لم تحافظ قوات الدعم السريع على مواقع سيطرتها في أحياء الخرطوم بحري ومدن ولاية سنار، ولم تنجح في السيطرة على الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، لعدم قدرتها على إدارة العمليات العسكرية وفق عقيدة الفزع التي طالما اعتمدت عليها مع ميزة كونها قوات هجوم، ما يضع مستقبلها العسكري على المحك.
ويعني الفزع، الذي ينتشر في مجتمعات دارفور وكردفان، استنفار المقاتلين على أساس قبلي أو مناطقي – بشكل مؤقت – بغرض تعزيز السيطرة على منطقة ما أو صد هجوم وقع عليها أو بغرض إظهار القوة تحسبًا لهجوم محتمل، وهو قائم على الترابط الاجتماعي أكثر من كونه نظامًا عسكريًا محترفًا.
وتطور الفزع من كونه أداة تعاون وتآزر بين المجتمعات في أوقات الكوارث أو المساعدة عند الحاجة، إلى آلية دفاع عن الهجمات المسلحة، قبل أن يصبح مرتبطًا بالنزاع في دارفور اعتبارًا من 2003، حيث تستنفر المليشيات والجماعات الشباب بغرض الاستيلاء على الموارد والأرض.
نجاح سريع وفشل ذريع
استخدمت مليشيا الدعم السريع، في بداية النزاع الذي اندلع في 15 أبريل/نيسان 2023، ميزة أنها قوات هجومية تتمتع بسرعة الحركة وكثافة النيران والاختراق المباغت ونصب الكمائن، وسيطرت على معظم أحياء العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، بما في ذلك بعض مواقع الجيش.
وحشدت آلاف المقاتلين عبر الفزع لتنفيذ هجمات متتالية على جنوب دارفور التي وقعت تحت قبضتها في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثم وجهت المليشيا هذه الحشود للسيطرة على وسط وشرق وغرب دارفور، لتتوج مسيرتها في ذاك العام بالسيطرة على ولاية الجزيرة بعد تجنيد أبو عاقلة كيكل الذي انشق عنها وانضم إلى الجيش في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
يقصف الجيش أي فزع يتحرك من شرق النيل وجنوب الخرطوم إلى الخرطوم بحري، ليصبح بذلك ما كان قيمة إضافية لقوات الدعم السريع خصمًا عليها
واستمرت سيطرة “الدعم السريع” على بعض المواقع في الخرطوم زمنًا طويلًا، لاعتمادها على الفزع، ولا تزال تستخدم هذه الاستراتيجية للحفاظ على مواقعها في دارفور، دون أن تُصيب نجاحًا في المناطق التي لا تتمتع فيها بنفوذ قبلي، مثل الولاية الشمالية حيث لم تتعدَّ سيطرتها على مطار مروي سوى أيام، ومدن وقرى ولاية سنار أشهر.
واستطاع الجيش، عبر غارات الطيران الحربي وهجمات الطائرات المُسيرة، إضعاف القوة الصلبة لقوات الدعم السريع في الخرطوم وسنار والجزيرة، ما جعلها تعتمد على تحريك القوات من موقع إلى آخر، متبعةً أسلوب الفزع لصد الهجمات والاحتفاظ بالمواقع، لكن ذلك لم يدُم طويلًا.
فطن الجيش لاستراتيجية “الدعم السريع” المتمثلة في الفزع، حيث بدأ في العملية العسكرية التي ينفذها اعتبارًا من 26 سبتمبر/أيلول السابق في عزل قوات المليشيا عن بعضها البعض في الخرطوم بحري، ما مكنه من السيطرة على أحياء واسعة في المدينة.
وعزل الجيش قوات الدعم السريع في الخرطوم بحري في جزر منفصلة، بحيث جعل الفزع دون قيمة عسكرية، بمعنى أنها لا تستطيع الالتفات ونصب الكمائن، مع استمرار تقدمه البطيء إلى جنوب المدينة لفك الحصار المفروض على قاعدة سلاح الإشارة ومقر قيادته في الخرطوم.
وكثفت القوات المسلحة الغارات الجوية وهجمات الطائرات المُسيرة لقصف أي فزع يتحرك من شرق النيل وجنوب الخرطوم إلى الخرطوم بحري، ليصبح بذلك ما كان قيمة إضافية لقوات الدعم السريع خصمًا عليها.
ولعل أكبر نجاح في وضع “الدعم السريع” بجزر معزولة لإضعاف الفزع، تجلى في ولاية سنار التي استطاع الجيش فصلها عن ولاية الجزيرة عقب سيطرته على جبل موية، ما مكنه من تحرير معظم سنار، بما في ذلك الدندر وسنجة والسوكي وكركوج.
حشود ضخمة دون نتائج
شكلت سيطرة الجيش على جبل موية قاصمة ظهر لتمدد قوات الدعم السريع جنوبًا إلى النيل الأزرق وشرقًا إلى القضارف، ما دعا قائدها محمد حمدان “حميدتي” إلى إعلان التصعيد وتجنيد مليون مقاتل، ملمحًا إلى أن الحرب وجودية.
لا يأبه المقاتلون، الذين يتجمعون بواسطة الفزع، بأي قوانين أو أعراف، حيث إنهم حُشدوا من أجل شيء معين يتفرقون بزواله
وبالفعل، أسرع قادة القبائل متبعين أسلوب الفزع في حشد آلاف المقاتلين عبر تسويق خطاب عدائي بأن النزاع الحالي يستهدف طردهم من ديارهم، فيما لجأت قوات الدعم السريع إلى التجنيد الإجباري وسط المجتمعات.
