لطالما كان التعايش مع المرض المزمن، بصرف النظر عن نوعه ودرجة خطورته، أمرًا متعبًا ويخلق صراعًا مستمرًا بين الأمل واليأس، ولا سيما فيما يتعلق بالأمراض المشوّهة أو الجلدية التي تكون ظاهرةً بشكل واضح على مناطق مثل الوجه أو اليدين أو الذراعين أو القدمين، إذ تزداد الأمور في هذه الحالة تعقيدًا، وخاصةً أن الجلد هو النسيج الظاهر والأكثر وضوحًا في جسم الإنسان، وبالتالي فإن أي عيب فيه يؤثر على نفسية المصاب.
ومع ذلك، يرى العلماء أن التعامل بإيجابية مع هذا النوع من الأمراض، قد يُشعِر المصاب بالاحتواء ويحفز المجتمع المحيط على تقبل الاختلاف بجميع أشكاله، وعلى ذلك شهد العقد الماضي اهتمامًا متزايدًا بالتأثيرات النفسية على مصابيه، فلقد حاول الخبراء من خلال دراسات عدة فهم الطرق والاستراتيجيات التي يمكن التعامل فيها مع هذه الحالات دون أن يفقد المريض شعوره بالراحة أو الثقة بالنفس، ودون أن يزعزع جاذبيته الجنسية حتى.
ضحايا المرض والمجتمع والجهل
غالبًا ما يندفع البعض منا، عن قصد أو عن غير قصد، إلى إطلاق الأحكام المسبقة على الأشخاص الذين يختلفون عنا بمظهرهم أو شكلهم الخارجي لأي سبب كان، وحتى في بعض الحالات المرضية التي نجهل ماهيتها وأسبابها وظروفها، فإن الأمر قد يصل إلى حد التنمر والوصم والمضايقات اللفظية والنبذ أحيانًا، مما يخلق لدى هذه الفئة شعور بالطرد والمقاطعة الاجتماعية.
ففي حديث خاص لـ”نون بوست” مع أحد أقارب فتاة مصابة بمرض السماك، قال: “عندما حان الوقت لقريبتي أن تدخل إلى المدرسة وتبدأ مسيرتها التعليمية، تعرضت لأبشع وأقسى أنواع التنمر، ليس من قبل زملاؤها، وإنما من معلمتها التي خرجت من الفصل، وأخبرتها بأنها لن تتواجد في الفصل طالما هي موجودة”، ويضيف: “بالرغم من أن حالة الفتاة الصحية تحسنت عندما انتقلت إلى ألمانيا وتلقت رعاية طبية ونفسية كبيرة، إلا أنها لا زالت تتألم مما مرت فيه سابقًا، وذلك ما دفعها في مرة من المرات إلى محاولة الانتحار”.
ولا شك أن هذه القصة المختصرة واحدة من ملايين القصص التي يواجهها هؤلاء المرضى وغيرهم من الأشخاص الذين يعانون من إعاقة معينة أو تشوه واضح للعين، فما بين مشاعر الحرج والخجل والاكتئاب والقلق والخوف من ردود فعل الآخرين، تصبح هذه الأمراض مدمرةً بالنسبة للمصابين من ناحية التجارب الاجتماعية.
تشير تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن نحو 80 شخصًا مصابًا بالمهق قتلوا منذ عام 2000 في هجمات استهدفتهم على نحو شخصي، من أجل استخدام أجزاء من أجسادهم في خرافات ووصفات لجلب الحظ والثراء
على سبيل المثال، مرض البهاق الذي يسبب ظهور بقع بيضاء أو فاتحة اللون على أجزاء مختلفة من الجسم، وينتشر بنسبة 1% بين سكان العالم، وبالرغم من أنه مصنف كمرض تجميلي لأنه لا يؤثر على صحة المصاب به، إلا أنه يسبب مشاكل نفسية واجتماعية عدة. يضاف إلى ذلك، بأنه واحد من الأمراض التي عرفت سابقًا في العالم القديم، وذلك بحسب الأوصاف والصيغ التي وجدت في الأدبيات الطبية الكلاسيكية في الحضارة الهندية والبوذية، وذكرت أن التعامل مع المصابين بهذا المرض كان قاسيًا إلى حد كبير، ففي الغالب كان يتم نفيهم وإقصاؤهم اجتماعيًا. وهذا ليس غريبًا عما يتعرض له مرضى البهاق الآن في بعض المناطق من العالم على نحو أسوأ.
