تفجيرات إرهابية في مواقع حساسة، إشاعات انتشرت بسرعة كالنار في الهشيم، كان يومًا عصيبًا على التونسيين، حبس الجميع أنفاسهم، فتجربتهم الديمقراطية التي يفتخرون بها بين الأمم مستهدفة داخليًا وخارجيًا، قبل موعد انتخابي هام ينتظره الجميع لتكريس مبدأ التداول السلمي على السلطة وتدعيم ديمقراطيتهم الناشئة.
تفجيرات إرهابية
تمام الساعة 10:50 صباحًا بتوقيت تونس (9:50 بتوقيت غرينتش)، أقدم شخص على تفجير نفسه بالقرب من دورية أمنية في تقاطع شارعي فرنسا وشارل دي غول وسط العاصمة، على بعد نحو 150 مترًا من السفارة الفرنسية، في قلب العاصمة تونس، وأدى التفجير إلى مقتل رجل أمن وإصابة آخر وثلاثة مدنيين.
بعدها بعشر دقائق فقط، أقدم شخص ثانِ على تفجير نفسه باستعمال حزام ناسف، قبالة الباب الخلفي لإدارة الشرطة العدلية بالقرجاني ما أسفر عن أربع إصابات متفاوتة الخطورة في صفوف أعوان الأمن، تم نقلهم إلى المستشفى لتلقي العلاج.
تزامن هذه الهجمات الإرهابية وإشاعة الأخبار الكاذبة عن حالة الرئيس وتأجيل الانتخابات في هذا الوقت بالتحديد، جعل العديد من التونسيين يؤكّدون استهداف تجربة بلادهم الديمقراطية
جاء الهجومان بعد ساعات فقط من تعرض محطة للإرسال التلفزيوني -بجبل عرباطة في محافظة قفصة (جنوب)- إلى إطلاق نار من قبل مجموعة مسلحة، وفق بيان صادر عن وزارة الدفاع الوطني. وبحسب البيان، فإن الهجوم جرى في حدود الساعة 2:30 بتوقيت غرينيتش فجر أمس، وقامت “التشكيلات العسكرية الموجودة بعين المكان والمؤمنة لمحطة الإرسال العسكري بالتدخل بردّ فعل فوري مما أجبر المجموعة (المهاجمة) على الفرار بعمق الجبل”.
يذكر أن التفجير الذي وقع في وسط العاصمة يعتبر الثاني من نوعه في أقل من سنة، ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي فجرت امرأة نفسها في وسط العاصمة ما أدى لإصابة 15 بينهم عشرة من رجال الشرطة في انفجار أنهى فترة من الهدوء بعد مقتل عشرات في هجمات شنها مسلحون عام 2015.
إشاعات
بالتزامن مع هذه العمليات الإرهابية، أصدرت رئاسة الجمهورية التونسية بيانا قالت فيه إن الرئيس الباجي قايد السبسي (92 عاما) قد تعرض لـ”وعكة صحية حادة”، نقل على إثرها إلى المستشفى العسكري بالعاصمة.
بعدها بقليل نشر المستشار الإعلامي للرئيس فراس قفراش تدوينة في صفحته الخاصة بموقع فيسبوك وصف فيها حالة الباجي قائد السبسي الصحية بالحرجة، وطلب من التونسيين الدعاء له.
على إثر ذلك، انتشرت إشاعات تفيد بموت الرئيس واستدعاء رئيس البرلمان محمد الناصر من إجازته المرضية على وجه السرعة، وعقد اجتماع طارئ في مجلس نواب الشعب لبحث كيفية إعلان وفاة الرئيس وشغور منصب الرئاسة.
يتلقى السبسي العلاج في المستشفى العسكري بتونس
ينص الدستور التونسي على أنه في حالة وفاة الرئيس فإن المحكمة الدستورية تجتمع وتقر شغور المنصب، ليتولى عندها رئيس البرلمان محمد الناصر مهام رئيس الجمهورية في مدة زمنية تمتد في أقصى الحالات تسعين يومًا.
