كلّ الظروف تخدم روسيا للبقاء في منطقة الشرق الأوسط، وإن لم تكن ترغب بذلك. فالواقع يدعوها لذلك، هذا ما يمكن أن نفسره من بين سطور الدعوة اللبنانية عبر وزير الدفاع إلياس بوصعب، لتحفيز الروس، وتذكيرهم بمصالحهم الاقتصادية في هذه المنطقة تحديدًا، للتدخل بقوة والتوسط بينه وبين سوريا، لترسيم الحدود البحرية المشتركة بينهما.
تملك روسيا ذراعًا اقتصادية قوية في المنطقة، عبر شركة نوفاتيك، التي تعمل كجزءٌ من كونسورتيوم لشركات نفطية عالمية، يضم إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية، للاستكشاف الغاز والنفط في بلوك 4 البحري اللبناني، في الوقت الذي تملك روسيا اتفاقيات تنقيب عن النفط والغاز مع سوريا، ضمن مياهها الإقليمية شرق البحر المتوسط، تعود إلى عام 2013، عبر شركة سويوز نفط غاز، ولكن التنفيذ لا يزال معلقًا، بسبب استمرار الحرب، فضلًا عن عدم حسم ترسيم الحدود البحرية بين سوريا ولبنان، ما يعني أن روسيا معنية بشكل مباشر بضرورة إنجاز هذه المهام بين البلدين.
تعقد مفاوضات ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان
تقف الحدود البرية الشمالية بين لبنان وسوريا حجر عثرة منذ زمن طويل، وتحديدًا منذ أن حصل كل منهما على استقلالهما من فرنسا في منتصف الأربعينيات، إذ حاول البلدين بالفعل توقيع اتفاق عام 1971، خلال ولاية الرئيس اللبناني الأسبق سليمان فرنجية، وكان عبد الحليم خدام، يمثل الدولة السورية، وعقدا اتفاقًا لحل الأزمة، إلا أن المباحثات تعقدت بسبب الخلاف على تبعية مساحة حوالي 900 كيلومتر، تعتبرها كل من سوريا ولبنان من ترابها الوطني.
بخلاف الأزمة الحدودية، كلما كانت تتقدم المحادثات، كانت الأحداث السياسية تقف أمام استكمالها، بداية من الحرب الأهلية اللبنانية «1975»، مرورًا بدخول سوريا لبنان، كجزء من قوة حفظ السلام، والتي لم تخرج من يومها، إلا عام 2005، وبعد انتفاضة شعبية ضخمة ضدها، ردًا على اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، واتهام النظام السوري في تدبير الحادث.
اغتيال رفيق الحريري
طوال الفترة التي استقرت القوات المسحلة السورية في لبنان، كانت سوريا تستشعر انهما دولة واحدة، ولم تستفق من هذا الحلم، إلا بعد نشر لبنان في عام 2011 وبشكل منفرد خريطة لحدوده الشمالية، وبسبب ظروف الحرب لم تعلق عليه سوريا بشكل رسمي، ولكنها نشرت مؤخرا خرائط لكتل النفط البحرية التي تملكها، وأظهرت الخرائط في كلا البلدين، تداخلًا كبيرًا، وثغرات تكشف ان الأزمات الحدودية القديمة لم تحل بعد.
الصراع السوري اللبناني على الحدود، بالتأكيد لم تتركه “إسرائيل” يمر مرور الكرام، فظهرت في الصورة هي الأخرى لتعرقل مفاوضات التقسيم بين سوريا ولبنان عام 2017، بعدما تصدّت لعمل بيروت على تكوين كونسورتيوم من الشركات الروسية والفرنسية والإيطالية، لاستغلال مناطق الجرف البحري، وذكرت الجميع بامتلاكها بعض البلوكات، ما منع لبنان من استكمال مشروعاته.
الدعاية الإسرائيلية وجدت الصدى المباشر، كما هو العادة، عند الولايات المتحدة الأمركية، فسارعت الأخيرة على الفور للتدخل في وساطة بين الطرفين، وإن كان انحيازها الفج لـ “إسرائيل” أصبح من مسلّمات المرحلة، فتوقّفت المفاوضات بسبب التعنت الإسرائيلي، والانسحاق الأمريكي التام خلف المصالح الإسرائيلية، ما فتح الباب على مصراعيه لروسيا للتدخل، ليس فقط بين سوريا ولبنان، ولكن بين الأخير و “إسرائيل” أيضًا، في الجولة الجديدة من المفاوضات، التي حدد لها الانطلاق خلال الأسابيع المقبلة بمقر الأمم المتحدة ببلدة الناقورة اللبنانية.
ويقع خلاف بين “إسرائيل” ولبنان حول ترسم الحدود البحرية بينهما، إذ جلس الطرفين عام 2006 لحل الأزمات بينهما، ولكن تعطلت المبادرة لأسباب عدة طوال السنوات الماضية، قبل أن تخطط لاستئنافها خلال الأسابيع المقبلة، بضغط دولي عبر مفاوضات برعاية أمريكية وأممية، وبموافقة “حزب الله” أيضًا على هذه الإجراءات. ولا يقف عائقًا في الجولة القادمة، إلا تشكك لبنان في نوايا الولايات المتحدة، التي لم تعد وسيطا نزيها في أي قضية، تكون إسرائيل طرف فيها ضد العرب.
