ترجمة وتحرير: نون بوست
أقام الجيش الإسرائيلي قرية استجمام للجنود المنهكين على ساحل غزة، غير بعيد عن جباليا التي دأب هؤلاء الجنود أنفسهم على تدميرها بشكل منهجي خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
هذه القرية ليست سوى تذكير بشع بمدى ابتعاد دولة إسرائيل ومعظم شعبها عن القيم الإنسانية المشتركة.
بالتزامن مع ذلك، قتلت إسرائيل المزيد من الفلسطينيين، ودمرت مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا بالكامل، وقتلت واختطفت طاقمه ومرضاه، ونقلت المصابين بجروح خطيرة إلى مستشفيات أخرى تعترف وسائل الإعلام الغربية ذاتها بأنها لم تعد تعمل.
تم اقتياد الطاقم الطبي إلى وجهة مجهولة، ربما إلى سجن “سدي تيمان”، الذي قُتل فيه الدكتور عدنان البرش، جراح العظام وخريج كلية الملك بلندن، والذي اختطفته إسرائيل. ووفقًا لفرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد تم اغتصابه حتى الموت.
يلخص الدكتور حسام أبو صفية مدير مستشفى كمال عدوان بطولة الفلسطينيين، وتفيد التقارير أنه تعرض للضرب بالهراوات والعصي أثناء اعتقاله.
في أكتوبر/ تشرين الأول، قُتل إبراهيم نجل الدكتور أبو صفية على يد الإسرائيليين، وأصيب الدكتور أبو صفية في غارة بطائرة مسيرة، لكنه بقي مع طاقمه ومرضاه حتى النهاية. لا يُعرف مكان وجوده حاليا، لكن من الواضح أن نهايته قد لا تختلف عن مصير الدكتور عدنان البرش.
تقدم قرية الاستجمام الإسرائيلية للجنود المنهكين وجبات إفطار تتكون من القهوة المثلجة والخبز المحمص والمشروبات المنكهة، ووجبات غداء وعشاء تتضمن المشاوي والفطائر والكعك المملح الطازج والمارينغ الذي يُقدم مع القهوة.
توجد في القرية غرف تدليك لإزالة الإرهاق، وعيادات طبية متنقلة لإجراء الفحوصات، وحمامات وإنترنت وإمدادات غير محدودة من الحلوى والمياه العذبة، ووسائد للاسترخاء، وأجهزة بلاي ستيشن للتسلية، وفاكهة وآيس كريم “عندما يكون الطقس حارًا”.
المسافة من تل أبيب إلى غزة لا تزيد عن 80 كيلومترًا، ويمكن للجنود أن يستمتعوا بوقتهم هناك ليلا ونهارا. لكن في تل أبيب، لا يمكن رؤية الدمار ولا سماع صرخات المصابين والمكلومين.
أما قرية الاستجمام الجديدة فهي قريبة من جباليا، التي أمضى الجنود الإسرائيليون الأشهر الثلاث الأخيرة في تدميرها، قبل أن يحصلوا على قسط من الراحة في القرية. بعد يومين من عيد الميلاد، اقتحم الجيش الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان ودمر وحداته التخصصية وقتل خمسة من طاقمه الطبي، واقتاد آخرين بملابسهم الداخلية وأخرج 350 شخصًا في البرد. كما قُتل خمسون شخصًا في غارة جوية عندما كانوا يحتمون بمبنى مجاور للمستشفى.
شبّه الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي هذه القرية بأحداث فيلم (The Zone of Interest) للمخرج جوناثان غليزر، إذ يعيش القائد النازي رودولف هوس وزوجته وأولاده على مشارف معسكر أوشفيتز؛ ويمكن سماع صرخات بعيدة وطلقات نارية وأصوات قطارات، بينما يقضي الأطفال في الحديقة أفضل الأوقات وتعتني الزوجة بالنباتات وتتحدث مع الزوار في أجواء شاعرية.
