لا يخفى على أحد بأن أبرز التساؤلات التي أفرزتها مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، تتعلق بالمسار الذي سوف تتخذه الأوضاع في العراق خلال المرحلة المقبلة، خصوصًا أن العراق أصبح اليوم الجبهة المتقدمة الوحيدة التي تمتلكها إيران في المنطقة، بعد تضاؤل قوة “حزب الله” في لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا، ورغم أهمية الجبهة اليمنية، والدور الذي يلعبه الحوثي في استراتيجية إيران الإقليمية، فإن الحالة الإيرانية في العراق، تبقى فريدة عن أي حالة أخرى، لما تمثله من ثقل سياسي وأمني واقتصادي، لطالما تفاخرت به طهران سابقًا.
ورغم أنه مع الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، بدأت العديد من الأحاديث في الداخل العراقي تتردد حول اشتراطات أمريكية ودولية تتعلق بحل الحشد الشعبي، والعلاقة مع إيران، والأهم الموقف من الوضع السياسي الجديد في سوريا، فالثابت أن كل هذه الأحاديث لم تتحول حتى الآن إلى استراتيجية على أرض الواقع، ولعل السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى عدم اتضاح رؤية وموقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الأوضاع في العراق والمنطقة بشكل عام.
إن النقطة المهمة التي يجدر الإشارة إليها في هذا السياق، تتعلق بالمسار الذي سوف تتعامل به حكومة رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، فيما يتعلق بالموازنة الحرجة بين ما تريده طهران وما تريده واشنطن في المرحلة المقبلة، ولعل السبب الرئيسي الذي يقف خلف رفض إيران استقبال السوداني، في زيارة عاجلة كان مقرر لها 1 يناير/كانون الثاني الجاري، هو انزعاج إيران من الخطوات الأخيرة للسوداني، سواء فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا والسعودية، أو إرساله لرئيس جهاز المخابرات بدمشق، خلافًا لرغبة العديد من قيادات الإطار التنسيقي الحليفة لإيران.
ملفات معقدة للغاية
يمكن القول بأن زيارة رئيس جهاز المخابرات العراقي، حميد الشطري، إلى دمشق الأسبوع الماضي، وكذلك الاجتماعات المكثفة التي تعقدها الأجهزة الأمنية العراقية، ومنها الاجتماع الأخير الذي عقدته مستشارية الأمن القومي العراقي، بمشاركة جهاز المخابرات والاستخبارات العسكرية والأمن الوطني ووزارات الدفاع والداخلية والهجرة والمهجرين، أمس الخميس، ما زالت تحصر الموقف العراقي مما يجري في سوريا بالمسار الأمني، وتحديدًا ملف تنظيم داعش.
تشير الرغبة العراقية إلى حسم هذا الملف بشكل سريع مع القيادة الجديدة في سوريا، واستباقًا لأي تحديات أمنية قد تفرضها إدارة ترامب المقبلة، والأهم كنهج أمني وقائي قبل أي تفاهم بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق، لأن مثل هذه المسارات قد تجعل العراق الطرف الأضعف في المعادلة، وما يشير إلى أهمية هذه الرغبة هي محاولة العراق استعادة 11 ألف معتقل من عناصر التنظيم في سجن غويران بشمال شرق سوريا، وكذلك نقل عوائلهم من مخيم الهول في الحسكة، إلى مخيم الجدعة في نينوى.
فضلًا عن ذلك فإن ما يشير إلى أهمية المتغير الأمني في سياق التعاطي العراقي مع التحديات الأمنية في سوريا، يتعلق بحوارات عراقية غير مباشرة مع قيادة قوات سوريا الديمقراطية، خصوصًا مع زيارة سرية أجراها مظلوم عبدي مؤخرًا إلى العراق، وهدفت هذه الزيارة إلى بناء مسار موازٍ للمسار الذي تعتمده بغداد حيال دمشق، من أجل حسم ملف معتقلي “داعش” مباشرة مع الأكراد، دون الحاجة للمرور عبر دمشق.
ولعل ما دفع بغداد للمراهنة على هذا المسار الموازي هي الاشتراطات المُقابلة التي قدمها القائد العام للقيادة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، خلال لقائه مع الشطري في دمشق الأسبوع الماضي، والتي تمحورت حول إبعاد الفصائل المسلحة الموالية لإيران عن الحدود مع سوريا، وتسليم بعض القيادات الأمنية السورية التابعة لنظام الأسد والتي لجأت إلى العراق بعد سقوط النظام، والأهم من أي إجراءات تهدد الأمن والاستقرار في سوريا انطلاقًا من العراق.