يحتاج لبنان إلى حلول عاجلة لمجموعة معقدة من المشكلات السياسية والاقتصادية في هذه الأزمة، فالودائع التي يطرحها للبيع محل نزاعات إقليمية، وخاصة في الكتل 8 و 10 بالمنطقة الحدودية مع إسرائيل، بينما تخضع الكتلين 1 و 2 لخلافات رسمية مع سوريا
مصالح روسيا في المنطقة.. أي ثمن للوساطة؟
تسارع روسيا لتلبية النداء اللبناني، بوضع موطئ قدم لها، قبل الوصول إلى عملية تسوية في الأزمة، بهدفإعادة الحياة لاتفاق موسكو ودمشق الموقّع عام 2013 لاستكشاف حقول النفط والغاز في المياه السورية، إضافة لاتفاقية تطوير حقول النفط على ساحل بموجب عقد يمتد إلى 25 عامًا بقيمة إجمالية تتخطى الـ 100 مليون دولار.
ومن ناحية أخرى، تساهم في رسم حدود بحرية واضحة مع لبنان، باعتبارها أحد عوامل عدم الاستقرار في المنطقة ككل، ليس فقط من الناحية السياسية ولكن أيضًا من الناحية المالية، فالاستثمار في حقول النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، هو الأفضل كثيرًا من تعقيد الموقف، وترك هذه الموارد ضائعة.
ويحتاج لبنان إلى حلول عاجلة لمجموعة معقدة من المشكلات السياسية والاقتصادية في هذه الأزمة، فالودائع التي يطرحها للبيع محل نزاعات إقليمية، وخاصة في الكتل 8 و 10 بالمنطقة الحدودية مع “إسرائيل”، بينما تخضع الكتلتين 1 و 2 لخلافات رسمية مع سوريا، بجانب مشكلة كبيرة على مزارع شبعا، التي تقع على سلسلة من الجبال، تبلغ مساحتها 25 مترًا مربعًا، وتقف عند تقاطع المناطق الجنوبية الشرقية من لبنان، وجنوب غرب سوريا وشمال فلسطين المحتلة.
تخلق هذه المزارع «عازلًا جغرافيًا» بين المناطق الثلاث، والمثير أنه رغم الارتباط القوي بين القيادة السورية و “حزب الله” اللبناني، إلا أن العلاقات بين سوريا ولبنان تتعثر دائمًا بسبب هذه المشاكل الحدودية. لذا سيكون على روسيا التي تتحفز للدخول بقوة في هذا المعترك، بذل الكثير من الجهود الدبلوماسية لحل المشاكل المتعلقة بين البلدان، على أمل أن تتدخل الروابط واللغة والدين في حل الأزمة سريعًا، ليتفرغ الجميع لحل المشاكل الأخرى مع “إسرائيل”.
تقتحم روسيا المفاوضات هذه المرة، وهي تحمل معها كل أخطاء الوساطة الأولى بين البلدين في عامي 2010، و2011، والتي فشلت خلالها في إقناع السوريين بالتنازل قليلًا لحل الأزمة. إذ ظلّت المفاوضات معلّقة، حتى أعاد سعد الحريري فتح الملف مرة أخرى عام 2017، وبالتالي أصبح من غير المنطقي استمرار الأزمة على هذا النحو، ما يعطّل مصالح الجميع، وخاصة في ظل النفوذ الكبير لروسيا حاليًا على النظام السوري.
مصالح دولية خلف ترسيم الحدود بالمنطقة
سيتربح الجميع حال الوصول لاتفاق حدودي بين لبنان وسوريا، ما يفتح الباب للاتفاق مع “إسرائيل”، ولكن أكثر الحلفاء استفادة سيكون من نصيب اتحاد شركات «نوفاتك» الروسية و«إيني» الإيطالية و«توتال» الفرنسية، الذين يسعون للقيام بعمليات التنقيب في البلوك رقم 4، ما ينعكس على تعزيز التعاون بين هذا الثلاثي، في مشروع «يامال للغاز الطبيعي المسال» وهو أكبر مشروع للغاز الطبيعي في المنطقة القطبية الشمالية.
كما ستؤكد التسوية في هذه الأزمة التاريخية، أن المصالح الاقتصادية اليوم تطغى على ما سواها، وإذا نجح لبنان في معالجة المسألة من هذا الباب، فسيكون ذلك مثالاً آخر على تخطي المصالح الاقتصادية والمالية للعثرات السياسية، ولا سيما في ظل الحاجة الملحة للطرف السوري للاستفادة من حصته من غاز المنطقة المتنازع عليها، في وقت هو في أشد الحاجة إلى حلول اقتصادية، تعوض العقوبات المفروضة عليه، والمحاصرة الإقليمية والدولية، وظروف الحرب الداخلية والاقتتال الأهلي، ما يشكل عامل ضغط إضافي على الأسد، لإظهار المزيد من المرونة لحل قضية لم يقدر كل رجالات الساسة التاريخيين بالمنطقة عليها منذ 5 عقود على الأقل.