المكان: مدينة العريش بشمال سيناء
الزمان: مساء يوم الثلاثاء الماضي
الحدث: هجمات استهدفت كمائن عسكرية
نقل تنظيم ما يُسمى “ولاية سيناء” معاركه إلى وسط مدينة العريش شمال شرقي البلاد، ﻷول مرة منذ عامين، وتحديدًا منذ واقعة الهجوم على فرع البنك الأهلي والسطو على أمواله، واستهداف كمائن أمنية مجاورة في 16 من أكتوبر/تشرين الأول 2017، حينها تحولت العريش إلى مدينة أشباح، وسط حالة من الصمت التي عمت أرجاء المدينة مع اختفاء تام للمواطنين المدنيين الذين سقط منهم قتيلين.
وفي سلسلة هجمات متزامنة، هاجم مسلحون منطقة تمركزات أمنية في مدينة العريش شمالي سيناء المصرية في وقت متأخر من ليل الثلاثاء، وأسفرت الهجمات عن سقوط 7 قتلى (ضابط برتبة نقيب و6 مجندين) من قوات الأمن التي قال بيان لوزارة الداخلية المصرية إنها تصدت للهجوم، بالإضافة إلى سقوط 4 من العناصر المسلحة التي نفذت الهجوم.
سلسلة هجمات جديدة
بدأت القصة بحسب الروايات التي تناقلها أهالي مدينة العريش بإطلاق رصاص كثيف نحو الساعة التاسعة من مساء الثلاثاء الماضي، عند ارتكاز قوات الشرطة بالقرب من شارع وادي العريش الذي يقع في منطقة مكتظة سكانيًا، الأمر الذي تسبب في حالة من الذعر، ودفع الأهالي للهروب من مناطق تبادل إطلاق النار، بينما احتمى المهاجمون بجدران المنازل كسواتر عند الهجوم.
وبالتزامن مع هذا الاشتباك، سمع الأهالي أصوات أعيرة نارية مكثفة في منطقة موقف سيارات السرفيس الداخلي، حيث يوجد ارتكاز بجوار مرفق إسعاف شمال سيناء الرئيسي، وأمام مقر الحزب الوطني المنحل سابقًا، ويضطلع الموجودون في هذا الارتكاز بمتابعة حركة السير في ميدان الرفاعي، أكبر ميادين العريش، الذي يقع على بعد أمتار قليلة من الارتكاز.
خطفت “الفضيحة الأخلاقية” التي ضربت معسكر المنتخب المصري في أمم إفريقيا 2019 الأضواء بعيدًا عن هجمات سيناء، خاصة بعد اتهام عارضة أزياء 4 لاعبين بالتحرش اللفظي بها على إنستغرام
ووقع الاشتباك الثالث بالأسلحة الآلية في ارتكاز لقوات الشرطة، يحاذي مقبرة العريش جهة حي الصفا، ونظرًا لخطورة الأوضاع على الأهالي أطلقت بعض المساجد نداءات للأهالي، بالالتزام داخل المنازل خشية إصابتهم بالأعيرة النارية، وعدم النظر من النوافذ أو الشرفات.
وذكرت صفحة “أخبار شمال سيناء”، التي تقوم بتغطية مدن شمال سيناء على “فيسبوك” أن الهجوم استهداف كمائن سد الوادي والمعهد الأزهري والموقف القديم، وأضافت أن السكان اضطروا لإغلاق المحلات والبيوت في شارعي 23 و26 من يوليو التجاريين وسط المدينة بسبب استمرار الاشتباكات لأكثر من ساعة بين قوات الجيش والشرطة وعناصر التنظيم المسلحة.
منطقة شمال سيناء تعيش حالة من عدم الاستقرار منذ سنوات
وبحسب بعض الروايات، وصل عناصر التنظيم المسلحين مترجلين في محيط الارتكازات الثلاث بملابس مدنية وبينهم ملثمون يحملون أسلحة رشاشة، في حين ذكر شهود عيان أن قوات الأمن نجحت في قتل “عنصر انتحاري”، حاول تفجير نفسه بحزام ناسف في الارتكاز الواقع قرب ميدان الرفاعي.