غير بعيد عن قرية الاستجمام الخاصة بالجنود الإسرائيليين في غزة، وبالقرب من حفلات الشواء، يموت الأطفال من البرد والجوع، ويتعرضون لإطلاق النار من القناصة، وتتمزق أجسادهم الصغيرة بالصواريخ وقذائف الدبابات.
تحوّلت غزة إلى محمية لصيد البشر؛ حيث يقوم الجنود الإسرائيليون باصطياد فرائسهم، ثم يذهبون إلى قريتهم للاستجمام وإزالة الإرهاق والاسترخاء على الوسائد الناعمة.
تحتفل إسرائيل بسلسلة “الانتصارات” التي حققتها هذا العام، وهو الوصف الذي يُطلقه مسؤولوها على الإبادة الجماعية في غزة، وقتل آلاف المدنيين في لبنان، واستغلال الأزمة في سوريا لسرقة المزيد من الأراضي، وشن ضربات صاروخية على اليمن، والاستعداد للهجوم على إيران.
يعتقد نتنياهو أنه المحارب اليهودي الذي سيصنفه التاريخ في مصاف العظماء، بينما سيذكره التاريخ كمجرم حرب حقير، وقاتل جماعي جبان للنساء والأطفال.
هناك قضية وهناك معركة. فلسطين هي القضية وإسرائيل لن تستطيع تصفيتها أبدًا. وغزة هي المعركة، وفشلت إسرائيل رغم كل قوتها المسلحة في هزيمة حماس بعد 15 شهرًا من الحرب. المعركة الأخرى التي خسرتها إسرائيل بشكل شامل وحاسم هي معركة كسب الرأي العام العالمي، وهذه هي الأرض التي لن تستعيدها أبدًا مهما طال أمد سيطرتها على فلسطين.
حتى لو لم تعد حماس قادرة على إطلاق أي رصاصة، فإن القضية ستستمر عبر الأجيال القادمة. فالشباب الفلسطيني الذي نجا من غزة وأبناؤهم وأحفادهم لن ينجبوا عرفات أو محمود عباس المنبوذ، ولن يضيعوا المزيد من الوقت في “عملية سلام” أخرى وفخ قاتل جديد. سيكون الرمز والنموذج للأجيال القادمة هو يحيى السنوار، وسيكون شعارهم “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.
لن يستطيع العالم أن يتحمل دولة مثل إسرائيل، مثلما لم يستطع أن يتحمل ألمانيا النازية. فإسرائيل المسعورة الخارجة عن القانون لا تختلف بتاتا عن ألمانيا النازية، لكن يبدو أن العالم الغربي، مثلما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، لن يتعلم الدرس إلا بعد فوات الأون.
ذات مرة، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك إن إسرائيل عبارة عن “فيلا” وسط غابة. لكن إسرائيل بالطبع ليست “فيلا”، بل هي دولة إبادة جماعية تمارس الفصل العنصري، وهي التي خلقت “الغابة”، واختارت أن تعيش بـ”قانون الغاب”، وليس وفق القوانين البشرية.
“الفيلا” هي قرية الاستجمام التي أقيمت في غزة، و”الغابة” هي الجحيم الذي صنعه الجنود الإسرائيليون على مسافة قصيرة، حيث يتضور الأطفال جوعًا ويموتون من البرد، بينما يأكل الإسرائيليون الفطائر البلجيكية.
هذا المثال الحي لـ”تفاهة الشر”، المفهوم الذي ابتكرته الكاتبة اليهودية حنا آرنت في ستينيات القرن الماضي، مجرد تكرار لقصة فيلم (The Zone of Interest)؛ حيث ينظر رودولف هوس من نافذة الفيلا إلى أطفاله الذين يلعبون في الحديقة وإلى زوجته التي تقطف الزهور، بينما يتم إبادة المعتقلين في المعسكر خلف الجدار مباشرة.