بدأت التحليلات، خاصة في المواقع والقنوات المحسوبة على محور الثورة المضادة –الإمارات والسعودية- فقد كانت قناة العربية أولى المحطات التلفزيونية التي نقلت إشاعة وفاة الرئيس، ورغم نفي المؤسسات الرسمية لذلك، فقد بقي الخبر على شاشتها لفترة طويلة.
إشاعة موت الباجي قائد السبسي، أحدثت بلبلة كبيرة في صفوف التونسيين، خاصة في غياب المحكمة الدستورية التي يوكل إليها قانونًا مهمة معاينة شغور منصب الرئاسة، فضلًا عن مرض محمد الناصر الذي تعرض مؤخرًا لوعكة صحية لم تتضح طبيعتها.
لم تكن إشاعة وفاة الرئيس الإشاعة الوحيدة التي عرفها التونسيين في هذه الفترة الحرجة التي تمرّ بها البلاد، فقد سبقتها إشاعة تفيد بتأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية المنتظر إنجازها وفق مواعيد هيئة الانتخابات في أكتوبر/تشرين الأول القادم.
استهداف للديمقراطية التونسية
تزامن هذه الهجمات الإرهابية وإشاعة الأخبار الكاذبة عن حالة الرئيس وتأجيل الانتخابات في هذا الوقت بالتحديد، جعل العديد من التونسيين يؤكّدون استهداف تجربة بلادهم الديمقراطية التي يفتخرون بها بين باقي الدول العربية.
“من المعلوم عند الكثير من التونسيين أن التجربة الديمقراطية في بلادنا مستهدفة من دول ديكتاتوري عربية وأخرى غربية لا تريد لتونس أن تكون استثناء ديمقراطي في بيئة خصبة للاستبداد،” يقول الصحفي التونسي كريم البوعلي لنون بوست.
يضيف كريم، “هناك دول مثل مصر والإمارات العربية المتحدة شن إعلامها عديد الحملات المغرضة ضد تونس وهاجم رموزًا سياسية وتجربة التوافق بين المكونات السياسية وشجع على إقصاء أطراف وطنية خاصة حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية لأنه يعتبرها إخوانية، وهو ما يؤكّد سعيهم نحو إرباك الوضع في البلاد”.
بدورها تؤكّد الكاتبة الصحفية التونسية سوسن برينيس ما ذهب إليه كريم البوعلي، حيث تقول، “دول الثورة المضادة المتمثلة في السعودية والإمارات لم تخف يوما مناهضتها لثورات الربيع العربي وعملت بكل إمكانياتها المالية والإعلامية والعسكرية لإفشالها بهدف تقديم نماذج فاشلة لشعوبها تجعل من الديمقراطية والتغيير كابوسًا مرعبًا”.
“لا يخفى على المراقبين للساحة التونسية تدخل المال العربي في تمويل الأحزاب ووسائل الإعلام التي يعمل بعضها على نشر وعي مزيف وبث الشعور بالحسرة على العهد البائد والحنين لعودة الاستبداد،” تقول سوسن، فيما يضيف البوعلي” هذا المال الفاسد قد ينسف مبدأ تكافؤ الفرص والنزاهة وتجاوز السقف القانوني المالي للإنفاق وهو ما يستدعي حملات رقابة مالية لكي لا يوظف المال في التلاعب بمصير البلاد في الخمس سنوات القادمة الهامة من تاريخ تونس”.
استهداف التجربة التونسية لم يزد التونسيين إلا إصرارا على نجاحها وتواصلها
رغبة الإمارات والسعودية في إجهاض الثورة التونسية والتحكم في مسارها حتى لا تكون مُحفزة لباقي الشعوب العربية، بدأت منذ إطلاق الشرارة الأولى للثورة في مدينة سيدي بوزيد، فهما يخشيان أن يطالهما لهيب نار الثورة التي قضت على عروش الحكام، وتصل إلى شعبيهما نسمات الحرية التي جابت ربوع تونس وبلدان عربية كثيرة وأحيت في القلوب أملًا طال انتظاره.