ففي مالاوي، يتم قتل مرضى البهاق بالمناجل والسكاكين لاستغلال أجسادهم وبيع أعضائهم للمشعوذين الذين يستخدمونها في جرعات الشفاء والشعوذة. يتكرر هذا الوضع في تنزانيا بكثرة، ولكن بالنسبة لمرضى المهق، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن نحو 80 شخصًا مصابًا بالمهق قتلوا منذ عام 2000 في هجمات استهدفتهم على نحو شخصي، من أجل استخدام أجزاء من أجسادهم في خرافات ووصفات لجلب الحظ والثراء، وذلك عدا عن ضعف الرعاية الصحية والوعي المجتمعي بمضاعفاته. فبالإضافة إلى السخرية الاجتماعية والجروح النفسية العميقة، يبقى هؤلاء خائفين طوال الوقت من الهجمات الفجائية والاعتداءات المميتة.
محاولات فردية تشجع التنوع والاختلاف والتقبل الاجتماعي
لوحظت بعض المحاولات الحديثة لدمج مرضى البهاق بالمجتمع ورفع الوعي بشأن وضعهم الصحي والنفسي لإيجاد أرضية مشتركة معهم ومساعدتهم على التغلب على القلق الاجتماعي، وهي في الغالب محاولات فردية استطاعت بجرأتها وشجاعتها تغيير قواعد ومعايير الجمال في العالم، بعد أن تجاوزت جميع الإهانات الاجتماعية.
قررت إحدى الشركات إطلاق دمى مع بقع بيضاء على جلدها، باسم “أنا جميلة”، بهدف تذكير الأطفال المصابين بهذا المرض بأنهم جميلون، فلقد أرادت هذه العلامة التجارية تمثيل كل شخص لم يتم تمثيله اجتماعيًا من قبل
مثل عارضة الأزياء الكندية، ويني هارلو، التي اقتحمت أهم وأكبر المهرجانات السينمائية والدعائية، في محاولة منها لقلب الصورة النمطية عن الجمال المألوف، وإلى جانبها الممثلة ليليتي خومالو، التي اعتادت لسنوات طويلة أن تخفي بقع البهاق بالمكياج، ولكنها قررت إظهار بشرتها في إحدى مسلسلاتها بهدف تثقيف الناس حول البهاق وكيفية التعامل معه واستيعاب تواجده في كل مجالات الحياة، وحتى الإعلامية منها، التي تعتمد بشكل أساسي على مظهر المقدم أو الممثل.
ونتيجة لهذه الجهود الشخصية، قررت إحدى الشركات إطلاق دمى مع بقع بيضاء على جلدها، باسم “أنا جميلة”، بهدف تذكير الأطفال المصابين بهذا المرض بأنهم جميلون، فلقد أرادت هذه العلامة التجارية تمثيل كل شخص لم يتم تمثيله اجتماعيًا من قبل، إذ يستحق كل طفل أن يرى نفسه في الألعاب التي يلعب بها ويقضي طفولته معها، حتى يستطيع تقبل نفسه ومواجهة المجتمع على نحو أفضل.
في محاولة أخرى تختص بمرض المهق الذي ينتج عن غياب أو شبه غياب صبغات العين والجلد والشعر، قدم المصور، جاستن دينغوول، سلسلة من الصور لأشخاص مصابين بهذا الداء، بهدف استكشاف جمالياته والتصدي للأفكار والتصورات الاجتماعية السلبية عنه، إذ يقول دينغوول: “أردت تكوين مجموعة من الصور يتردد صداها لدى الإنسانية وتدفع الناس إلى التساؤل بشأن ما هو جميل. أرى أن التنوع هو ما يجعل الإنسانية شيقة وجميلة”.
ومع اقتصار هذه الجهود على العالم الغربي، يظل المرضى في المنطقة العربية عرضة للمفاهيم الخاطئة والمواقف السلبية، فعلى الرغم من عدم وجود أي أرقام رسمية حول أعداد المصابين إلا أن المناخ الحار والطقس المشمس في بعض البلدان العربية مثل دول الخليج وشمال أفريقيا، يمكن أن يدلل على وجود نسبة ليست بسيطة، ولا سيما أن سكان المناطق الحارة أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بمرض البهاق مثلًا.
ما يعني أن المنطقة العربية من أكثر الأماكن احتياجًا لدعم هذه الفئة نفسيًا واجتماعيًا، وتوفير المشاريع اللازمة لاستعراض هذه المشكلة والحديث عنها بانفتاح ووعي كبيرين، كي لا ينضم هؤلاء المرضى إلى الفئات المستبدة والمهمشة اجتماعيًا.