وفضلاً عن نقل البيان الذي نشرته وزارة الداخلية عقب الهجمات، تحدثت وسائل الإعلام المحلية المحسوبة على النظام عن بطولات القوات الأمنية ونجاحها في إحباط “هجوم إرهابي”، بفضل ما قالت إنه “يقظة وتجهيزات القوة التي حالت دون استهداف نقاط التفتيش الأمني، وبادرت بالتعامل على الفور مع العناصر الإرهابية وتبادل إطلاق النيران معهم”.
أمَّا على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد خطفت “الفضيحة الأخلاقية” التي ضربت معسكر المنتخب المصري في أمم إفريقيا 2019 الأضواء بعيدًا عن هجمات سيناء، خاصة بعد اتهام عارضة أزياء 4 لاعبين بالتحرش اللفظي بها على إنستغرام، ثم استحوذ عمرو وردة لاعب أتروميتوس اليوناني على مساحة أكبر من النقاش، بعد استبعاده بشكل رسمي من صفوف المنتخب المصري لأسباب سلوكية، حيث انتشرت مقاطع مصورة مخلة لوردة في الساعات الماضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي أدت بدورها إلى اتخاذ القرار من جانب مسؤولي المنتخب.
ضحايا لا بواكي لهم
كما جرت العادة، انعدم الحديث عن سقوط مدنيين في هذا الحادث في وسائل الإعلام، في حين ذكرت بعص الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي أن مواطنًا يُدعى أحمد يعقوب لقي مصرعه حرقًا داخل سيارته التي انفجرت بعد إصابتها بأعيرة نارية خلال الاشتباكات، كما أُصيب شخص آخر برفقته، وأصيبت سيدة أخرى بطلق ناري طائش بالفخذ، وتم نقلها إلى مستشفى العريش العام.
ويشير ذلك إلى أسلوب اعتادت عليه وسائل الإعلام مؤخًرًا، فبالنظر إلى الهجمات التي وقعت في الفترة الأخيرة، نجد أن استهداف المدنيين تصاعد خلال هذا الشهر، فالهجوم الأخير يأتي بعد أيام قليلة من هجوم مسلح آخر راح ضحيته 4 عمال مدنيين وأصيب 8 آخرون كانوا يشاركون بأعمال سور مطار العريش بمحافظة شمال سيناء.
“هيومان رايتس واتش”: الجيش المصري هدم على مدار الأعوام الأربع التالية لحكم السيسي ما يزيد على 6850 مبنى في رفح، بما فيه آلاف المنازل السكنية، لإجلاء العائلات بشكل دائم، دون سابق إنذار أو دعم كافٍ فيما بعد
لكن المثير ألا تجد صدى للحادثة في الإعلام المحلي على عكس المعتاد، فقد تجاهلت المواقع المصرية الخبر بشكل يكاد يكون كاملاً، ولم يصدر أي بيان رسمي بشأن الحادث باستثناء نقل الوكالة المصرية الرسمية بيان إدانة بحريني يشير إلى الحادث دون تفاصيل.
قبل ذلك بنحو أسبوعين، اختطف مسلحون يُرجح أنهم من تنظيم “ولاية سيناء” 14 مدنيًا في واقعتين منفصلتين، شهدت الواقعة الأولى اختطاف 4 أشخاص بمنطقة قريبة من قرية الروضة غرب العريش، وشهدت الواقعة الثانية اختطاف 10 أشخاص على الأقل من كمين أقامه مسلحون على الطريق الدولي قرب منطقة سبيكة للملاحات منهم محاميان.
وعلى عكس تجاهل الحوادث التي تستهدف المدنيين، تولي وسائل الإعلام المصرية، وخاصة التابعة للأجهزة الأمنية، اهتمامًا واسعًا بالهجمات التي تستهدف العسكريين، وهو ما جرى خلال هذا الشهر، بعد الهجوم الذي تعرض له “كمين البطل 14” في مدينة العريش – فجر أول أيام عيد الفطر بمصر – وراح ضحيته ضابط و7 من أفراد الشرطة.
بعد ذلك، تفرد وسائل الإعلام صفحاتها وبرامجها لعمليات تصفية مَنْ تقول إنهم “إرهابيون متورطون” في مهاجمة أحد الكمائن الأمنية المستهدفة، إلا أن التوسع في هذه العمليات – التي يُروَّج لها على أنها ثأر للضحايا – تثير تساؤلات عن أبعادها ودلالاتها، ويعزز من ذلك تتابع هذه العمليات، وعدم كشف الداخلية عن أسماء القتلى فيها، رغم رواياتها “الواثقة” بتورطهم في الهجوم، كما يضعف مصداقيتها ما تتضمنه الصور المصاحبة لتبني تنظيم “ولاية سيناء” المسؤولية عن الهجمات.