ويعتبر الحشد الذي أعقب خطاب حميدتي أكبر تجميع لمقاتلين منذ اندلاع النزاع، لكنه لم يحدث أي فرق عسكري في الميدان، بما في ذلك الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي توجهت إليها معظم الحشود التي كثفت الهجمات على المدينة دون تحقيق اختراق.
أوضحت الهجمات المتتالية على الفاشر التي تحاول قوات الدعم السريع السيطرة عليها منذ 10 مايو/أيار، أن المقاتلين الذين حُشدوا عن طريق الفزع فشلوا في السيطرة على المدينة، نظرًا لعدم تلقيهم أي تدريب عسكري وعدم وجود حافز قوي للاستمرار في القتال لفترة طويلة.
كيف يحدث الفزع؟
يجري الفزع – وفق الطريقة التقليدية – بنداء من قادة القبيلة أو المنطقة لصد هجوم محتمل أو السيطرة على الموارد، ومن يتخلف عنه يُنظر إليه على أنه متخاذل وجبان ويتعرض لهجاء الحكامات وهن نساء يمتدحن الرجال الشجعان والكرماء في أبيات شعر يتناقلها الناس على نطاق واسع.
وكانت قوات الدعم السريع قبل اندلاع النزاع تعتمد في التجنيد على قادة وزعماء القبائل والعشائر الذين منحتهم رتبًا عسكرية رفيعة وامتيازات مالية، ولهذا تمتع قادتها العسكريون بنفوذ كبير وسط المجتمعات المحلية في دارفور وكردفان، لا سيما أنهم يتواجدون في المآتم ويقدمون الخدمات المدعومة من الدولة.
وفي بداية اندلاع النزاع، نشط هؤلاء القادة بمن فيهم قائد ثانٍ الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، في استنفار المقاتلين الذين حققوا بعض النجاحات، نظرًا إلى أن الاستنفار قام على الوعود المتمثلة في إطلاق يدهم للنهب وارتكاب الانتهاكات دون محاسبة، ودفع تعويضات حال أُصيب المقاتل أو لأسرته إذا قُتل.
يظهر أن الجيش يعتمد على عامل الزمن لإيقاع هزيمة قاسية بقوات الدعم السريع، عبر تفكيك بنيتها الاجتماعية وفي مقدمتها عقيدة الفزع التي يؤكد الواقع أنها فشلت في الخرطوم وسنار
وبعد مقتل معظم قادة الدعم السريع الذين يتمتعون بمصداقية وسط المكونات الاجتماعية في دارفور، لا يجد الشباب دافعًا قويًا للقتال، ولهذا فضّل المستنفرون حديثًا بعد دعوة حميدتي لحشد مليون مقاتل، عدم الذهاب إلى الفاشر إلا مكرهين وسرعان ما يعودون، هذا إن لم يُقتلوا أو يصابوا في المعارك.
لماذا فشلت عقيدة الفزع؟
يشير الواقع إلى أن قوات الدعم السريع فقدت معظم قوتها الصلبة وتتجرع الآن فشل عقيدة الفزع، نظرًا لأنها مؤقتة ويتوقع منها نتائج عسكرية سريعة ومردود مالي آنٍ، حيث تتفوق مرحليًا بكثافة النيران وسرعة الحركة والهجوم المباغت.
ولا يأبه المقاتلون، الذين يتجمعون بواسطة الفزع، بأي قوانين أو أعراف، حيث إنهم حُشدوا من أجل شيء معين يتفرقون بزواله، وذلك خلافًا للجنود الذين يتبعون لمؤسسة دائمة ويلتزمون بقواعد صارمة بما في ذلك تنفيذ الخطط العسكرية والامتثال للقادة وفق التسلسل الهرمي الأعلى.
ويبدو أن الجيش يدرك أن استراتيجية الفزع التي فشلت في الخرطوم وسنار قد تنجح في دارفور بسبب سياق النزاع حول الموارد القديم والمتجدد، فخفف من حدة الهجوم على القبائل العربية في دارفور وكردفان في الخطاب الرسمي واتخذ مسلكًا مشابهًا لكن بطريقة مختلفة.
نجحت قوات الدعم السريع في جعل الفزع لصالحها في دارفور بتسويق خطاب أن الحرب تستهدف القبائل العربية خاصة، بعد الدعم الواسع الذي قدمه الجيش إلى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام في 2020، والتي ينحدر معظم مقاتليها من القبائل الإفريقية.
واستدرك الجيش هذا الخطأ سريعًا، بشروعه في استقطاب قادة بعض القبائل والعشائر الذين انخرطوا تحت كيانات عديدة أُطلق عليها التنسيقيات، ليعملوا على حشد المقاتلين عن طريق الفزع للقتال لصالح القوات المسلحة، حيث يُشارك بعضهم في متحرك الصياد بولاية شمال دارفور.
ويظهر أن الجيش يعتمد على عامل الزمن لإيقاع هزيمة قاسية بقوات الدعم السريع، عبر تفكيك بنيتها الاجتماعية وفي مقدمتها عقيدة الفزع التي يؤكد الواقع أنها فشلت في الخرطوم وسنار وفي طريقها للفشل في ولاية الجزيرة، التي يعمل فيها على قطع طرق الإمداد. ومن السابق لأوانه الحكم على فشلها في دارفور.