مما لا شك فيه أن النظام السياسي في العراق لا يثق من الوضع الجديد في سوريا، وما يغذي حالة عدم الثقة هذه هو تأثر القيادات السياسية العراقية، وتحديدًا الشيعية، بالنظرة الإيرانية للوضع في سوريا ما بعد الأسد، إذ يشير التزاحم الإقليمي والعربي الذي تشهده الساحة السورية اليوم، إلى سقوط ما يسمى بـ”الهلال الشيعي”، وصعود “الطوق السُني” الذي بدأ يعزل إيران تمامًا عن جغرافيا الشرق الأوسط، ما يعني عزل حلفاء إيران في العراق، وهو ما يجعل القادة الشيعة في العراق ينظرون لصعود السُنة في سوريا، على أنه مهدد لهم قبل إيران، ولعل ذلك يعود للترابط العضوي بين إيران وحلفائها في العراق.
طهران وواشنطن على الخط
إن بقاء العراق أسير التوازنات الحرجة بين طهران وواشنطن، سيزيد بدوره من حجم التعقيد الأمني الذي سيواجهه في المرحلة المقبلة، فمما لا شك فيه أن العراق سيكون محور سياسة الضغط الأمريكي حيال إيران بعد وصول ترامب، ولعل ملامح ذلك بدأت مع تقرير نشره موقع “Oil Price” الأمريكي، أمس الخميس، وتحدث عن نقاشات موسعة تجري بين أعضاء إدارة ترامب حول إمكانية فرض عقوبات اقتصادية على العراق بسبب التحايل على العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، فضلًا عن إيقاف العمل بمزاد العملة في العراق، والذي كانت تسيطر عليه بنوك عراقية على علاقة وثيقة بإيران، وتهرب ملايين الدولارات يوميًا إلى طهران، خارج نطاق القانون ونظام العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
إن التحدي الكبير الذي تواجهه حكومة السوداني يتمثل في كيفية إنتاج تصور عراقي يوازن بين الوضع الإقليمي ما بعد الأسد، ورؤية إيران وحلفائها في العراق، خصوصًا أن إيران وحلفاءها العراقيين، وتحديدًا الفصائل المسلحة، تحاول منع أي سلوك عراقي يتواءم مع المتغيرات الجديدة، وتحاول الإبقاء على وضع ما قبل سقوط الأسد، بسبب الخشية على إيران أولًا، ووضعها ضمن النظام السياسي العراقي ثانيًا، خصوصًا أنها تسيطر اليوم على مساحة واسعة من الحالة السياسية والأمنية والاقتصادية في البلاد.
إن الاشتراطات الأمريكية والدولية المتعلقة بضرورة إعادة هيكلة الوضع في العراق، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، تستهدف إنتاج تغيير ناعم في العراق، دون الحاجة لتكرار السيناريو السوري في العراق، لكن في مقابل ذلك تحاول إيران وحتى حلفائها رفض مثل هذه الاشتراطات، لأنها تهدف بالنهاية إلى تحويل إيران من دولة مهيمنة إلى دولة طبيعية في العراق، وحلفائها من مسيطرين إلى مشاركين، والأهم إنهاء أي تأثير للنفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما قد يجعل السوداني يواجه صراعًا كبيرًا داخل العراق، وتحديدًا من بعض قيادات الإطار التنسيقي، التي تتهمه بالتناغم مع هذه الاشتراطات من أجل الحصول على الولاية الثانية، وكسب ود إدارة ترامب القادمة.
إن محاولة إنتاج معادلة توازن بين التحديات والفرص تمثل النهج الأكثر تعقيدًا في سلوك حكومة السوداني، ورغم أن بوادر مثل هذا النهج بدأت تتضح أكثر فأكثر مع إعلان حكومة السوداني بأنها بوارد إجراء تعديل على اتفاق انسحاب القوات الأمريكية من العراق، والذي كان من المقرر أن يبدأ في سبتمبر/أيلول 2025، يمثل قناعة عراقية بأن بقاء القوات الأمريكية سيجعلها تكسب ود إدارة ترامب من جهة، وتؤمن نفسها من ارتدادات الوضع في سوريا ثانيًا، لكن في مقابل ذلك كيف ستوائم الحكومة بين رغبتها في نزع سلاح الفصائل المسلحة، أو إعادة هيكلة الحشد الشعبي، في ظل بقاء القوات الأمريكية.
كل هذه التصورات تشير بما لا يقبل الشك بأن العراق مُقبل على تحديات كبيرة في العام الحالي، فالوضع اليوم مفتوح على مسارات وسيناريوهات عديدة، وما يزيد من خطورة هذه السيناريوهات هو عدم وجود اتفاق عراقي على أولويات السياسة الخارجية، والأهم أنه لا يوجد تصور واضح حول ما يريده العراق من سوريا ما بعد الأسد، وهل ستتأثر هذه الإرادة بطبيعة العلاقات الإيرانية الأمريكية في المرحلة المقبلة، أم سيبني نهجه الخاص بعيدًا عن أي تأثيرات أخرى.