بينما اختار بشار الأسد سيناريو الهروب المفاجئ بعد 14 عامًا من الحرب الوحشية ضد السوريين، يبدو أن آثار انتهاكات نظامه ستظل تلاحق السوريين إلى وقت غير معلوم.
صمت المدافع والطائرات في سوريا بعد أقل من شهر على نهاية حكم الديكتاتور الهارب، لم يكن في الواقع دافعًا لوقف نزيف الدم السوري، ولا نهاية للمأساة الممتدة على كامل الجغرافيا السورية الدامية، فلا يزال نوع مختلف من التدمير يفتك بأجساد البشر، والمصيبة فيه أنه “قاتل صامت”، ليس فيه هدير الطائرات وأزيز الرصاص، يختبئ في الأرض في حالة نوم عميق، ولا يلبث أن يقتنص ضحيته بمجرد المرور من فوقه.
سوريا هي الأسوأ عالميًا
خلال سنوات من الحرب في سوريا، شكلت الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة، لا سيما العنقودية منها، واحدًا من أكبر التحدّيات الإنسانية، في ظل عدم وجود خرائط تشير لمواقع انتشارها، وضعف الإمكانيات المحلية في إزالتها ومكافحة أخطارها.
وفي تقرير صدر عام 2021، وصفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، سوريا بأنها “من أسوأ دول العالم في كمية الألغام المزروعة منذ عام 2011″، رغم حظر القانون الدولي استخدامها، مشيرة إلى أن الألغام قتلت ما لا يقل عن 2601 مدني في هذا البلد منذ عام 2011، بينهم 598 طفلًا و267 سيدة، أي أن 33% من الضحايا نساء وأطفال.
فيما خلص تقرير لـ”مرصد الألغام الأرضية”، إلى أن سوريا سجلت الحصيلة الأعلى عام 2020 من ضحايا الألغام بـ2729 ضحية (قتلى ومصابين) من أصل 7073 شخصًا قُتلوا أو أصيبوا في العالم أجمع.
وحمّل تقرير صدر عن “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” عام 2022، نظام الأسد البائد، المسؤولية عن تحييد خطر الألغام، لافتًا إلى ما أسمّاها “المخاطر المميتة التي تشكّلها الألغام الأرضية في سوريا، خاصة في ظل عدم وجود برنامج وطني أو دولي لنزع الألغام في البلاد”.
وتتنوع مخاطر الألغام الأرضية والقنابل العنقودية غير المنفجرة، بين القتل وحوادث بتر الأطراف، وشكّلت خلال السنوات الماضية مصدر رعب للمدنيّين في ظل انتشارها العشوائي، وعدم وجود لافتات تحذيرية في ظل استخدامها خلال المعارك كسلاح لمنع التقدم والسيطرة، وهو ما فعلته قوات الأسد – على سبيل المثال – خلال المواجهات مع تنظيم داعش على تخوم مدينة دير الزور من الجهة الجنوبية والغربية، حين زرعت آلاف العبوات المتفجرة خلال المعارك، ولم تقم في وقت لاحق بإزالتها أو التنبيه إلى مخاطرها.
وينطبق الأمر نفسه في عدة مناطق، بينها ريف حماة الشرقي المتصل بالبادية السورية، وريف محافظة إدلب الشرقي والجنوبي، وهو ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا المدنيين – في دير الزور وحماة تحديدًا – في موسم الربيع، خلال البحث عن “الكمأة”، أو خلال التنقل بين منطقة وأخرى.
إرث ثقيل وموت مستمر
خلال الأسابيع التي تلت سقوط نظام الأسد، نشرت صفحات التواصل الاجتماعي المحلية، أخبارًا عن عدّة حوادث تعرّض فيها مدنيون لخطر الألغام، تراوحت بين القتل والإصابة الشديدة والبتر، في المناطق التي تحررت من سيطرة قوات الأسد.
وفي أحدث تقرير لها، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل 45 مدنيًا بينهم 6 أطفال و4 سيدات بأنحاء البلاد، بسبب انفجار ألغام أرضية، وذلك في الفترة الممتدة بين 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (موعد بدء عملية “ردع العدوان”) و31 ديسمبر/كانون الأول المنصرم.
وأوضحت الشبكة في تقريرها أن “الانتشار الواسع للألغام الأرضية عبر مساحات شاسعة من سوريا يشكل تهديدًا مباشرًا لحياة النازحين العائدين إلى أراضيهم ومناطقهم”، فيما وثقت مقتل 3 آلاف و521 مدنيًا منذ عام 2011 وحتى نهاية العام 2024، بسبب انفجار الألغام الأرضية، بينهم 931 طفلًا و362 سيدة، إضافة إلى 7 من كوادر الدفاع المدني، و8 من الكوادر الطبية، و9 من الكوادر الإعلامية.
كما أشارت إلى أن “سهولة تصنيع الألغام وكلفتها المنخفضة جعلتها أداة تُستخدم بشكل مكثف من قبل أطراف النزاع المختلفة، دون الاكتراث بالإعلان عن مواقعها أو إزالة آثارها، ويبرز ذلك بوضوح في المحافظات التي شهدت اشتباكات مكثفة وتغييرات متكررة في مواقع السيطرة خلال السنوات الماضية”.
