يبدو أن التحذيرات التي وجهت لحكومة بغداد وأحزابها وميلشياتها، من الأمريكان ومن دول عربية، لم تكن كافية لتردع من يمسك بزمام الأمور في بغداد، لكي يبعدوا أنفسهم عن موضوع البحرين. ففي كل مرة تجد الأحزاب والمليشيات عذرًا يحاولون به التدخل في شؤون هذا البلد الصغير تملقًا لإيران، والقيام بمهمة التعبير عن وجهة النظر الإيرانية إزاء البحرين، وهذه المرة آثر قادة تلك الأحزاب والمليشيات بلع ألسنتهم، والإيعاز لجماهيرهم المغيبة والمسوقة خلفهم، بالقيام بالمهمة بدلًا عنهم، ذلك لأن هذه المرة ربما سيتم معاقبتهم بعقوبات لا تستثني أحدًا منهم، فالعقوبات التي طالت زعيمهم الروحي “خامنئي” ربما لا تخطئهم هذه المرة.
وربَّ قائل يقول، إن ما حدث من تظاهرات واقتحام للسفارة البحرينية، هي اندفاع جماهيري عفوي لا دخل للحكومة وأحزابها ومليشياتها بها، إنما هي تعبير عن حبهم لفلسطين وشعبها، لكن متى استطاعت الشعوب العربية التعبير عن وجهة نظرها والتعبير عن طموحاتها في البلدان العربية، دون أن تسفك دماؤها؟ هل يُعقل أن تنطلق مظاهرة مناهضة لورشة البحرين، ثم يعقبها اقتحام للسفارة مشابه لاقتحام القنصلية السعودية في مشهد، دون ضوء أخضر من السلطات الأمنية العراقية؟
ولو كان لدينا قناعة حقيقية بأن تلك التظاهرات، هي فعلًا قد قامت ضد ورشة البحرين، وما يجري فيها من إتمام لصفقة بيع أرض فلسطين للمحتل الصهيوني، لوجدنا أنفسنا جميعًا معهم مثمنين جهودهم ونضالهم، ذلك لأن فلسطين حاضرة في وجدان كل عربي ومسلم، أما أن يتم المتاجرة بتلك المشاعر الجياشة للاستفادة منها سياسيًا، ولمصلحة ليست عراقية أنما مصلحة إيرانية، فهذا الذي يجعلنا في شك من نواياها، ولا نبارك الأيادي التي قامت بها.
إن من السخرية أن من يقوم بالتحريض على هذه التظاهرات نصرة لفلسطين وشعب فلسطين، هي الأحزاب ذات الولاء الإيراني، في الوقت الذي شهد العراق أكبر عملية تهجير للفلسطينيين من العراق في عام 2005
وإلا لماذا لم تنطلق مظاهرات ضد إيران بسبب ما تفعله بعرب الأحواز؟ ولماذا لا تنطلق تظاهرات ضد سفارة النظام السوري رفضًا للمذابح التي يرتكبها النظام هناك ضد الشعب السوري، ورفضًا لبيع سوريا لروسيا وإيران؟ بل لماذا لم تنطلق تظاهرات ضد النظام المصري، عرّاب كل المؤامرات التي تحاك ضد شعب فلسطين وشعب ليبيا وبقية شعوب المنطقة؟
إن من السخرية أن من يقوم بالتحريض على هذه التظاهرات نصرة لفلسطين وشعب فلسطين، هي الأحزاب ذات الولاء الإيراني، في الوقت الذي شهد العراق أكبر عملية تهجير للفلسطينيين من العراق في عام 2005 وما بعده على أيدي نفس تلك الأحزاب. وحينما ترى تلك التظاهرات والحماسة الظاهرة على محيّا أولئك المتظاهرين، تجد النفاق السياسي ماثلًا أمامك بكل قوة، وتدرك إن عمليات التجهيل والتبسيط والتضليل للجماهير العراقية وصلت أعلى مراحلها، لأنك تجد هذه الجماهير تُقاد منصاعة وبدون أي تساؤل لقادتها، لماذا نتظاهر الان نصرة للفلسطينيين، في الوقت الذي دفعتمونا لقتلهم وتهجيرهم من العراق؟
إن الجماهير العربية والإسلامية جمعاء هي ضد ورشة البحرين، وتتوق لليوم الذي ترى فيه فلسطين وما تحوي من مقدسات، محررة من أيدي الصهاينة، ولكن هل يكون ذلك بالشعارات؟ النظام الإيراني رفع شعارات تحرير القدس وتحرير فلسطين من أربعين سنة، ولكن بنادقه وبنادق ميلشياته موجهة على الدوام لصدور العرب والمسلمين، سواء كانوا فلسطينيين أو غير فلسطينيين.
