تواصل القوات العسكرية التابعة لحكومة الوفاق الليبية تقدمها على حساب ميليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في محاور قتالية عدة، بالتزامن مع رفع دعوات قضائية ضد هذا الأخير تتعلق بارتكابه جرائم حرب. خسائر كبرى لحفتر نتيجة عوامل عدة دفعته والأطراف الداعمة له إلى الاستنجاد بورقة المفاوضات.
استرجاع غريان
آخر الانتصارات العسكرية لحكومة الوفاق التي يقودها رئيس الوزراء فائز السراج كانت في غريان، حيث تمكنت قوات تابعة للحكومة أمس الأربعاء من السيطرة على كامل مدينة غريان (100 كيلومتر جنوب طرابلس)، ودخول مقر غرفة العمليات الرئيسية لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، التي يدار منها الهجوم على العاصمة طرابلس.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام محلية صور تظهر عناصر من قوات حكومة الوفاق في وسط مدينة غريان الإستراتيجية وآليات مدمرة لقوات حفتر وعددًا من العسكريين التابعين لقواته مقيدي الأيدي وتستجوبهم عناصر قوات الوفاق.
انهيار قوات حفتر تم في فترة وجيزة، وفق الإعلامي والكاتب الصحفي الليبي عصام الزبير الذي قال في تصريح لنون بوست: “قوات حفتر انهارت بشيء من العجب نتيجة هجوم خاطف لقوة حماية غريان والقوة المساندة لها من الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق”، وأوضح الزبير أن قوات حكومة الوفاق، دخلت مقر غرفة العمليات لقوات حفتر وغنمت العديد من الآليات العسكرية، ومنها طائرة إماراتية مسيرة دون طيار، بالإضافة إلى قتل 57 من قوات حفتر وجرح 75 آخرين وأسر 78 مسلحًا تابعين له من جنسيات مختلفة على غرار التشاد والسودان.
يبدو حفتر الآن مرتبكًا أكثر من أي وقت مضى، فالدعم العسكري الذي كانت فرنسا ومصر والإمارات يعدونه به لم يجده
من جهته، أعلن المركز الإعلامي لعملية “بركان الغضب” – التابع لحكومة الوفاق – أن قواتها اقتحمت مقر غرفة العمليات للهارب عبد السلام الحاسي ومعسكراته بالكامل، بعد انتفاضة من الداخل، ووصول دعم من خارج المدينة، في عملية خطط لها بإحكام، ودعمها نسور الجو باحترافية كاملة، لإنجاز العملية في أقل من 24 ساعة.
عقب السيطرة على غريان، أكد المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا استمرار القوات التابعة لها في مرحلة الهجوم إلى حين دحر ميليشيات الكرامة التي يقودها حفتر من المناطق التي دخلتها كافة، مجددًا دعوته لجميع من وصفهم بالمغرر بهم إلى تسليم أسلحتهم.
ضربة كبيرة لقوات حفتر
تعتبر غريان أكبر مدينة في الجبل الغربي من حيث عدد السكان والمساحة، وهي معبر حيوي لسكان الجبل الذين يتخطى عددهم نصف مليون نسمة في طريقهم إلى العاصمة طرابلس. وكان حفتر يتخذ هذه المدينة القاعدة الأمامية الرئيسية لعمليته العسكرية ضد العاصمة، حيث تصل إليها القوات والأسلحة والذخيرة من الشرق.
تشكل استعادة قوات حكومة الوفاق هذه المدينة انتصارًا مهمًا وإستراتيجيًا، ذلك أن حفتر خسر النقطة التي ترتكز عليها قواته في الشرق، بما سينعكس سلبًا على ميليشياته المقاتلة على مشارف طرابس منذ أكثر من شهرين.
وكان حفتر قد أعلن في الـ4 من أبريل/نيسان الماضي، وقبل أكثر من شهر، بداية حملة عسكرية تستهدف العاصمة طرابلس التي توجد فيها حكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليًا، فضلاً عن سفارات وبعثات الدول الأجنبية وهيئة الأمم المتحدة، وقال حينها إن احتلال العاصمة لن يستغرق أكثر من 48 ساعة إلا أنه فشل في ذلك، حيث لم يتمكن إلى الآن من إحراز أي تقدم يذكر.
من شأن سيطرة قوات الوفاق على مدينة غريان، قطع خط إمداد رئيسي عن قوات حفتر في المحاور المتقدمة للقتال ضد العاصمة، خاصة مطار طرابلس وخلة الفرجان وصلاح الدين وعين زارة ووادي الربيع، وهو ما سيضعف قواتها المقاتلة هناك.
هروب قوات حفتر خارج غريان
ما حدث في غريان جعل قوات حفتر تبتعد أكثر، فهم يخشون تصاعد الهجمات عليهم، خاصة أن الطيران الحربي للوفاق كثف ضرباته الجوية مستهدفًا الآليات العسكرية ونقاط تمركز قوات حفتر، وفق عضو الجبهة الإعلامية لحماية العاصمة طرابلس عصام الزبير.
خسارة غريان، جاءت بعد أيام قليلة من خسارة قوات حفتر لأجزاء واسعة من مطار طرابلس القديم، بعد أن اقتحمت قوات حكومة الوفاق الليبية، المطار من ثلاثة محاور، وهو ما يزيد من متاعب حفتر، وفي 12 من يونيو/حزيران الحاليّ، أطلقت قوات حكومة الوفاق هجومًا لاستعادة مطار طرابلس الدولي الذي تتمركز فيه قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر منذ قرابة شهرين.
