فتحت دمشق منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي أبوابها لاستقبال مسؤولين عرب وإقليميين ودوليين، لعقد اجتماعات ولقاءات مع الإدارة الجديدة التي يقودها أحمد الشرع.
كما تلقت الإدارة الجديدة منذ ذلك التاريخ، اتصالات مكثفة من أطراف عدة تبحث عن استكشاف المرحلة الجديدة في سوريا وبناء علاقات مع القيادة الحالية، لكن في المقابل سجلنا غياب بعض الدول العربية عن ساحة الفعل في سوريا، ومن ضمنها تونس التي تعد مهد الثورات العربية.
رغم مرور نحو شهر على هروب بشار الأسد إلى روسيا وتغير القيادة في سوريا، لم نشهد إلى الآن أي اتصال رسمي لا من الحكومة ولا من الرئاسة التونسية بالقيادة السورية الجديدة، في الوقت الذي سارعت أغلب الدول العربية إلى الانفتاح والترحيب بالقيادة الجديدة والتعبير عن الارتياح تجاهها.
علاقات سعيد ببشار
المتابع للدبلوماسية التونسية في عهد الرئيس قيس سعيد لن يستغرب كثيرًا الموقف التونسي تجاه ما يحدث في سوريا من تغير جذري في الفترة الأخيرة، تغير طال انتظاره ودفع مئات الآلاف من السوريين أرواحهم فداءً له.
نتذكر جميعًا، كيف عبّر الرئيس التونسي عن دعمه لبشار في ذروة حرب التحرير التي قادتها الفصائل المسلحة، فقبل 4 أيام فقط من سقوطه وتحرير العاصمة دمشق، عبّر نظام سعيد عن إدانته الشديدة لما اعتبرها “الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا”، معلنًا تضامنه مع النظام السوري، داعيًا المجموعة الدولية إلى “مساندة هذا البلد الشقيق، حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه”.
في ذلك الوقت لم يساند بشار إلا قلة قليلة بما فيهم مهندس عودته إلى الجامعة العربية، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وكان نظام بشار قد استعاد مقعده الشاغر في الجامعة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2011، يوم 7 مايو/أيار 2023.
كانت تونس من أوائل الدول التي أغلقت سفارتها في دمشق مطلع سنة 2012، إلا أن الوضع تغير مع انفراد سعيد بالحكم في صيف 2021، إذ سارع النظام التونسي إلى مد يده لنظام بشار في مسعى منه لفك عزلته، وفي سنة 2022، التقى سعيد بوزير خارجية نظام الأسد، فيصل المقداد، على هامش زيارتهما إلى الجزائر بمناسبة الذكرى الـ60 للاستقلال، وطلب منه “نقل تحياته إلى بشار الأسد”، وقال سعيد للمقداد حينها: “إن الإنجازات التي حققتها سوريا، وكذلك الخطوات التي حققها الشعب التونسي ضد قوى الظلام والتخلف، تتكامل مع بعضها لتحقيق الأهداف المشتركة للشعبين الشقيقين في سوريا وتونس”.
وبعد هذا اللقاء بسنة، قرر قيس سعيد رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في سوريا وإعادة فتح السفارة التونسية في دمشق، مجددًا تأكيد وقوف بلاده إلى جانب دمشق في وجه من يصفهم بقوى الظلام والساعين إلى تقسيم هذا البلد العربي.
ومن المهم الإشارة إلى أن بشار الأسد كان من بين القادة القلائل الذين هنأوا قيس سعيد بفوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في تونس أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ووصفتها المعارضة التونسية بالمسرحية التي تفتقد إلى أبسط مقومات النجاح.
تقاطع في الأهداف والحلفاء
نفهم من هنا أن العلاقات بين بشار وسعيد كانت قوية في الفترة الأخيرة، نظرًا لتقاطع الأهداف والتوجهات والحلفاء أيضًا، فكلاهما يعادي الحريات ويشتركان في قمع المعارضة والتنكيل بها وغلق الفضاء العام والافتراضي أمام كل نفس معارض للنظام.
صحيح أن سعيد لم يتورط في قتل شعبه كما فعل الأسد طيلة السنوات الماضية، إلا أنه ملأ السجون بالسياسيين والإعلاميين والنشطاء ووجه لهم تهمًا لم يستطع إلى الآن إثباتها عليهم، ومنع أي حديث في الشأن العام ووصف كل من يعارضه بالمتآمرين والخونة.