المدنيون الخاسر الأكبر
يستغل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورجال نظامه التوسع بعمليات التصفية في إثارة الرأي العام وتجديد تعاطفه، باعتبارهم الحصن أمام خروج الأمر عن السيطرة واستعادة ما يسمونها “هيبة الدولة”، وهم في ذلك يتبنون الاستبداد كمقاربة لمكافحة التمرد، التي تقوم على عدم الاقتصار في الانتقام على المسلحين وإنما تجاوزهم للأهالي والسكان زيادة في التنكيل والإرهاب، بل يرجَّح البعض أن من تمت تصفيهم كانوا مختفين قسريًا تحت يد السلطات.
في هذا الشأن، كانت خلاصة ما ورد في تقرير منظمة “هيومان رايتس واتش” عن الوضع الإنساني في سيناء أن “الانتهاكات في شبه جزيرة سيناء المصرية قد ترقى إلى جرائم حرب”، ووثق التقرير ما وصفها بـ”الجرائم المرتكبة من قوات الأمن المصرية على نطاق واسع ضد المدنيين في شبه الجزيرة”.
كلام السيسي ومسؤوليه يناقض ما تناولته الإملاءات الأمنية المسربة لإعلاميين مصريين عن التمهيد لخطة الإملاءات الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة إعلاميًا بـ”صفقة القرن”
تحقيق المنظمة الحقوقية الدولية وثَّق أيضًا على مدى عامين جرائم تشمل الاعتقالات الجماعية التعسفية والإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء وهجمات جوية وبرية طالت مدنيين، وفي استهزاء صارخ بحياة المدنيين، فإن السلطات المصرية كثيرًا ما تُحصي عددًا كبيرًا منهم بين المقاتلين المزعومين الذي وقع تصفيتهم حسب المنظمة.
نقلت المنظمة عن بيانات حكومية وتقارير إعلامية أن أكثر من 3 آلاف مسلح مشتبه بهم وأكثر من 1200 جندي وشرطي قُتلوا بين يناير/كانون الثاني 2014 ويونيو/حزيران 2018 في سيناء، لم تصدر السلطات المصرية أرقامًا عن الضحايا المدنيين، ولم تعترف علانيةً بارتكاب أي تجاوزات.
قام النظام بعملية تدمير لمناطق واسعةقام النظام بعملية تدمير لمناطق واسعة
في تقرير آخر، وثقت منظمة سيناء لحقوق الإنسان، خلال الفترة من 1 من يناير/كانون الثاني وحتى 30 من يونيو/حزيران 2017، ما يقرب من 435 انتهاكًا ومقتل 203 مدنيين، مسلمون ومسيحيون، من بينهم نساء وأطفال، وإصابة 195 آخرين في مناطق سيناء المختلفة، تصدرتها مدينة العريش بواقع 180 انتهاكًا ثم رفح في المرتبة الثانية بواقع 153 انتهاكًا.
كما أدَّت الهجمات على السكان المسيحيين في العريش، التي تشبه هجمات “داعش” في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، إلى إجبار جميع العائلات المسيحية على مغادرة منازلها والفرار من سيناء، كما تسبب قتل “ولاية سيناء” للمسيحيين في هجرة جماعية منذ أن تحولت المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة بين التنظيمات الطائفية المسلحة وقوات الجيش والشرطة.
وبحسب تقرير لمنظمة “هيومان رايتس واتش” حمل عنوان “اللي خايف على عمره يسيب سينا!”، فإن الجيش المصري هدم على مدار الأعوام الأربع التالية لحكم السيسي ما يزيد على 6850 مبنى في رفح، بما فيه آلاف المنازل السكنية، لإجلاء العائلات بشكل دائم، دون سابق إنذار أو دعم كافٍ فيما بعد.