قال المخرج جوناثان غليزر في كلمته بعد الفوز بجائزة الأوسكار عن الفيلم: “كل اختياراتنا كانت من أجل أن نعكس واقعنا وما نواجهه في حاضرنا، ولم يكن الهدف أن ننظر إلى ما فعلوه في الماضي، بل أن ننظر إلى ما نفعله الآن”. كانت غزة حاضرة في ذهنه كمثال حالي يُظهر “ما قد يؤدي إليه التجرد من الإنسانية في أسوأ مظاهره”.
أُعدم رودولف هوس بسبب جرائمه، وقد وجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لنتنياهو بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لكن عندما تحدث أمام الكونغرس الأمريكي في يوليو/ تموز 2024، قاطعه التصفيق مرارا، وهو بالتأكيد ما كان سيُستقبل به هوس لو كان يتحدث في تجمع للحزب النازي.
خلف أوهام “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” و”الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، أضفى الغرب الطابع الإنساني على سلوك إسرائيل اللاإنساني منذ عقود، ولم تُحاسب إسرائيل على جرائمها أبدًا، بل تمتعت بحرية مطلقة في الاستمرار بارتكابها، إلى درجة أنها ترتكب الإبادة الجماعية حاليا على مرأى ومسمع من العالم، وكأنها واثقة من أنها تستطيع الإفلات من العقاب بفضل حماية الولايات المتحدة. إن ما يكشف عنه انهيار الأخلاق هو “التجرد من الإنسانية في أسوأ مظاهره”.
يبدو أن هناك من يفهم الرسالة، إذ تشير التقديرات إلى أن نصف مليون إسرائيلي غادروا البلاد منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولن يعود الكثير منهم على الأرجح؛ فليس هناك إنسان “طبيعي” يريد العيش في بيئة من الصراع الدائم والمخاطر التي لا تنتهي.
ينفصل الفارّون من إسرائيل عن شعب يريد القضاء على عدوه تمامًا والاستيلاء على أرضه، ويستخدم
أي وسيلة لتحقيق أهدافه، المجازر والقنص والهجمات الصاروخية وقصف المستشفيات وحرق النساء والأطفال أحياءً والاغتصاب في السجون، فالغاية تبرر الوسيلة.
هذا المجتمع “طبيعي” بمعنى واحد فقط، وهو أنهم يتشاركون جميعا نفس الآراء، وهي “حياة طبيعية” لشعب تعرض لغسيل دماغ كامل، وتم تحريضه باستمرار من المتطرفين الذين يجلسون في الكنيست ويشغلون مناصب حساسة في الحكومة الإسرائيلية.
لكن أولئك الذين لا يشعرون بأنهم “طبيعيون” في هذا الوضع، والذين يشعرون بالاشمئزاز من الجرائم التي تُرتكب باسمهم، يستنتجون أنه ليس لهم ولا لعائلاتهم مكان ولا مستقبل في إسرائيل.
ومع ارتفاع أعداد المهاجرين إلى الخارج، فإن إسرائيل التي تخوض حربًا في الداخل وتتعرض لتهديدات خارجية، سوف تنحسر أكثر فأكثر لتتحول إلى معقل فاشي ثيوقراطي – مسادا جديدة -، دولة مكروهة من العالم ومحكوم عليها بالانهيار.
هذا ما يبدو عليه المستقبل ما لم يكن هناك تحول داخلي دراماتيكي عن الاتجاه الذي تسير فيه إسرائيل منذ عقود، ويبدو أن هذا لا يلوح في الأفق في الوقت الحالي.
لقد أقنعت “انتصارات” العام الماضي الزمرة الحاكمة بأن النصر الكامل على جميع أعداء إسرائيل في متناول اليد.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن شريكة إسرائيل في جرائمها، الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن أن تغير موقفها في أي وقت، وقد ينفد صبرها مع إسرائيل في نهاية المطاف، لكن هذا سيحدث فقط إذا لم تعد إسرائيل تخدم مصالحها الاستراتيجية.
المصدر: فلسطين كرونيكل