من المعلوم أن مسألة الاعتناء بتربية وتعليم الأمراء، حظيت باهتمام كبير لدى سلاطين بني عثمان، فهم الذين سيرثون العرش بعد آبائهم، وهم أصحاب أراضي الدولة العثمانية، كما ذكر المؤرخ التركي الشهير إسماعيل حقي أوزون تشارشلي، فإنه منذ عثمان بك، مؤسس الدولة، كانت أراضي الدولة ميراثًا مشتركًا لكل العائلة العثمانية الحاكمة، واعتبارًا من عهد السلطان مراد الأول، صارت الأراضي العثمانية عائدة إلى السلطان وأبنائه فقط.
والأمير أو الـ”شهزاده” هو المولود من خاصكي السلطان أو جاريته، ويُشرف على تربية الأمير ما يُعرف بالـ”لالا” أي المُربّي، وعند بلوغ الأمير سن التعليم، يقوم بتعليمه نخبة من أشهر معلمي زمانه، حتى إن الاحتفال بختان الأمراء كان من أكثر الاحتفالات عظمة وأبهة، وكانت تستمر لعدة أسابيع، كما يذكر المؤرخ سلانيكي مصطفى أفندي.
ومن أجل تدريب الأمراء العثمانيين على أمور الإدارة والحكم، ظهر تقليد منذ تأسيس الدولة يقضي بإرسال كل الأمراء إلى أحد السناجق خارج العاصمة، ومن المعلوم أن الولايات العثمانية كانت تُقّسم إلى وحدات يُطلق عليها سنجق، وهي وحدة إدارية يتولاها حاكم عسكري “سنجق بك”، ويستلم الراية من السلطان رمزًا لسلطته، أما المسؤول عن الحفاظ على الأمن في هذه السناجق، كان يطلق عليه “صوباشي” وهو ما يشبه الشرطة في عالمنا الحديث.
من أول السناجق التي أُرسل إليها الأمراء العثمانيون: سنجق “كوجيلي” و”كارا حصار” وبعد اتساع رقعة الدولة في عهد السلطان مراد الأول، صار الأمراء يُرسلون إلى سناجق في مواقع أكثر حيوية
خبرة
وكان يتم إرسال الأمراء إلى هذه السناجق لسببين، كما يذكر المؤرخ ورجل الدولة خوجا سعد الدين: الأول، أن يكتسب الأمير خبرة في الإدارة حتى إذا صعد إلى العرش يكون قد اكتسب خبرة في إدارة شؤون هذا السنجق من قبل، ولديه الخبرة الكافية بأمور الحكم، والسبب الثاني أن وجود الأمير في هذا السنجق يجعل الناس تطيعه أكثر من طاعتهم لحاكم السنجق الذي يعينه السلطان.
ومن أول السناجق التي أُرسل إليها الأمراء العثمانيون: سنجق “كوجيلي” و”كارا حصار” وبعد اتساع رقعة الدولة في عهد السلطان مراد الأول، صار الأمراء يُرسلون إلى سناجق في مواقع أكثر حيوية، ويذكر إسماعيل حقي أوزون تشارشلي أن السلطان أورهان مثلاً تم إرساله إلى باليك كسير، والأمير مراد إلى كوتاهية.
وبحسب المؤرخ نفسه، فإن الأمراء كانوا يُرسلون إلى السناجق وهم في عمر الـ15 تقريبًا، وكان يُقام احتفال للأمير عند إرساله يُعرف بـ”شهزاده آلايي”، كما كانت تُرسل الهدايا مع الأمير، وكان يصاحبه مربيه مع شخصيات ذات خبرة في مجالات متعددة، وكان الـ”لالا” يخبر السلطان بتصرفات الأمير غير المعتدلة.