وفي تقرير حمل عنوان “إرث ثقيل من مخلفات الحرب والألغام الأرضية تركه نظام الأسد المجرم… كموت مؤجل للسوريين”، قال فريق الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، إنّ فرق المسح التابعة له، حددت 95 حقلًا ونقطة تنتشر فيها الألغام ومخلفات الحرب، في المناطق المدنية وبالقرب من منازل المدنيين وفي الحقول الزراعية والمرافق، في المدن والبلدات التي كانت تسيطر عليها قوات النظام وحلفائه، في ريفي إدلب وحلب فقط، فيما عثرت الفرق على العشرات من حقول الألغام التي تحتوي على الألغام المضادة للآليات والمضادة للأفراد المحرمة دوليًا، والتي تسببت حالات انفجارها بمقتل وإصابة العشرات من المدنيين خلال الأيام السابقة.
وحذر التقرير من أن “هذا الخطر الكبير لمخلفات الحرب والألغام”، والذي استمر على مدى سنوات وما زال حتى الآن، ستبقى أخطاره “لسنوات أو حتى لعقود قادمة، ومع وجود تلك الذخائر وانتشارها في جميع أنحاء سوريا، ستستمر الخسائر لفترة طويلة”.
وتشكّل حقول الألغام العشوائية في مناطق التماس السابقة، عائقًا رئيسيًا لعودة المدنيين إلى قراهم وبلداتهم التي تحررت من قبضة الأسد خلال عملية “ردع العدوان”، وفي هذا الصدد يقول مدير برنامج إزالة مخلفات الحرب والذخائر في منظمة الدفاع المدني السوري، سامي محمد، إن “معظم السوريين يرغبون بالعودة إلى بيوتهم ومنازلهم وإجراء العمليات الزراعية في أراضيهم، لكن العودة العشوائية تتسبب بالكثير من الحوادث”.
وشدد محمد خلال لقاء إعلامي، على أهمية أن تكون العودة “منظّمة، وبالتنسيق مع المجتمع والسلطة والمجالس المحلية الموجودة في هذه المناطق قبل العودة وقبل إجراء أي عمليات زراعية في الأراضي، لأن معظمها تحت خطر المخلفات الحربية”.
وفي تقريرها السابق، قدمت الشبكة خرائط تقريبية توضح المناطق التي يُرجح أنها مزروعة بالألغام في مختلف محافظات سوريا، وبناء على ذلك نشر موقع “الجزيرة نت”، خريطة تقريبية برزت فيها محافظات ملوثة بنسب أعلى من غيرها بالذخائر العنقودية والألغام، مثل حلب وإدلب وحماة وحمص والرقة ودير الزور والحسكة، وبدرجة أقل دمشق ودرعا والسويداء.
إجراءات وتوصيات أوّلية
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلنت في تاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2005، يوم 4 أبريل/نيسان من كل عام، اليوم الدولي للتوعية بمخاطر الألغام والمواد المتفجرة والمساعدة في الأعمال المتعلقة بالألغام، ودعت إلى استمرار الجهود التي تبذلها الدول، بمساعدة من الأمم المتحدة والمنظمات ذات الصلة المشاركة في الأعمال المتعلقة بالألغام وتشجيع بناء قدرات وطنية وتطويرها في مجال الأعمال المتعلقة بالألغام في البلدان التي تشكل فيها الألغام والمخلفات المنفجرة للحرب تهديدًا خطيرًا على سلامة السكان.
فيما حدّدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، عدة إجراءات وتوصيات، بخصوص تقليل أضرار الألغام ومخلفات الحرب، وحماية المدنيين من مخاطرها، ومن أهم هذه الإجراءات:
– تنفيذ برامج توعية تستهدف الفئات الأكثر عرضة للخطر، مثل الأطفال، لزيادة الوعي بمخاطر الألغام.
– نشر خرائط محدثة حول المناطق الملوثة وتحذير المدنيين من الاقتراب منها.
– إدراج تعليمات عن أخطار الألغام ضمن المناهج المدرسية وبرامج التوعية المجتمعية بأساليب مناسبة للفئات العمرية المختلفة.
– الالتزام بالمعاهدات الدولية مثل معاهدة أوتاوا لحظر الألغام واتفاقية الذخائر العنقودية لضمان عدم استخدام هذه الأسلحة في المستقبل.
– الابتعاد عن المواقع التي تحمل علامات تحذيرية أو يُشتبه بأنها ملوثة، مثل المناطق العسكرية المهجورة أو الخنادق والمطارات.
– عدم لمس الأجسام المشبوهة، وتعليم الأطفال أن هذه الأجسام ليست ألعابًا، والإبلاغ عن هذه الأجسام.
– السير في مسارات واضحة ومنتظمة، وتجنب الطرق المختصرة عبر الحقول أو المناطق التي لم يتم التأكد من تطهيرها.
– الامتناع عن زراعة الأراضي غير المطهرة، والتعاون مع فرق إزالة الألغام لتحديد المناطق الآمنة للزراعة.
– إنشاء قنوات تواصل مجتمعية للإبلاغ عن وجود ألغام أو ذخائر غير منفجرة لضمان إزالتها بسرعة من قبل الفرق المتخصصة.
ورغم الجهود الخاصة التي تبذلها الفرق المحلية في سوريا للتصدي لمخاطر الألغام وإزالتها، فإن هذه المهمة تبقى أكبر من الإمكانات المتاحة، ما يضع المجتمع الدولي والأمم المتحدة أمام مسؤولية التدخل العاجل والنوعي، وإرسال معدات متطورة وفرق خاصة بتحديد حقول الألغام وإزالتها، لوقف نزيف المدنيين السوريين أمام هذا الموت المختبئ.