمار، خاصة أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بالخبرة والموارد اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة. لكن هذا الدعم يأتي مشروطًا بتلبية معايير صارمة تتعلق بالشفافية وحقوق الإنسان.
التعاون مع الاتحاد الأوروبي قد يكون أكثر من مجرد فرصة دعم مالي، إنه فرصة لإعادة بناء المؤسسات السورية على أسس أكثر عدالة وكفاءة. ومع ذلك، أي إخفاق في التعامل مع الاتحاد سواء من حيث دراسة شروطه وأجنداته، أو تنفيذ بعض المشروعات المرتبطة به، قد يؤدي إلى تراجع الدعم، ما يترك الإدارة الجديدة أمام تحديات كبيرة في رفع العقوبات ودعم الحراك الدبلوماسي وتطويره.
الحوار الوطني.. تحديات توحيد الصف الداخلي
يعكس الإعلان عن قرب إطلاق حوار وطني شامل إدراك الحكومة لحجم التحديات الداخلية، فسوريا اليوم تعاني من انقسامات اجتماعية عميقة بين مكوناتها العرقية والدينية والسياسية. وإطلاق هذا الحوار يتطلب استعدادًا لمواجهة حقائق قاسية، مثل جرائم الحرب والانتهاكات التي حدثت على مدى السنوات الماضية، بالإضافة إلى تحديات تمكين المكونات الاجتماعية كافة من صياغة المستقبل.
الحوار الوطني، رغم ضرورته، قد يصطدم بعقبات تتمثل في غياب الثقة بين الأطراف المختلفة، ومشكلة التمثيل، وسعي المؤسسات المعارِضة للمحاصصة، ما يعرقل الكثير من المخرجات، إلا أن النجاح في هذا المسار يعتمد على قدرة الحكومة على تقديم ضمانات حقيقية، وتوفير مساحة شاملة لكل الأصوات.
المستقبل بين الفرص والمعوقات
على الرغم من أن الخطوات الدبلوماسية التي اتخذتها الحكومة المؤقتة تعكس طموحًا في إعادة سوريا إلى الخريطة الدولية، فإن الطريق أمامها محفوف بالصعوبات، فالمشهد الإقليمي لا يزال متقلبًا، حيث تتصارع القوى الكبرى والإقليمية على النفوذ داخل سوريا. وهذه الصراعات قد تعيق أي تقدم دبلوماسي ما لم تنجح الحكومة في تحقيق توازن دقيق بين المصالح المتضاربة.
في الوقت ذاته، المشهد الداخلي يُلقي بظلال ثقيلة على هذه الجهود، فإذا فشلت الحكومة في تقديم حلول ملموسة لتحسين حياة المواطنين أو تحقيق العدالة الانتقالية، فإن شرعيتها قد تتآكل بسرعة. ويتطلب النجاح في هذا المسار خطة شاملة تتضمن البدء الفعلي في إعادة بناء البنية التحتية، وتمكين العدالة الانتقالية، وضمان مشاركة واسعة في صنع القرار، وتعزيز الخدمات وتحسين الحالة الاقتصادية وتدوير عجلة الإنتاج الصناعي.
الخلاصة
يمكن القول إن الخطوات الدبلوماسية للإدارة الجديدة تمثل بداية واعدة لإعادة بناء مكانة سوريا الدولية. ومع ذلك، فإن النجاح يعتمد على قدرتها على تحقيق الاستقرار الداخلي، وتعزيز الشراكات الدولية، وتقديم نموذج حكم يعكس طموحات الشعب السوري. في ظل التحديات الهائلة التي تواجهها، تبقى هذه الحكومة أمام اختبار حقيقي لإثبات أنها قادرة على قيادة البلاد نحو مستقبل أفضل.