كان السلاطين يختارون السناجق التي يُرسل إليها الأمراء بعناية فائقة، ولم يكن الأمراء يحكمون هذه السناجق حسب إرادتهم
صلاحيات
وعن صلاحيات الأمير في هذه الفترة، فقد كان يتحرك في إدارة سنجقه بشكل مستقل، كما ينشئ ديوانًا صغيرًا على غرار ديوان السلطان، ويختار له الهيئة التي يراها مناسبة، كما يجتذب إلى جواره نخبة من رجال العلم والفكر، ويذكر المؤرخ يشار يتكي يوجال، أن الأمراء في أثناء هذه الفترة يصبحون مثل السلاطين، لكنهم في نفس الوقت كانوا مضطرين لأن يخبروا السلطان بالقرارات المصيرية، ولكن هناك بعض الحالات المختلفة، مثلما حدث مع محمد الثاني الذي سكّ عملة باسمه.
كما كان السلاطين يختارون السناجق التي يُرسل إليها الأمراء بعناية فائقة، ولم يكن الأمراء يحكمون هذه السناجق حسب إرادتهم، فقد كان السلطان يختار المدة الزمنية المناسبة لذلك، وكانت هناك ثلاثة معايير لاختيار السنجق: أولها أن تكون هذه الأراضي قد ضُمّت حديثًا إلى الدولة العثمانية، لأنها أكثر الأماكن التي من المحتمل أن تشهد عصيانًا من الأهالي، وبحسب المؤرخ مصطفى أكداغا، كان يُرسل إلى هذه السناجق أكبر الأمراء وأقربهم إلى العرش.
والمعيار الثاني، أن يكون هذا السنجق تابعًا قبل ذلك لأحد البكوات ثم أصبح مِلكًا للدولة العثمانية، وبحسب المؤرخ فريدون أميجان، فإن وجود أمير عثماني في هذه الأراضي يمنع حدوث عصيان أو هجوم على السنجق لمحاولة استرداده. أما المعيار الأخير، أن يكون الأمير مطلعًا على أمور التاريخ والفنون والحضارة والتجارة، لأنه سيصبح سلطانًا وعليه أن يكون صاحب تجربة في أمور عدة وليس في الأمور السياسية فقط.
ترجع أهمية “مانيسا” وفق المؤرخ فريدون أميجان إلى قربها من القسطنطينية، وهذا يعني أنه في حالة وفاة السلطان يستطيع الأمير الذي في مانيسا الصعود إلى العرش
أماسيا
وتعد “أماسيا” أبرز السناجق التي أُرسل إليها العديد من الأمراء، ومن بعدها سنجق “مانيسا” الذي شهد تدريب أمراء صاروا من أكبر سلاطين الدولة العثمانية، كسليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث، ووفق الموسوعة الإسلامية التركية، فإن العديد من الصراعات وقعت بين الأمراء بخصوص خيار الذهاب إلى هذا السنجق.
وترجع أهمية “مانيسا” وفق المؤرخ فريدون أميجان إلى قربها من القسطنطينية، وهذا يعني أنه في حالة وفاة السلطان يستطيع الأمير الذي في مانيسا الصعود إلى العرش، وكانت مسألة اختيار السنجق الأقرب من القسطنطينية مسألة نزاع حقيقي بين بعض الأمراء، كما حدث مع الأميرين سليم وأحمد، أبناء السلطان بيازيد الثاني، على سنجق “بولو” القريب من القسطنطينية.
وبحسب المؤرخ أنور ضياء كارال، فإن أول وثيقة عن دور وصلاحيات الأمير في إدارة السنجق، تعود إلى عهد السلطان سليم الأول، بشأن ولده الأمير سليمان في مانيسا، وتوضح الوثائق أن الأمراء كانت لهم صلاحيات واسعة في إدارة السنجق حتى عهد السلطان سليم الأول، ومنذ عهد السلطان سليم الثاني اقتصر الأمر على إرسال الأمير الأكبر فقط لإدارة أحد السناجق.
وأخيرًا، فقد استمر هذا التقليد حتى عهد السلطان أحمد الأول، ثم تم إلغاؤه وحل محله تقليد “القفص”، حيث يقضي الأمراء أغلب أوقاتهم داخل قسم محدد في سراي طوب كابي، واستمر هذا التقليد طوال القرنين الـ17 و18، وبحسب المؤرخ إسماعيل حقي أوزون تشارشلي، فإن تقليد القفص كان من أسباب ضعف الدولة العثمانية، حيث قلّت خبرة الأمراء بسبب عدم تدريبهم على أمور الإدارة والحكم.