كشف وزير النقل والبنية التحتية التركي، عبد القادر أوال أوغلو، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن عزم بلاده بدء مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع سوريا في البحر المتوسط بعد تشكّل حكومة دائمة في دمشق. مشيرًا إلى “قدرة هذه الصفقة على تحديد مساحات البلدين للتنقيب عن النفط والغاز، بما يتوافق مع القانون الدولي”، ما يعكس رؤية تركيا لتعزيز نفوذها الإقليمي في منطقة تشهد تنافسًا محتدمًا على ممرات النفوذ الجيوسياسي.
ورغم أن تصريحات الوزير التركي كانت واضحة في أن الحديث عن بدء تلك المفاوضات ليس على الأجندة حاليًا، بانتظار إقامة سلطة مستقرة في سوريا، فإّن الأمر أثار جدلًا واسعًا ومخاوف لدى بعض الأطراف، ومرد ذلك إلى اتفاقية ترسيم الحدود مع ليبيا التي وقعتها أنقرة مع طرابلس عام 2019 رغم وجود حكومتين في ليبيا وانقسامات حادة في البلاد.
وكانت أول الأصوات المعترضة قادمة من دولة الاحتلال “إسرائيل”، إذ نقل ضابط إسرائيلي رفيع المستوى، مخاوف دولة الاحتلال من تنامي نفوذ تركيا في سوريا، داعيًا في مقال نُشر بصحيفة معاريف العبرية إلى مواجهة هذه التطورات بالتعاون مع الولايات المتحدة عبر تفعيل “خطة مارشال” التي تتضمن إعادة إعمار سوريا وتقديم الدعم المادي والاقتصادي لها من خلال تحالفات إقليمية ودولية، لقطع الطريق على توسّع نفوذ تركيا في سوريا، منعًا لتشكل تحدٍ غير مباشر لـ”إسرائيل”.
يتناول تقريرنا هذا الخلفية التاريخية لصفقة ترسيم الحدود البحرية المحتملة بين تركيا وسوريا، مسلطًا الضوء على تفاصيلها وأبعادها. كما يناقش أسباب مخاوف بعض الدول من هذه الخطوة، ومحاولة فهم مدى تمتع الحكومة السورية الحالية بصلاحيات التصديق على مثل هذه الاتفاقيات.
خلفية جغرافية
تُعد مسألة ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا خطوة تحمل في طياتها جذورًا تاريخية تعود إلى التوترات الإقليمية حول استغلال الموارد الطبيعية في البحر المتوسط. منذ اكتشاف احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي في المنطقة، سعت دول شرق المتوسط، بما في ذلك تركيا، إلى تأمين حصتها من هذه الثروات عبر اتفاقيات ترسيم حدود بحرية تُحدد مناطق النفوذ الاقتصادي الحصري لكل دولة.
جغرافيًا، يمتد الساحل السوري بطول يقارب 180 كيلومترًا على البحر المتوسط، مشكِّلًا نقطة استراتيجية تفصل بين المياه الإقليمية التركية من الشمال (بالقرب من رأس البسيط جنوب الجبل الأقرع) واللبنانية من الجنوب. فيما تمتلك تركيا أحد أطول السواحل في شرق المتوسط، ما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في صياغة الحدود البحرية مع الدول المجاورة.
تسعى تركيا، من خلال هذا الترسيم، إلى رسم خط حدودي واضح يضمن حقها وحق سوريا في التنقيب عن الموارد الطبيعية ضمن المناطق الاقتصادية الحصرية لكل منهما.
يركز الترسيم المتوقع على مناطق تقع بين لواء إسكندرون وشمال اللاذقية، وهي مناطق ذات أهمية جيوسياسية واقتصادية كبرى، كونها تضم ممرات بحرية محتملة للموارد المكتشفة حديثًا. ومن المتوقع أن تشكل المناطق البحرية المحاذية لهذه الحدود محورًا رئيسيًا للاتفاق، ما يضع أساسًا لتنظيم حقوق التنقيب والاستغلال المستقبلي للموارد الطبيعية في البحر المتوسط.
الأهمية الاستراتيجية المتبادلة
تمثل الصفقة البحرية المحتملة فرصة استراتيجية لسوريا، في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية التي تعانيها البلاد. إذ إن ترسيم الحدود البحرية سيتيح لسوريا مستقبلًا تحديد مناطق نفوذها البحري بدقة، ما يمنحها الحق القانوني في التنقيب عن موارد الغاز والنفط واستغلالها، وهي موارد قد تكون حاسمة في دعم جهود إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد السوري. كما أن الاتفاقية قد تعزز من موقع سوريا الإقليمي، ما يمكنها من بناء شراكات اقتصادية جديدة مع دول الجوار، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام تعاون طويل الأمد يخدم المصالح المشتركة للبلدين.
في الجانب التركي، يُنظر لهذه الخطوة على أنها تاريخية من شأنها تعزيز نفوذ أنقرة الجيوسياسي والاقتصادي في منطقة شرق المتوسط. إذ تسعى تركيا إلى ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة من خلال تأمين حقوقها في الموارد الطبيعية وتقليل اعتمادها على واردات الطاقة، بما يدعم رؤيتها لتحقيق اكتفاء ذاتي مستدام. إضافة إلى ذلك، فإن الاتفاقية ستوفر لتركيا ممرات بحرية آمنة تسهم في تنفيذ خططها لتطوير البنية التحتية للطاقة وتحويلها إلى مركز إقليمي لنقل وتوزيع الغاز، وهو ما يدعم طموحاتها في أن تصبح لاعبًا رئيسيًا في سوق الطاقة العالمي.