من أهداف سعيد القضاء على الإسلام السياسي وهو نفس توجه بشار أيضًا، فهما يشتركان في هذه النقطة، وهو ما يفسر التقارب الكبير بينهما، ويرجع كلاهما مشكلات بلديهما والأزمات المتواصلة إلى التيارات الإسلامية رغم أن التجربة أثبتت عكس ذلك.
يشترك سعيد وبشار في الحلفاء والأصدقاء أيضًا، فمثلًا تعتبر الجزائر أبرز حليف عربي للنظام التونسي وكانت داعمة لنظام بشار كذلك، فتبون من أشد المدافعين على نظام سعيد والأسد، كونهما يعاديان الثورات العربية ويحملان نفس توجهاته.
كما شهدت الفترة الأخيرة تقارب نظام سعيد مع إيران وروسيا والصين، أبرز حلفاء لنظام الأسد ومن أهم أسباب بقائه في السلطة. ليس هذا فحسب، إذ يعادي نظام سعيد أبرز أعداء نظام المخلوع، ونعني بذلك قطر وتركيا على المستوى الإقليمي، والولايات المتحدة على المستوى الدولي، أي أنهما يشتركان أيضًا في الأعداء وليس فقط في الحلفاء.
مستقبل العلاقات بين البلدين
لم تعبّر تونس صراحة عن دعمها لما حصل في سوريا، ولم تتواصل مع القيادة السورية الحالية واكتفت منذ هروب بشار بإصدار بيان دعت فيه إلى “ضرورة تأمين سلامة الشعب السوري والحفاظ على الدولة السورية دولة موحدة كاملة السيادة بما يحميها من خطر الفوضى والتفتيت والاحتلال”.
بالنظر إلى ما سبق قوله يمكن أن نفهم الموقف التونسي، لكن السؤال المطروح الآن يتمحور حول أفق العلاقات بين البلدين مستقبلًا في ضوء انتصار الثورة السورية. من الصعب الجزم بجواب واحد عن هذا السؤال خاصة أن سعيد معروف بتحولاته الكبيرة وعدم التزامه بمبدأ واحد.
يمكن القول إن سعيد لن يبادر بالتواصل مع القيادة الجديدة وسيلتزم الصمت، خاصة أن من يقود سوريا حاليًا إسلاميون، الذي يبدو أن سعيد يعاديهم ويرى أنهم سبب البلاء في تونس والمنطقة العربية ككل، لكن يمكن أن يضطر نظام سعيد للتواصل مع إدارة الشرع بحكم الأمر الواقع، ذلك أن تونس تترقب عودة عشرات المقاتلين السابقين من سوريا، ولا يمكن لها أن تتحرك في هذا الموضوع بمفردها وتحتاج لمساعدة الحكومة السورية الجديدة.
وقبل يومين، أعلنت شركة الخطوط التونسية أنه سيجري استقبال الرحلات القادمة من تركيا في محطة منفصلة عن مطار تونس قرطاج الدولي الرئيسي، وذلك لإخضاع المسافرين القادمين من تركيا إلى إجراءات تفتيش دقيقة بمحطة جمارك منفصلة، خشية عودة مقاتلين من سوريا.
الترحيب العربي بالإدارة السورية الجديدة، خاصة من مصر والسعودية وعدم معارضة الجزائر لما حصل في بلاد الشام، يمكن أن يشجع نظام قيس سعيد على التواصل مع حكومة محمد البشير، لكن من المؤكد أنه سيبقى تواصلًا محدودًا.
يرى نظام سعيد أن نظام الأسد ضحية مؤامرة عالمية هدفها تقسيم العالم العربي ومد نفوذ الكيان الصهيوني، إلا أنه تغافل عن حقيقة موجعة مفادها حماية آل الأسد للحدود الإسرائيلية طيلة عقود طويلة وعدم تحركهم لتحرير الجولان المحتل.
الأيام القليلة القادمة ستكون كفيلة بالإجابة عن تساؤلاتنا، لكن سواء تواصل سعيد مع الحكومة السورية أم لم يفعل، فلن يغير الأمر شيئًا في سوريا الجديدة، ذلك أن تونس في عهد سعيد لم تعد دولة فاعلة في المنطقة.