في غضون ذلك، رفعت عائلات ليبية أمريكية دعوى قضائية ضد خليفة حفتر أمام محاكم بولاية فرجينيا على مقربة من العاصمة واشنطن، باعتباره مواطنًا يحمل الجواز الأمريكي، وفي تصريح للجزيرة قال محامي العائلات إن الأدلة التي ستقدم للمحكمة هي مقاطع من خطابات حفتر في الأشرطة المتوافرة، مؤكدًا استمراره في ارتكاب الجرائم ووجوب محاكمته كمجرم حرب.
وفي أبريل/نيسان الماضي قالت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا إنها لن تتهاون في مقاضاة الأفراد المتهمين بجرائم حرب بسبب الهجوم الذي شنته قوات حفتر على العاصمة الليبية طرابلس.
المفاوضات للتغطية على الانهيار
أمام هذا الانهيار لقواته في محاور عدة، يسعى حفتر إلى حفظ ماء وجهه، حتى يضمن لنفسه مكانًا في مستقبل البلاد، وعليه يسعى حاليًّا إلى الدفع نحو المفاوضات ووقف القتال، بعد أن كان يؤكد تواصل عملياته إلى حين السيطرة على طرابلس.
يبدو حفتر الآن مرتبكًا أكثر من أي وقت مضى، فالدعم العسكري الذي كانت فرنسا ومصر والإمارات يعدونه به لم يجده، ما سهل انهيار قواته بسرعة دون أن تحقق المطلوب، هذا الارتباك يتبين من خلال خروج المتحدث باسم ميليشياته اللواء أحمد المسماري، في تصريح صحفي لعرض مبادرة لحل الأزمة في البلاد.
كما سجل ليبيون سعي المبعوث الأممي غسان سلامة لحل الأزمة، حيث بدأ سلامة في رحلات مكوكية بين الرجمة وطرابلس وعقد لقاءات عديدة هو ونائبته ستيفاني مع مختلف الأطراف، ويرى عصام زبير أن هذا السعي جاء بعد ضغط مورس عليه من الأطراف الأجنبية الداعمة لحفتر، نتيجة تأكدها خسارة حفتر لحرب طرابلس وفقدانه عنصر المبادرة، حيث خرجت الأوضاع عن سيطرته.
التحولات في موقف الإمارات، تبين فشل الرهان العسكري على حفتر، والسعي إلى عدم خسارة كل نقاط قوتها هناك
يقول عضو الجبهة الإعلامية لحماية العاصمة طرابلس: “قبل أيام قليلة رأينا قيادة حفتر تقول لا صلح ولا تفاوض إنما الاستمرار في المعركة وهجومها واعتدائها على العاصمة بدعوى محاربة الإرهاب، لكن اليوم هذه القيادة تعلن مبادرة للجلوس على طاولة مع أطراف تحاربها ولا تعترف بها.
ويسعى حلفاء حفتر إلى عودة الحوار في ليبيا نتيجة فشله في السيطرة على طرابلس بعد أكثر من شهرين على بداية الحرب ضدها، وبلغت حصيلة هذه الحرب 739 قتيلاً، بينهم 41 مدنيًا و4407 جرحى بينهم 137 مدنيًا، وفق منظمة الصحة العالمية في ليبيا.
قبل يومين، التقى غسان سلامة ترافقه نائبته للشؤون السياسية ستيفاني وليامز، برئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، بعد جولة في المنطقة الشرقية حيث التقى خليفة حفتر ورئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح.
وقالت البعثة الأممية في بيان على صفحتها نشرته في ساعات الصباح الأولى من يوم الثلاثاء، إن الجانبين ناقشا “آخر التطورات وأطر الإسراع في الانتقال لمرحلة الحلول”، وتم إطلاع السراج على نتائج المباحثات مع مسؤولين رفيعي المستوى في المجتمع الدولي.
الإمارات تعدل البوصلة
في ظل هذه الخسائر التي تكبدتها قوات حفتر، بدأت الإمارات العربية المتحدة في تعديل بوصلتها، حيث دعا وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش إلى تحريك الجمود والعودة للعملية السياسية في ليبيا بوساطة الأمم المتحدة.
لم يتوقف قرقاش عند هذا الحد بل أنكر طلب بلاده من حفتر الهجوم على طرابلس، ويعتبر هذا الأمر تحولاً كبيرًا في الموقف الإماراتي، حيث تعتبر هذه الدولة العربية أبرز شريك لحفتر في عملياته العسكرية في مختلف مناطق ليبيا، وكانت تقارير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة أكدت تزويد الإمارات لحفتر بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة وحتى بالطائرات دون طيار، في مخالفة لقرارات مجلس الأمن بحظر السلاح إلى ليبيا.
يسعى حفتر للعودة إلى طاولة الحوار
ضمن نفس التمشي، أطلق تحالف القوى الوطنية الذي يقوده السياسي الليبي محمود جبريل الذي يعد أحد أذرع الإمارات في ليبيا، مبادرة لحل الأزمة، أبرز تفاصيلها عقد هدنة من 15 إلى 40 يومًا، والدعوة إلى عقد مؤتمر في ثلاثة مستويات: سياسي واجتماعي وعسكري.
هذه التحولات في موقف الإمارات، تبين فشل الرهان العسكري على حفتر والسعي إلى عدم خسارة كل نقاط قوتها هناك، فهي تلعب على جميع الأصعدة، وما إن تفشل خطة حتى تصعد بخطة ثانية مكانها، وكل ذلك من أجل إحكام سيطرتها على ليبيا ومدخراتها.