وقدّر المسح الجيولوجي الأمريكي عام 2010 إجمالي منطقة حوض الشام من البحر المتوسط (مصر ولبنان وسوريا وفلسطين وتركيا و”إسرائيل”) بـ3450 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي و1.7 مليار برميل من النقط، ما زاد الاهتمام بالتوسع في مجال الاكتشافات البحرية للطاقة في المنطقة.
التخوف الإسرائيلي والرفض اليوناني
تواجه الصفقة منذ بدايات الحديث عنها، سخطًا كامنًا من “إسرائيل” واليونان، يعكس رفض توحّد البلدين وتوسع نفوذهما في منطقة شرق المتوسط. فبالنسبة لـ”إسرائيل”، يُنظر إلى أي خطوة من شأنها تعزيز قوة تركيا البحرية، كتهديد لمشروعات الطاقة الإسرائيلية، التي تعتمد بشكل كبير على التحالفات الإقليمية مع قبرص واليونان. وكذلك السيطرة على خطوط نقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا. ما سيعقد بطبيعة الحال خططها لتصدير الغاز عبر خطوط أنابيب آمنة ومحصنة من كل الجهات.
وقد أشار الضابط الإسرائيلي أوميت ياغور في مقال له بصحيفة معاريف، إلى أنه في حال تحقق حلم أنقرة بتحويل تركيا إلى مركز لتسويق الغاز إلى أوروبا، حيث سيمر خط الأنابيب من قطر عبر سوريا وتركيا وصولًا إلى ألمانيا، التي وقعت بالفعل على اتفاقية توريد الغاز المسال من قطر، فإنه بذلك “ينافس بقدر كبير صفقة القرن” التي تتضمن تصورًا لإنشاء طريق بري جديد ينطلق من الشرق عبر دولة الإمارات والمملكة السعودية متجهًا نحو “إسرائيل” وصولًا إلى أوروبا. محذرًا من أن تركيا وقطر “تحاولان تشكيل نظام إقليمي جديد”.
صفقة الإمارات تعزز خط أنابيب النفط الإسرائيلي الذي تم بناؤه سرا مع إيران
أما اليونان، فقد أعربت عن رفضها الصريح والقاطع لخطط تركيا لإبرام اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع سوريا، معتبرة أن أي اتفاق من هذا النوع “غير صالح قانونيًا” بسبب الطبيعة الانتقالية للحكومة السورية الحالية، حيث نقلت صحيفة “كاثيميريني” اليونانية عن مصادر دبلوماسية أن “الوضع في سوريا انتقالي، ولا يبرر مثل هذه الاتفاقيات”، مشيرة إلى أن اليونان بدأت تتابع التطورات عن كثب بالتنسيق مع قبرص والاتحاد الأوروبي للاتفاق على موقف موحد.
كما صرّح مسؤول يوناني قائلًا: “أولويتنا هي منع تركيا من خلق غطاء شرعي لمطالبها”، مضيفًا أن أثينا تعمل على تعزيز تحالفاتها مع قبرص و”إسرائيل” لمواجهة المناورات الإقليمية التركية.
صلاحيات الحكومة المؤقتة
تُثار تساؤلات عديدة حول مدى قدرة الحكومة السورية المؤقتة على التصديق على اتفاقيات إقليمية ذات طابع استراتيجي مثل ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، باعتبارها لا تملك حتى الآن الاعتراف الدولي الكامل، والصلاحيات السيادية الكاملة على كل أراضي سوريا، وهو ما يمنعها من إبرام اتفاقيات دولية مُلزمة. لكن بالنظر إلى مقاربة مشابهة تتمثل في الاتفاقية التي وقعها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج عام 2019، والتي كانت أيضًا لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فإن حكومة السراج أيضًا لم تكن تبسط سيادتها على الأراضي الليبية كافة.
ورغم الاعتراضات الداخلية والخارجية، صادق البرلمان التركي على مذكرة التفاهم مع ليبيا في 5 ديسمبر/كانون الأول 2019، وفي اليوم ذاته أقرها المجلس الرئاسي للحكومة الليبية المعترف بها دوليًا، فيما صادق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عام 2020 على الاتفاقية استنادًا إلى المادة 102 من ميثاق المنظمة الدولية.
عدا عن ذلك، يمكن لأنقرة التوقيع على مذكرة تفاهم أولية معها، تضع إطارًا عامًا لأي مفاوضات مستقبلية بشأن ترسيم الحدود البحرية، ما يسمح لها بضمان محددات عامة تحمي مصالحها، مع الاحتفاظ بالمرونة للتكيف مع التغيرات السياسية المقبلة في سوريا. فيما تبقى الحاجة إلى مراجعة تلك المذكرة واعتماد البرلمان السوري المقبل لها بعد تشكيله، لضمان توافقها مع مصلحة دمشق.
تتطلب المرحلة الانتقالية مجموعة من الخطوات الحاسمة، التي من شأنها كسب الاعتراف الدولي ومنح الحكومة السورية القدرة على ممارسة دورها كفاعل إقليمي ودولي. بدءًا بالحوار الوطني الشامل، ومرورًا بوضع دستور جديد، وانتهاءً بإجراء انتخابات نزيهة تحقق تطلعات السوريين في بناء دولة ديمقراطية. لكن تحقيق ذلك يتطلب توافقًا بين الدول المعنية بالملف السوري، نظرًا لتعقيدات الوضع الجيوسياسي. فسوريا اليوم تمثل نقطة تماس بين مصالح إقليمية ودولية متباينة، ما يجعل أي تقدم في بناء الشرعية والانتقال السياسي مرهونًا بتفاهمات أوسع بين الأطراف المؤثرة في مستقبل المنطقة.