في خدمة “صفقة القرن”
رغم ما سبق استعراضه من انتهاكات، لم تعترف الحكومة علنًا بوجود ولو حالة واحدة من الاعتقالات الخاطئة أو الوفيات غير المشروعة رغم التوثيق الكبير للاعتقالات الجماعية التعسفية على يد الجيش، والإخفاء القسري، والقتل خارج نطاق القضاء في سيناء، ففي يناير/كانون الثاني 2018، نفى الرئيس السيسي ارتكاب قوات الأمن أي مخالفات.
لكن كلام السيسي ومسؤوليه يناقض ما تناولته الإملاءات الأمنية المسربة لإعلاميين مصريين عن التمهيد لخطة الإملاءات الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة إعلاميًا بـ”صفقة القرن”، فخلال حديث الضابط أشرف مع الإعلامي ذي الخلفية الرياضية عزمي مجاهد سلط الضوء على ملف سيناء بشكل مثير، تبين خلال الحديث أن السلطات المصرية تهدف بشكل نهائي إلى إخلاء مساحات أخرى من سيناء دون أن يظهر إلى أي حد يمكن لهذا الإخلاء أو التهجير أن يصل.
لعل ما يُرَّوج من تسريبات عن تفاصيل “صفقة القرن” يشير لاعتمادها على فكرة تبادل الأراضي حلاً لمشكلة اللاجئين
وتريد الجهات السيادية المصرية توظيف الهجمات المتكررة في سيناء لصالح تهجير أهالي سيناء، وهي مفارقة صادمة حملت بعض خصوم النظام حتى قبل ظهور هذه التسريبات على اتهام السلطات نفسها بافتعال أو تمرير أحداث عنف مروعة للوصول إلى هدف الإخلاء النهائي المشار إليه، في حين تقول السلطات إن الإخلاء يمكِّنها من مواجهة الإرهابيين بشكل أفضل، وهو نهج فريد في محاربة الإرهاب بتشريد المدنيين المتضررين منه بدل البحث عن حلول شاملة وحقيقية للأزمة.
ولعل ما يُرَّوج من تسريبات حول تفاصيل “صفقة القرن” يشير لاعتمادها على فكرة تبادل الأراضي حلاً لمشكلة اللاجئين، وهو ما أثار قلق كثيرين منذ بدأت فصول هدم المنازل في رفح والشريط الحدودي، وما أعقبها من عمليات التهجير والتدمير لمناطق واسعة من المحافظة منذ عام 2014، إلى أن باتت الأرض جاهزة لتنفيذ الصفقة، مع تجاهل جميع الأطراف، بمن فيهم النظام المصري، لموقف أصحابها.
يؤكد ذلك ما كشفه البيت الأبيض قبل يومين فقط “ورشة البحرين” التي عُقدت يومي 25 و26 من يونيو/حزيران الحاليّ في العاصمة المنامة، وفي التفاصيل، تقترح الخطة تخصيص عشرات الملايين من الدولارات لتحقيق استغلال أفضل للمناطق الصناعية القائمة في مصر لتعزيز التجارة بين مصر وغزة والضفة الغربية و”إسرائيل” ومنها تطوير المنشآت السياحية في سيناء القريبة من البحر الأحمر.
وفي ظل الحديث عن تنفيذ جزء من الصفقة على أرض سيناء، يخرج وزير الخارجية المصري سامح شكري في أول تعليق من القاهرة على تخصيص مشاريع في سيناء ضمن الشق الاقتصادي للصفقة، وهو الأمر الذي دفعه إلى القول إن بلاده لن تتنازل عن حبة رمل واحدة في سيناء.
رغم ذلك يتهم رافضو النظام السيسي بالتفاني في التنفيذ الحرفي لأجندات خارجية لا تفيد بل تضر مصالح مصر وشعبها ومحيطها العربي، ويرى هؤلاء أن هذه الإجراءات والتوجيهات التي كشفتها التسريبات الأخيرة تأتي في هذا السياق، بل تعد وفاءً لما تعهد به السيسي شخصيًا أمام ترامب حين التقاه في البيت الأبيض أبريل/نيسان 2017.
ليست “صفقة القرن” إذن خيالاً يفترضه أصحاب نظرية المؤامرة، كما أنها لا تتطلب فقط تسويق لاعتبار القدس عاصمة لـ”إسرائيل”، بل تقتضي من متعهدي تنفيذها الإقليميين إجراءات تمهد الأرض في مناطق أخرى للمخطط الجديد ولو بتشريد سكان سيناء من ديارهم بأي ثمن.