استهداف تونس خارجية لم يكن من بعض الدول العربية فقط بل من دول غربية أيضًا على رأسها فرنسا، وفق سوسن برينيس التي تقول في هذا الشأن، “من الواضح أيضا للعيان ريبة فرنسا المستعمر السابق لتونس من إمكانية أن تصل تونس يومًا إلى سيادة فعلية، خشية تنسحب على كل مستعمرات فرنسا السابقة في إفريقيا.
“نجاح التجربة الديمقراطية في تونس هو في كلمة إعلاء لمصالح تونس ضمن محيطها الإقليمي وخروج من ضيق التبعية والإفقار إلى سعة السيادة والحرية في اختيار الشركاء الاقتصاديين والانتماء الثقافي، وهو ما ترفضه فرنسا بشدّة وفق الصحفية التونسية.
أعداء التجربة الديمقراطية التونسية، لم ينحصروا في خارج البلاد، فالكثير منهم داخلها، يقول كريم البوعلي، ويضيف في حديثه لنون، “هناك قوى داخلية لا تريد لتونس المضي قدمًا في الانتقال الديمقراطي السلس وبناء مؤسسات دولة قوية تحتكم إلى الدستور والقانون”.
من هذه القوى نجد تلك التي تعطّل إرساء الهيئات الدستورية في البرلمان، وهي أطراف محسوبة على النظام القديم الدكتاتوري الذي لا يعترف إلا بالحزب الواحد وسلطة الفرد وتدجين القضاء والإعلام، وفق كريم البوعلي.
بدورها تقول سوسن، “من المؤكد أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس مستهدفة من الداخل والخارج، إذ لا يخفى على أحد وجود لوبيات فساد ارتبطت مصالحها بالدكتاتورية في تونس ما قبل الثورة وتخشى من الوصول تدريجيًا إلى إصلاح واستقلالية القضاء”.
نجاح التجربة التونسية يهدد الأنظمة الشمولية في المنطقة
تضيف برينيس، “توجد في تونس أيضا طبقة من المستفيدين والمتملقين للنظام البائد راهنت ومازالت تراهن على عودة الدكتاتورية تخشى من ترسخ دولة المؤسسات في تونس وعبور التجربة الديمقراطية إلى ضفة النجاة، هذه الأطراف الداخلية شكلت بيادق في أيدي قوى إقليمية ودولية تعبث بالرقعة العربية ويؤرقها احتمال نجاح تجربة تحول ديمقراطي في دولة عربية وإسلامية مما قد يشكل نموذجا ترنو له شعوب عربية أخرى بإعجاب”.
حرص تونسي على نجاح تجربتهم الاستثنائية
استهداف التجربة التونسية لم يزد التونسيين إلا إصرارًا على نجاحها وتواصلها، فهذه التجربة التي يحسدهم عليها الكثيرة من شأن نجاحها أن يساهم في تقدّم البلاد وتطوره وأن يضمن رفاهية التونسيين وتمتعهم بخيرات بلادهم.
جائزة نوبل للسلام، دستور توافقي، انتخابات تأسيسية فتشريعية فرئاسية، 3 رؤساء دولة و8 حكومات تعاقبوا على قصري قرطاج والقصبة، هذه بعض المحطات التي جعلت تونس النموذج الديمقراطي الناجح في بلدان الربيع العربي ومكنتها تصدر الدول العربية في مؤشر الديمقراطية، في السنوات الأخيرة، مسجلة أعلى نسبة تطور إيجابي على الصعيد الدولي في مؤشر التطور الديمقراطي.
أمام كلّ هذا يصعب أن يتخلى التونسيون على تجربة الانتقال الديمقراطي التي تمرّ بها البلاد منذ يناير/كانون الثاني 2011، رغم المصاعب التي تمرّ بها البلاد من حين إلى أخر نتيجة استهدافها من قبل لوبيات داخلية وقوى ضغط خارجية.