أما من يقول أن إيران تدعم المقاومة الفلسطينية، فأقول إن دعمها للمقاومين الفلسطينيين ليس لغرض تحرير فلسطين، أنما لجعلهم ورقة ضغط تستفيد منها في صراعها المزعوم مع الكيان الصهيوني أو الأمريكان على تقاسم مناطق النفوذ بالمنطقة، فكما دعمت إيران المليشيات في العراق، واستخدمتهم كفزاعة لمن يحاول أن يعتدي عليها، فهي تستخدم الفلسطينيين لنفس الغرض. ورغم إدراك المقاومين الفلسطينيين لأغراض إيران، لكن لسان حالهم يقول “ما يجبرك على المر إلا الأمر منه” ذلك لأن الفلسطينيين لو احتضنهم العرب وتلقوا الدعم منهم في صراعهم لاسترجاع أراضيهم، لما اضطروا لتلقي المساعدة من إيران، التي لا تعطي المساعدة بلا ثمن.
إن الأحزاب والمليشيات ذات الهوى الإيراني، حينما أوعزت للمغيّبين من أتباعها، ومهّدت لهذه التظاهرة، كانت تحاول إرسال رسالة أخرى لحكومة عبد المهدي، تُفيد، بأننا نحن من صنعناك ونحن من نستطيع إقالتك
الغريب بالأمر أن التظاهرات انطلقت باليوم الثاني لتسلم وزير الداخلية لمنصبه، وكأنها رسالة من قبل أذناب أيران للوزير الجديد، بأننا “نحن أسياد القرار الأمني والسياسي في العراق”، ولكسر هيبته وهيبة حكومة عبد المهدي التي ينتمي لها. جاءت الرسالة هذه المرة قوية حينما اقتحموا سفارة البحرين واعتدوا على علمها وعبثوا بمحتوياتها، وكأن لا دولة هناك ولا نظام. وكان أقصى ما فعله وزير الداخلية الجديد، أنه شكّل مجلس تحقيق بحق المجموعة التي كانت تحمي السفارة. وبالطبع، ستطوى صفحة هذا التحقيق كما طويت صفحات تحقيقٍ لجرائم أخرى كثيرة سابقًا، أما حكومة عبد المهدي فهي كعادتها أصدرت بيانًا استنكرت الحادث وتبرأت منه.
لكن الأهم من ذلك، إن الأحزاب والمليشيات ذات الهوى الإيراني، حينما أوعزت للمغيّبين من أتباعها، ومهّدت لهذه التظاهرة، كانت تحاول إرسال رسالة أخرى لحكومة عبد المهدي، تُفيد، بأننا نحن من صنعناك ونحن من نستطيع إقالتك، إذا ما فكرت بالاستجابة للضغوط الأمريكية وتهديداتهم من مغبة استهداف مصالحها ومصالح حلفائها بالعراق، والقول له، بأننا نحن أسياد الموقف الأمني والسياسي والعسكري في العراق، ونحن من يقرّر وجهة هذا البلد، هذه الرسالة ربما كانت استكمالًا للرسالة التي قالوها صراحة على لسان قادة جميع المليشيات، بأننا مع “دولة إيران الإسلامية” إذا ما نشب نزاع مسلح بينها وبين الولايات المتحدة، ضاربين بعرض الحائط كل تصريحات عبد المهدي، بالبقاء على الحياد في النزاع الأمريكي الإيراني.